الآن وقد مضت الانتخابات الرئاسية في تونس منذ السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يبدو الفضاء العام التونسي ساكنًا وساحة خالية إلا من فاعل وحيد هو الرئيس قيس سعيد.

لم تعرف تونس مشهدًا شبيهًا أو يقترب من هذا في أي فترة من فتراتها السابقة في الزمنين الاستبداديين لبورقيبة وبن علي، فضلًا عن عشرية الحريات والديمقراطية التي توزعت فيها السلطة في المركزي وبين المركزي والمحلي.

يوحي المشهد اليوم بأن أشياء كثيرة قد حصلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الحكم المطلق لقيس سعيد على مستويات عديدة مؤثرة في النظام السياسي، وفي المجتمع المدني، تطرح نتائجها سؤالًا ربما يلخص الجواب عنه كل شيء فيما يتعلق براهن تونس ومستقبلها.

السؤال هو: هل أعاد قيس سعيد الدولة للشعب لتكون خادمة له، أم جعل الشعب في خدمة دولة اختزل كل فضاءاتها وأبعادها في شخصه فقط؟

مفارقات

بدأ قيس سعيد حضوره في الفضاء العام في السنوات الأولى من عشرية الانتقال الديمقراطي بصفته خبيرًا في القانون الدستوري. كان وقتها يطوف بكل حرية على المنابر الإعلامية للإدلاء بآرائه، خاصة في القضايا ذات الصلة بدستور الثورة (2014).

ولم يكن  يعبّر وقتها عن فكر مغاير لما هو سائد في فضاءات المجلس الوطني التأسيسي في القضايا الكبرى للدستور، بل كان من المدافعين عن بعض فصوله، ومنها الفصل المتعلق بحرية الضمير، وتجريم التكفير، فضلًا عن قضايا أخرى تتصل بالنظام السياسي والعلاقة بين السلطات.

تجلى انسجام قيس سعيد مع دستور 2014 عندما عارض مقترح سلفه الراحل الباجي قائد السبسي سنة 2016 للاستفتاء وتعديل الدستور، معتبرًا وقتها “المبادرة مسًا بمكانة الدستور وتفتح الباب أمام تعديله بتغير التوازنات السياسية”. وقال وقتها جملة قانونية مهمة: “ما قيمة الدساتير إن كانت تتغير بمجرد تغير التوازنات”؟

لم يبقَ قيس سعيد طويلًا في جلباب الخبير في القانون الدستوري لينتقل بسرعة إلى سياسي يعرض جملة من الأفكار “الجديدة” تتحدث عن “تأسيس جديد” للدولة والمجتمع.

وبدون الدخول في تفاصيل “العرض السياسي” لقيس سعيد وقتها، يمكن إجمال ملامحه الكبرى في جملة من المسائل قال سعيد إنها ستفتح على تاريخ جديد منها البناء القاعدي الذي سيغير مسار القرار من المحلي إلى المركزي بدلًا من المركزي إلى المحلي. ومنها أن الدستور هو ما كتبه الشباب على الجدران، وأن برنامج الحكم يحدده الشعب، ودور الحاكم هو تمكينه من الآليات القانونية لتحقيق ما يريد.

يقتضي هذا “التأسيس الجديد” من وجهة نظر سعيد إلغاء الانتخابات التشريعية والمجلس التشريعي، وإلغاء الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني عبر تهميشها والتضييق عليها، وإلغاء كل الأجسام الوسيطة حتى تصبح العلاقة بين ممثلي الشعب المحليين والحكم المركزي علاقة مباشرة.

بعد ثلاث سنوات من الحكم المطلق وبعد انتخابات رئاسية (2024) شابها العديد من الخروقات والتجاوزات جعلت منها بيعة أكثر منها انتخابات تنافسية – بيعة أقلية (28.8%) في غياب الأغلبية (71.2%) – بدأت تتضح ملامح المسار الذي تتجه إليه الحالة التونسية في ظل حكم قيس سعيد.

مسار من التدحرج المتواصل

المؤشرات على هذا المسار عديدة، وسنتوقف عند أهمها، وهي أربع: الاستفتاء وتعديل الدستور، النظام السياسي، منهج الحكم، وبرنامج الحكم.

1- الاستفتاء وتعديل الدستور: من الاعتراض إلى الاعتماد

كان قيس سعيد، خبير القانون الدستوري، من أشد المعترضين على الاستفتاء وتعديل الدستور، حيث قال في مقابلة له مع القناة الوطنية الأولى بالتلفزيون التونسي في 28 أبريل/نيسان من سنة 2013: “بأن الاستفتاء كما يمكن أن يكون أداة لتحقيق الديمقراطية، يمكن أن يكون أداة شكلية في الواقع لإضفاء مشروعية على جملة من الاختيارات التي تمت وحُسمت”.

أما فيما يتعلق بتعديل الدستور، فقد قال: “لست أنا من يقرر، بل السلطة التشريعية هي من تقرر تعديل الدستور من عدمه وتتحمل مسؤولية ذلك. أنا لست مشرّعًا”.

هكذا كان يبدو قيس سعيد منسجمًا مع الخيار الديمقراطي إلى حدود 2019، سنة انتخابه رئيسًا للجمهورية التونسية، لينتقل من الخبير في القانون الدستوري المنسجم مع المنهج الديمقراطي ودستور الثورة (2014) إلى السياسي المناور الذي دخل في لعبة السياسة وبدأ يبحث عن تثبيت حكمه من داخل المنظومة أولًا، ثم من خارجها ثانيًا، حتى جاءت لحظة 25 يوليو/ تموز 2021 التي انقلب فيها على نفسه، كما انقلب على الدستور الذي أقسم على احترامه، وأدخل البلاد في حالة استثنائية خارج أي شرعية إلا شرعية الأمر الواقع.

بعد أسابيع قليلة من انقلابه، وبالتحديد في 22 سبتمبر/ أيلول 2021، أصدر المرسوم الرئاسي رقم 117 الذي أعلن فيه عن الإجراءات الاستثنائية التي سيدير بها البلاد بعد أن عطّل مجلس نواب الشعب، وعلّق أشغاله ونزع صلاحياته التشريعية، وبعد أن حلّ الحكومة وبقي يدير شؤون الحكم منفردًا من خلال المراسيم.

لم يكتفِ قيس سعيد بذلك، بل أعلن تشكيل لجنة من الخبراء في القانون الدستوري أوكل إليها مهمة إعداد مشروع دستور جديد، لم يجد حرجًا لاحقًا في الرمي به في سلة المهملات ليخرج من درج مكتبه الرئاسي مشروع دستور كتبه بنفسه ولنفسه.

وفي خطوة أخرى من التدحرج، دعا قيس سعيد التونسيين لاستفتاء حول دستوره في 25 يوليو/ تموز 2022، لم يشارك فيه غير 27.54% من الناخبين المسجلين، حسب تصريحات هيئة الانتخابات، بحيث تجاوز سعيد تعديل دستور 2014 إلى استبداله بدستور جديد.

2- النظام السياسي: من الديمقراطية التمثيلية إلى التمثيل القاعدي

دخل قيس سعيد الحكم في 2019 رئيسًا في نظام سياسي برلماني مختلط، تمثّل الحكومة والبرلمان مركز ثقله، ويختص فيه رئيس الجمهورية بجملة من الصلاحيات في مجالات مهمة وحيوية، مثل: الأمن القومي، والدبلوماسية، والدفاع، إضافة إلى أولوية نظر مجلس النواب فيما يقدمه من مشاريع قوانين.

لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ كرسي الرئاسة يضيق بقيس سعيد، وبدأ طموحه يتزايد في توسيع نفوذه في منظومة الحكم وتأثيره في المشهد السياسي العام، مستغلًا في ذلك أزمة كوفيد-19، وارتباك الحكومة في إدارتها، وصعوبات الأوضاع الاقتصادية، وأخطاء السياسيين والصراعات في مجلس النواب، ليصنع من كل ذلك أزمة حادة اعتمدها مسوّغًا لقيامه بانقلابه في 25 يوليو/ تموز 2021.

لم يكن حرص قيس سعيد على توسيع نفوذه من أجل إصلاح الأوضاع تحت سقف دستور 2014، وضمن النظام السياسي البرلماني المختلط، بل ظهر أنه استغلّ الظروف وأدوات الحكم ليصنع سردية الخطر الداهم الذي يمثله البرلمان أولًا، ثم الخطر الجاثم على الدولة منذ عقود ثانيًا، ليمضي بيد مفتوحة إلى تأسيس حالة سياسية جديدة بنظام رئاسي خالص وتمثيل قاعدي.

3- منهج الحكم: من محورية المحلي إلى مركزية مغلّظة

حاول قيس سعيد تسويغ خياره في منهج الحكم بحرصه على إعادة الشعب إلى قلب العملية السياسية من خلال البناء القاعدي المحلي، وبأن يكون مسار القرار منطلقًا من المحلي نحو المركزي وليس العكس.

هذه الصورة الوردية التي سوّق لها قيس سعيد في خطابه السياسي لم تكن إلا شعارًا بقي معلّقًا، بينما اتجهت ممارسته للحكم إلى تركيز نظام رئاسوي يجمع فيه الرئيس كل الصلاحيات والسلطات، لا حضور فيه للمحلي إلا من باب التجميل لا غير.

ولا أدلّ على ذلك أنّ المجلس الوطني للجهات والأقاليم، الذي تم انتخابه منذ سنة تقريبًا، لا يزال بدون قانون ينظم أعماله ويرتب علاقاته بالبرلمان، ويبيّن موقعه في مسار القرار عدا بعض الفصول العامة في دستور 2022. بينما اشتمل دستور 2014 على باب كامل (الباب السابع) ومنظومة قانونية كاملة أسّست للحكم المحلي باعتباره فاعلًا تنمويًا محليًا على أساس الديمقراطية التشاركية ضمن الخيار الديمقراطي العام بالبلاد.

يوحي السلوك السياسي لقيس سعيد وطريقته في إدارة الحكم بأنه لا مكان للمحلي فيما يقوم به الرئيس، الذي لم يتوقف عند تهميش عمل الحكومة والوزارات والإدارات، بل تعدّاه إلى إلغاء عمل المحافظين (الولاة) والمعتمدين والإدارات الجهوية من خلال زياراته المتكررة إلى بعض الجهات والمحليات وتقريره في كل شيء.

4- برنامج الحكم: من الشعب يريد إلى ما أُريكم إلا ما أريد

ربما امتلك قيس سعيد جاذبيته السياسية من خلال رفعه شعار “الشعب يريد وهو يعرف ما يريد”، وأن دور الحاكم هو تمليك الشعب الأدوات القانونية التي تمكّنه من تحقيق ما يريد. غير أن السيرة السياسية لقيس سعيد منذ انقلابه في 25 يوليو/ تموز 2021 تؤكد بكل وضوح أن هذا الشعار لم يكن أكثر من خطاب انتخابي، وأن المسار الذي انتهجه سعيد في إدارة الحكم على نقيض هذا الشعار بالكامل تقريبًا.

أبقى سعيد مطالب الشعب جانبًا، واتخذ لنفسه أجندة سياسية لتثبيت حكمه وإفراغ الساحة من المنافسين والمعارضين السياسيين والمدنيين. فلا حديث لسعيد إلا عن الخونة والعملاء ووكلاء الاستعمار والدوائر الصهيونية.

وأغلب مقابلاته محصورة تقريبًا مع وزيرَي العدل والداخلية، بينما بقيت المسائل الاجتماعية والمعيشية للمواطن خارج اهتماماته، رغم تعالي صيحات المواطنين من تراجع مقدرتهم الشرائية ومعاناتهم اليومية في طوابير البحث عن المواد الأساسية التي تكرر فقدانها من الأسواق، فضلًا عن الارتفاع الجنوني المستمر للأسعار، هذا بالإضافة إلى التراجع الكبير في خدمات المرفق العمومي في النقل، والصحة، والتعليم.

سعيد: ردّة لا أفق لها

ربما نجح قيس سعيد، الوافد من خارج الفضاء السياسي والفاقد لأي سيرة سياسية ونضالية، في تصفية مكتسبات الثورة والانتقال الديمقراطي فكرًا وقيمًا ومؤسسات ورموزًا، وفرْض تغيير قسري لهيئة الدولة من خلال دستوره (2022). غير أن هذا النجاح يخفي ردة كبيرة وقع فيها وأوقع فيها البلاد، تمثلت في:

  1. تركيز حكم رئاسوي تسلطي شديد التمركز حول الرئيس له صلاحيات واسعة ألغى به نظامًا ديمقراطيًا ناضلت من أجله أجيال من التونسيين عبر عقود.
  2. إلغاء الأجسام الوسيطة من مؤسسات دستورية رقابية وتعديلية وأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والإعلام، بعد أن كان هذا الفضاء السياسي والمدني، رغم علاته، مفخرة تونس باعتباره شريكًا في إدارة الشأن العام وسلطة تعديلية ورقابية.
  3. إلغاء تجربة الحكم المحلي التي استوعبت في انتخاباتها الأولى سنة 2018 الآلاف من الكفاءات التونسية المحلية من النساء والرجال والشباب وأصحاب الاحتياجات الخصوصية. استُبدلت هذه التجربة بمنظومة معقدة وبدون قوانين واضحة ترتبها.
  4. جعل التونسيين رعاعًا بلا أحزاب ولا منظمات تستوعبهم وتؤطرهم وتنظم حياتهم المواطنية، مقابل تركيزه على تعبئة مناصريه فقط في تنسيقيات خاصة بهم، وفي شركات أهلية أطلق لها اليد في الاستئثار بموارد الدولة المالية والعقارية بدون ضمانات.
  5. حالة العزلة الدولية التي أوصل إليها تونس نتيجة سياسة خارجية أدخلتها في لعبة المحاور أفسدت علاقاتها مع العديد من الأشقاء والأصدقاء. بالإضافة إلى سياسة داخلية عنوانها الاعتداء على الحريات والحقوق، وإخلاء الساحة من المعارضين، وتكميم أفواه الجميع.

تدحرجت تونس مع قيس سعيد إلى العزلة بعد أن كانت مثالًا لتجربة في الانتقال الديمقراطي تحققت فيها العديد من النجاحات والمكاسب، رغم متاعب المرحلة وخيباتها.

أضعفت هذه الردة وهذا التدحرج المتتالي، البلاد وأفقدتها الكثير من مقومات بناء حالة مستقرة تسمح بتحقيق التنمية المأمولة. وجعل هذا مستقبل تونس دون أفق، وفتح المجال واسعًا لانصراف المواطنين عن الاهتمام بالشأن العام، ودفع الكفاءات التونسية من أطباء ومهندسين وجامعيين وقضاة إلى الهجرة، كما فرض على رجال الأعمال إما الانكماش والتوقف عن الاستثمار أو غلق مؤسساتهم ومغادرة البلاد.

إذا ما تواصلت هذه الديناميكية، قد لا يتوقف قطار الردة والتدحرج إلا بانتفاضة شعبية تضع حدًا لأجندة شخصية في الحكم لا تلتف حولها إلا أقلية تتراجع كل يوم في غياب أغلبية عبّرت عبر صمتها عن خيبة أملها الكبيرة في قيس سعيد وقدرته على تغيير حياتهم نحو الأفضل.

خيبة قيس سعيد في “نجاحاته” الشخصية التي اختطف بها الدولة وأدواتها ووضع عليها يده بينما جاءت الثورة لتعيد الدولة إلى الشعب. فهل سينهي قيس سعيد ولايته الثانية التي بدأت في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version