أتاح سقوط الرئيس المخلوع بشار وزوال حكم عائلة الأسد في سوريا لسكان مدينة حماة أن يتحدثوا علناً لأول مرة منذ 43 عاما عن أهوال شهر لم يهدأ فيه لحظة واحدة قصف المروحيات والدبابات وراجمات الصواريخ.

وبدأت هذه المدينة على مدار الأيام الماضية مراسم إحياء ذكرى “الإبادة الجماعية” التي تعرض لها سكانها عام 1982 على يد قوات سرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد الشقيق الأصغر للرئيس الراحل حافظ.

وآن الأوان لسكان حماة للحديث عن مقتل العشرات من ذويهم بشكل جماعي، والانتهاكات الجسيمة التي تعرضت لها عائلاتهم، بعد أن عاشوا عقودا من الاستبداد السياسي والمجازر الوحشية، وعمليات القتل خارج القانون.

وقد ضجت المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي بمشاعر الابتهاج لسقوط حكم الأسد، على أمل أن تأخذ العدالة مجراها، وتقتص من القتلة، وتهدأ أرواح ضحايا المذبحة في قبورهم.

وكتب الدكتور جهاد اللجمي على منصة “حماة مباشر ” الإلكترونية أن مدينته “على موعد عبر كل نقاباتها وفعالياتها ورجالاتها، لإحياء ذكرى شهدائها، سنفرح بدل أن نبكي، وسنزغرد ونحن نلعن القتلة، وسنصرخ بأعلى أصواتنا نحن أولياء الدم، وسأعترف أمام القتلة بفخر أن أمي قدمت 6 شهداء، لنغلق جرحاً نزف 43 عاما”.

في حماة استأسد حافظ وقتل عشرات آلاف السوريين (الأناضول)

تفاصيل المجزرة

وكانت حماة قد تعرضت خلال فبراير/ شباط 1982 لمذبحة مروعة بعد أن حاصرها جيش الأسد من مختلف الجهات، وعزَلَها عن العالم الخارجي، وقطع عنها الكهرباء والماء وإمدادات الغذاء.

وكان ذلك على خلفية عصيان قامت به الطليعة المقاتلة لجماعة الإخوان المسلمين، في ختام صراع عنيف مع نظام حافظ، بدأ عام 1978، وانتهى بفصل من أكثر الفصول دموية في تاريخ سوريا الحديث.

وتروي مصادر للجزيرة أن وحدات الجيش النظامي نفذت قبل اقتحام حماة غطاء نارياً اشتركت فيه مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة، بما فيها سلاح الجو، وقامت بإنزال قوات مشاة ومدفعية فوق قلعة حماة وسط المدينة واحتلتها، لتبدأ بقصف الأحياء القديمة، المحاذية لضفاف نهر العاصي، وغيرها من الأحياء المجاورة.

وفي اليوم الثالث للهجوم، دخل نحو 12 ألف عنصر من قوات نخبة الأسد في سرايا الدفاع إلى المناطق التي تمت السيطرة عليها، وأخرجوا المواطنين من بيوتهم ثم بدؤوا يطلقون عليهم نيران مدافعهم الرشاشة، في عمليات إعدام جماعية ممنهجة، طالت الآلاف.

وفي ظل غياب رقم رسمي لعدد الذين سقطوا برصاص جيش الأسد، يرجح بعض سكان حماة مقتل أكثر من 60 ألف مدني، بينما تقدر مصادر حقوقية ومنظمات دولية مقتل 30 إلى 40 ألف مدني من الرجال والنساء والأطفال.

وقد دفنت القوات الحكومية أغلبهم في مقابر جماعية، على أطراف المدينة، بينما اعتقلت الآلاف وساقتهم إلى معسكرات اعتقال جماعية.

وتتوقع المصادر نفسها أن يكون قد تم إعدامهم، بعد أن ثبت بشكل قاطع عدم وجود أحياء منهم، عقب قيام إدارة العمليات العسكرية بتحرير جميع المعتقلين الذين كان نظام الأسد يحتجزهم داخل سجونه.

الذكرى الرابعة والثلاثون لمجزرة حماة

مقابر جماعية

طوال عقود، لم يكن بمقدور أحد من سكان حماة أن يتحدث عما رأى، أو يدلي بشهادة علنية تتعلق بما حدث، لخوفهم الذي زرعته قوات الأسد الأب في قلوب الشعب، وقد تواصل مع توريث الحكم لابنه المخلوع.

غير أن سقوط عائلة الأسد، وانتهاء زمن الخوف والرعب، كشف روايات ناجين من الموت، تورد تفاصيل صادمة لمجريات الهجوم الذي تعرضت له حماة على مدار شهر كامل.

فيقول سفيان كوجان إن قوات الأسد دخلت الحي الذي يقطنه بشكل منظم، وأعدمت عائلات بأكملها، وكانوا يُخرجون الرجال إلى الشارع، ويطلبون منهم الوقوف ووجوههم على الحائط وأيديهم إلى الأعلى ثم يطلقون عليهم الرصاص، ويغادرون إلى الحي الذي يليه وهكذا.

وبقي هذا المواطن الشاهد، وكان ابن 16 عاماً آنذاك، مختبئاً في زاوية مظلمة بإحدى الغرف، عندما دخل الجنود ليلاً لتفتيش منزل عائلته، وبحوزة أحدهم جهاز إضاءة يعمل على البطارية لانقطاع التيار الكهربائي عن حماة بشكل كامل، لكنهم غادروا دون أن يروه.

وحين سنحت له الفرصة للخروج من المنزل الأيام الأخيرة من الهجوم، تجول في بعض أنحاء الحي، وشاهد بيوتا مهدمة دفن أصحابها تحت الركام، ومنازل محترقة لم يتمكن قاطنوها من مغادرتها فاحترقوا داخلها.

قتلى من مجزرة حماة الدموية (الجزيرة-أرشيف)

وقال سفيان للجزيرة نت “شاهدت داخل الجامع الجديد بالسوق الطويل المجاور لنا مجموعة من الرجال الممدين على الأرض تم اعدامهم جميعا رميا بالرصاص، وفي حي سوق الشجرة شاهدت قتلى طاحونة البرغل، وقتلى الجامع، كما حضرت انتشال عشرات القتلى من قبو أحد أقاربنا، لجأ إليه الجيران خوفاً من قصف المدفعية وراجمات الصواريخ، وقد دخل الجيش إليهم وأعدمهم جميعاً ثم فجر المنزل بهم”.

كما روى أحد الناجين من مجزرة سريحين الجماعية -لفريق اللجنة السورية لحقوق الإنسان- كيف سيق الناس إلى مقبرة تم تجهيزها مسبقاً، ليتم اعدامهم.

وقال “كنت من ضمن هؤلاء الناس، حيث أمرنا بالنزول فنزلنا، وكان أول ما رأينا مئات الأحذية المتناثرة على الأرض، وأدرك الجميع أنها تعني مقتل مئات المواطنين من أبناء بلدنا، وأننا على الموت مقبلون”.

ويضيف: فتشونا وأخذوا الأموال القليلة التي كانت معنا، وجُردنا من ساعاتنا، ثم أمرتنا عناصر الجيش بالتقدم نحو الخندق العميق الذي يمتد أمامنا إلى مسافة طويلة، وأمر قسم آخر منا بالنزول إلى خندق مجاور.

ويتابع الشاهد: عندما تقدمت إلى موقعي أمام الخندق رأيت الجثث المتراكمة فوق بعضها ملطخة بالدم الحار، لقد كان مشهداً رهيباً لم أستطع تحمله، فأغمضت عيني وتحاملت على نفسي خشية الوقوع على الأرض. وحدث ما كان متوقعاً، انهال علينا الرصاص الغزير، وهوى الجميع إلى الخنادق مضرجين بدمائهم.

وختم بقوله “كانت إصابتي خفيفة، وقدر الله لي أن أنجو بأن صبرت حتى خلا المكان من الجزارين، وهربت متحاملاً على جراحي، وأنقذني الله من ذلك المصير”.

مقبرة شاهدة على مذبحة حماة التي اقترفها زبانية الأسد (الأناضول)

ملاحقة رفعت الأسد

ويتهم سكان حماة، ممن كتبت لهم النجاة من المذبحة مع منظمات حقوقية دولية تمتلك أدلة دامغة، رفعت الأسد (قائد قوات سرايا الدفاع) بارتكاب عمليات إبادة جماعية ضد المدنيين وجرائم حرب لم يسلم منها أحد.

وفي أغسطس/ آب 2023 أمرت المحكمة الجنائية الفدرالية السويسرية “إف سي سي” (FCC) مكتب العدل الفدرالي “إف أو جيه” (FOJ) بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق “الأسد رفعت”.

وجاءت المذكرة بناء على شكوى جنائية، تقدمت بها في وقت سابق منظمة ترايل إنترناشونال السويسرية غير الحكومية التي تعمل على مكافحة الإفلات من العقاب في الجرائم الدولية.

واستندت المذكرة إلى شهادات 3 مدعين ناجين من المذبحة، ومعلومات موثقة، تؤكد تورط الأسد في جرائم حرب واسعة النطاق أثناء الهجوم الذي شنه الجيش الحكومي على حماة.

وفي مارس/آذار 2024 أصدر مكتب المدعي العام السويسري لائحة اتهام ضد رفعت، تتهمه بإصدار أوامر قتل وتعذيب واعتقالات غير مشروعة، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وقال بينيديكت دي مورلوز المحامي المسؤول عن التحقيقات بالمنظمة “إن الأدلة الدامغة التي جمعتها المنظمة تثبت مسؤولية رفعت عن مجازر حماة وتدمر، كما تشير أيضاً للوحشية اللامحدودة التي ارتكبتها قواته خلال هجماتها على المدنيين”.

ويستند التحقيق الجنائي -الذي يخضع له رفعت أمام القضاء السويسري- إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يسمح للدول بالتحقيق مع المشتبه بهم في ارتكاب جرائم دولية، وملاحقتهم قضائياً، بغض النظر عن مكان ارتكابها وجنسية المشتبه بهم أو الضحايا.

ويرى المحامي أنور البني (رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية وأحد القائمين على القضية) أن مذبحة حماة كانت نقطة تحول في استيلاء عائلة الأسد على السلطة في سوريا.

وأضاف في تصريحات صحفية: بعيداً عن الملاحقة الجنائية الفردية لرفعت فإن هذه القضية تسلط الضوء أيضاً على مسؤولية شقيقه حافظ، وغيره من كبار المسؤولين بالنظام، وهو سبب آخر يجعل من الضروري الآن تحقيق العدالة لضحايا النظام.

وفي السياق ذاته، اتهم ريبال الأسد (نجل رفعت) -في حديث لمجلة نيوزويك الأميركية- وزير الدفاع الراحل مصطفى طلاس -الذي توفي في باريس عام 2017- بأنه متورط على مستوى عال في مذبحة حماة، إلى جانب لائحة قمع واسعة وطويلة الأمد في البلاد.

عميل للمخابرات الفرنسية

وكان رفعت الأسد قد فرّ من فرنسا في أكتوبر/تشرين الأول 2021 عائدا إلى سوريا، هربا من حكم بالسجن لمدة 4 سنوات أصدرته المحاكم الفرنسية طعنا في ذمته لاتهامه بارتكاب جرائم مالية مختلفة.

ونقلت مجلة نيوزويك -عن الصحفي جورج مالبرونو- قوله إنه سُمح لرفعت بمغادرة فرنسا بفضل عمله السابق مع المخابرات الفرنسية، مؤكداً أن رفعت لعب دوراً مهماً في كشف فصيل “مجلس فتح الثوري” الفلسطيني الذي يقوده صبري البنا (أبو نضال) بعد أن نفّذ تفجيرات في فرنسا.

وقد اضطر رفعت للهروب من سوريا بعد سقوط دمشق على يد قوات غرفة العمليات العسكرية، وانتهاء عهد عائلة الأسد.

وترى منظمة ترايل إنترناشونال أنه في ظل احتمال فرار العديد من أفراد النظام المخلوع، ينبغي للولاية القضائية العالمية أن تستمر في لعب دورها في السعي إلى الحقيقة والعدالة، لأجل ضحايا لا حصر لهم، وللفظائع التي ارتكبت في سوريا خلال العقود الماضية.

وتوقعت أن تكون سويسرا أول دولة تفتح محاكمة نموذجية ضد أحد أفراد عائلة الأسد، وبالتالي أن تلعب دوراً نشطاً في إنهاء إفلات النظام البائد من العقاب.

مجزرة حماة ورثت العنف وسيلة لإخضاع المحكومين لسطوة الحاكم (مواقع التواصل)

بين المذبحة والثورة

يرى المحامي أدهم الياسين الناشط في مجال حقوق الإنسان أن مذبحة حماة وفرت نظرة واقعية ومبكرة لطبيعة نظام عائلة الأسد، فقد تم توريث العنف كوسيلة إخضاع مدروسة من أجل السيطرة، واستخدم بشار نفس الأسلوب للقضاء على الحراك المدني الذي تظاهر ضده منذ مطلع 2011، على نحو شمولي.

واعتبر الياسين -في حديثه للجزيرة نت- أن حماة كانت بداية مرحلة خطيرة لتثبيت دعائم السلطة بالحديد والنار، حيث كشفت الوقائع في الفترة بين عامي 2011 و2024 كيف تحول عنف النظام ضد شعبه إلى عمل إبادة وتدمير وتطهير وقتل عشوائي للمدنيين بالبراميل المتفجرة والصواريخ.

وأضاف أن الإفلات من العقاب يشكل تهديداً بالغ الخطورة للسلم الاجتماعي واستقرار المجتمع والدولة، وهو تحد رئيسي أمام العدالة الانتقالية التي تسعى لتحقيق العدل، وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، واستعادة الاستقرار.

شاركها.
Exit mobile version