أخذت أتجاذب أطراف الحديث مع سائق سيارة الأجرة، وأنا في طريقي للمستشفى في عمان قبل شهرين، فقال وأنا أسأله عن أحواله: “لا أتذكر والدي فقد فقدناه منذ أربعين عامًا ولا نعرف هو ميت أم حي. كان مع المقاومة في لبنان وقيل لنا إنه اختفى في سوريا بداية الثمانينيات ولا نعرف عنه شيئًا، وأمي تقول اليوم إنها تفضل أن يكون قد لقي وجه ربه على أن يكون معتقلًا في سوريا”.

لو كان معي هاتف ذلك الأربعيني لاتصلت به لأسأله إن كان والده عاد للحياة من سجون سوريا، كما عاد كثيرون بعد أربعين عامًا أو يزيد.

كنت في السنة الثالثة من دراستي الجامعية في الأردن، عندما وصل الرئيس السوري حافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا، بعد انقلاب أطاح رفاقه في حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1971، أي بعد أربع سنوات من هزيمة يونيو/ حزيران 1967.

لم تكن تقرحات تلك الهزيمة المدوية قد اندملت وقتئذ في ذاكرة شاب تغازله أحلام التخرج وحرية فلسطين، رغم كل ما رافق مواليد النكبة من أمثالي من هزائم وانكسارات.

بدأ حافظ الأسد، مثل غيره من قادة العرب، يتحدث عن ردع العدوان، وتحرير الجولان بعد تحقيق التوازن الإستراتيجي. وجاءت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، وأطلت دبابات الجيش السوري على بحيرة طبريا من الجولان، وعبر المصريون خط بارليف، ثم نكص السادات على عقبيه، فارتد الجيش السوري شرقًا ووقف عند منطقة قطنة في ريف دمشق، وهي المنطقة التي بلغتها قوات العدو اليوم. آنذاك تصدى الجيش العراقي للقوات الإسرائيلية، وأوقف تقدمها رغم ما لحق به من خسائر.

انطفأت مع كامب ديفيد أحلام النصر، وتحولت إلى كوابيس، وأصبحت أشواق الحرية أشواكًا تنخر الجسد.

مرّت ثلاث وخمسون سنة من حكم الرئيس وابنه. تحولت سوريا إلى سجن طائفي، وصار الحديث عن التوازن الإستراتيجي لازمة فارغة، وأصبح صاحبه إله هوى تنتصب تماثيله في كل الزوايا، تبث في القلوب والعقول رعبًا ونفاقًا واستكانة ما عاشتها سوريا، حتى في عهد تيمور لنك الجزار.

على أن هذا، للإنصاف، لم يكن حال سوريا وحدها، بل هو حال العرب جميعًا، اللهم إلا من رحم ربي، وما زال حتى يومنا بتفاوت في الحدة وجبروت النظام.

كنت كلما زرت سوريا ودمشق أشيح النظر عن تلك التماثيل وأسأل في نفسي متى سآتي ولا أرى هذه المنحوتات الصنمية!

زرت دمشق قبل اندلاع ثورات الربيع العربي ببضعة أشهر، وتقدمت بطلب للسماح لي بتصوير برنامج وثائقي عن القلاع التاريخية الموجودة في سوريا، والتي تقف شاهدًا على صراعنا الذي لا تخمد نيرانه مع الغرب، منذ أن فتح أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، بلاد الشام، باعتبارها موطن العرب منذ فجر التاريخ، والمحيط الحيوي للإسلام في جزيرة العرب الممتدة من بحر العرب جنوبًا إلى حدود الأناضول شمالًا.

كانت تلك آخر زيارة، فأبواب زنازين صيدنايا كانت مفتوحة وزنازينه تقول هل من مزيد!

مرّت ثلاث وخمسون من السنوات قبل أن تكسر دمشق أقفال زنازين صيدنايا، وينبثق شعاع أمل نحو غدٍ لا تغييبَ ولا زنازين فيه، سواء في سوريا أو غيرها من ديار العرب. فالله وحده يعلم كم في ديار العرب من أمثال صيدنايا تنتظر أن تنكشف يومًا، ويخرج من ظلوا على قيد الحياة فيها.

ماذا لو حدث ذلك؟ حينها ستعرف شعوبنا بعد أن تزول الغشاوة عن العيون أن الوطن كله يصبح زنزانة، ليس الداخل إليها كالخارج منها، حين يسلم الناس أمرهم ويحنون رقابهم لنير الاستبداد، كلما طال الوقت.

ماذا لو حدث ذلك؟ هل ستتساهل إسرائيل مع من صالحوها وفتحوا السجون والزنازين لشعوبهم من أجل السلام؟ أم سترى أن أي تحرر أصيل وتغيير جوهري في حال الأوطان يهدد أمنها مثل ما حدث في سوريا، فتلقي كل المعاهدات في مزبلة التاريخ؟

كانت جبهة الجولان ساكنة صامتة صمت المقابر منذ عام 1973، التزامًا باتفاق فض الاشتباك لعام 1974، ومع ذلك لم تتوانَ إسرائيل لحظة عن استغلال الظرف المناسب حين تغير الوضع في سوريا، فخشيت على أمنها كما تقول، فتوسعت في أرض عربية جديدة. تقدمت دباباتها واحتلت المنطقة العازلة في الجولان، وفرضت حظر التجوال في قرى سورية عديدة قرب القنيطرة، ورفعت علمها فوق قاعدة عسكرية سورية في جبل الشيخ، فر منها جنود الأسد المخلوع.

قصفت كل المطارات العسكرية السورية، ودمرت سلاحي الجو والبحرية السوريين تمامًا، وقصفت كل المقار والبنايات التي يمكن أن يستفيد منها النظام الجديد القادم بعد الأسد، وتباهت وسائل إعلامها بأن ذلك تم في أكبر عملية قصف يقوم بها طيرانها في التاريخ.

وقواتها الآن على بعد 25 كيلومترًا فقط من دمشق! وهي لا تخفي أنها قد تتوغل أقرب إلى عاصمة الخلافة الأموية وأول عاصمة للعالم الإسلامي آنذاك. بل بلغ بإسرائيل التمادي والاستخفاف بالأمة كلها أن طالب وزير خارجيتها بحكم ذاتي للأقليات في سوريا.

المشكلة التي تحسب لها إسرائيل الحساب ليست سلام الخنوع العربي، بل هي التحرر من الخنوع في ديار العرب، وهي لذلك لن تسمح لنا بالتغيير والتحرر من الاستبداد، حتى لو كان ثمن ذلك سلامَ الخانعين، إذ طالما بقي الاستبداد والخنوع بقي سلام الخنوع.

ألا يمكن إذن أن تندفع إسرائيل لتغيير الواقع المتحرر؟ هل تلتزم بما وقعته من اتفاقيات ومعاهدات؟

الخوف من التغيير ليس هاجس إسرائيل وحدها، بل هو هاجس بعض أنظمة العرب الرسمية وهي تشاهد اليوم مآلات الاستبداد في سوريا. تشاهد وسائل إعلام بعضهم فتراها تشفق على سوريا مما حدث فيها، وتدعو للحفاظ على وحدة ترابها وسيادتها، وتحذر من احتمالات تقسيمها أو انزلاقها إلى حرب أهلية، وهذه نفسها وسائل الإعلام التي روجت لنظام الأسد وطبلت لدعوته إلى القمة العربية قبل شهور. هؤلاء لا يرون في الاستبداد خطرًا على الأوطان حتى وإن حولها إلى زنازين.

ولكن لماذا يا ترى نستكين، نحن العربَ، خانعين ونكشف ظهورنا لسياط جلادينا في داخل أوطاننا ولا نقول كفى؟!

لماذا يموت فينا الشوق للحرية والكرامة سنين طوالًا؟

لماذا لا نصحو من سُباتنا إلا على أصوات انفجارات دامية؟

لماذا لا نغار من العالم حولنا يتحرر وينجز ويتقدم ونحن نيام؟

لماذا يستبد بنا حكامنا ولا يغادر أحدهم إلا بانتهاء الأجل، أو بعد أن تفيض شوارعنا بالدماء؟

لماذا نسارع في عدونا ونخاف؟

لماذا نقبل بالزنازين سنين طويلة ولا نفيق مع الفجر؟

لقد حُمِّلنا الرسالة وتخلينا عنها فتساوى عندنا الوطن والزنزانة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version