صباح اليوم الثلاثاء، يتسابق قادة إسرائيل، منهم السياسيون والعسكريون، للتعبير عن حجم الأسى والحزن الذي أصابهم عقب “كارثة” الإعلان عن مقتل 24 عسكريا في معارك قطاع غزة مع فصائل المقاومة.
وهذه من المرات النادرة التي يعترف بها جيش الاحتلال بمقتل هذا العدد من الجنود في يوم واحد، إذ إن سياسته تعتمد على محاولة إخفاء حجم خسائره والتمويه عليها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
في إسرائيل تخضع الإعلانات عن أي قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر، وهو قرار ملزم يتم بموجبه منع نشر أي معلومات عن القتلى سواء من وسائل الإعلام، أو من المؤسسات الرسمية، أو من المستوطنين.
كما يمنع الاحتلال وسائل الإعلام الإسرائيلية من تداول ما تنشره فصائل المقاومة من مقاطع مصوّرة تظهر استهداف الجيش وتكبيده الخسائر.
تغريدة خارج السرب
في العاشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي خالفت صحيفة يديعوت أحرنوت هذه السياسة، ونشرت تقريرا صادما عن خسائر جيش الاحتلال في الحرب على غزة، وقالت فيه إن عدد الجنود الجرحى بلغ نحو 5 آلاف، من بينهم ألفان على الأقل أصبحوا في عداد المعاقين، لكن الصحيفة ما لبثت أن سحبت تقريرها، ونشرت أعدادا أقل من ذلك بكثير.
وفي اليوم ذاته، تكشف صحيفة هآرتس أن ثمة فجوة كبيرة بين عدد الجنود الجرحى الذي يعلنه الجيش الإسرائيلي، وما تظهره سجلات المستشفيات، مشيرة إلى أن العدد الذي أعلن عنه الجيش هو 1600 جريح، بينما تظهر القوائم التي أعلنت عنها المستشفيات أنها استقبلت 4591 جريحا خلال الفترة نفسها.
وفي تأكيد لهذه المعلومات، تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خسائر فادحة تفوق هذه الأرقام بكثير، وقالت إن المستشفيات تكتظ بالجرحى من العسكريين، وإن المقابر تستقبل أعدادا هائلة من الجثث.
التكتم على خسائره الحقيقية
أقرّ عضو كابينت الحرب الوزير بيني غانتس بأن الصور القادمة من معركة قطاع غزة مؤلمة “ودموعنا تتساقط عند رؤية جنود لواء غفعاتي يسقطون”.
يتكتّم جيش الاحتلال بصورة كبيرة على خسائره، وتحديدا البشرية، في المعارك الدائرة في قطاع غزة، لعدة أسباب، أهمها:
- – الحفاظ على معنويات الجنود على خط المواجهة من الانهيار.
- – تخفيف وقع الصدمة على الجمهور الإسرائيلي.
- – عدم إثارة الرأي العام ضد القيادة السياسية والأمنية.
- – التحسب من توليد ضغط سياسي وشعبي لإنهاء الحرب.
- – جزء من الحرب النفسية التي يخوضها ضد المقاومة، فإن الإعلان الحقيقي عن أعداد القتلى تأثيره إيجابي على الروح المعنوية والقتالية للمقاومين.
- – للمحافظة على السمعة التي بناها جيش الاحتلال عن نفسه داخل إسرائيل وحول العالم، وعدم كسر للصورة النمطية عن “أحد أقوى جيوش العالم”.
- – ترسيخ الثقة إقليميا ودوليا بالأسلحة ومعدات الجيش التي تؤمن له الحماية، سواء الآليات أو البرامج التقنية.
هكذا يخفي جيش الاحتلال خسائره
يعتمد جيش الاحتلال سياسة ضبابية في الإعلان عن خسائره البشرية في غزة، لذا نجد تفاوتا كبيرا لدى البيانات المتوفر عن خسائره، مما يؤدي إلى التشكيك في الأعداد، وهذه عدة طرق يتمكن خلالها من تحقيق هذا الهدف:
- – إخضاع الإعلانات عن أي قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر.
- – الجيش يخدع الجمهور بقوله إنه لا يتم الإبلاغ عن العدد إلا بعد إخبار عوائل القتلى، لأن الإعلان عن العدد لا يقتضي ذكر الأسماء.
- – تستثني قوائم القتلى التي تصدرها المؤسسة العسكرية شرائح عديدة من القتلى.
- – يعرض جيش الاحتلال أموالا على عائلات بعض القتلى، خصوصا من اليهود الشرقيين والروس وبعض الدروز والبدو، مقابل التكتم على خسائرهم.
- – لا يعلن جيش الاحتلال عن القتلى من المرتزقة الذين يقاتلون في صفوفه.
- – “المجندون الوحيدون”، وهم الذين فقدوا عائلاتهم، أو جاؤوا إلى إسرائيل دون عائلات، وحصلوا على الجنسية الإسرائيلية، وهم غير المرتزقة.
- – “المجندون اللقطاء”، وعادة ما يتم الزج بهم في مقدمة القوات المقتحمة، وهم جنود إسرائيليون، لكن دون كشوف مدينة، وليس لهم سجل مدني مرتبط بعائلات، وهذا شائع في المجتمع الإسرائيلي، وهؤلاء لهم أسماء مثل ليفي وكـوهين وديفيد، لكن العدو لا يتعامل معهم إلا كأرقام، ويدفنهم في مدافن خاصة بهم، وفي العادة يتم الزج بهم في مقدمة الصفوف.
لماذا يعترف ببعض الخسائر الثقيلة؟
- – لأنه مضطر لذلك، لطبيعة القتلى من أبناء العائلات والضباط وغيرهم، ممن لا يمكن إخفاء حقيقة مقتلهم.
- – توثيق المقاومة الفلسطينية لكثير من عملياتها ضد جيش الاحتلال، وضعت مصداقيته أمام جمهوره على المحك، لذا لا بد من الإعلان ولو عن بعض الخسائر.
- – كشوف المستشفيات ومراكز الجرحى والتأهيل والطب النفسي والمقابر، التي لا تستطيع أن تخفي أعداد ما يصلها من القتلى والجرحى.
- – الاعترافات التي يقدمها الجنود عن مقتل زملاء لهم في المعارك.
- – القتلى الذين تكشف عنهم بعض التحقيقات الميدانية، الذين يصبح من الصعوبة إمكانية إخفاء أعدادهم.
قتلى النيران الصديقة
ووفقا لبيانات جيش الاحتلال، فإن واحدا من كل 5 قتلى يسقط بنيران صديقة، وإن 17% قتلوا بهذه الطريقة أو خلال حوادث في الميدان.
وتمثلت هذه الحوادث في إطلاق النيران بالخطأ ودهس جنود بدبابات إسرائيلية بالخطأ، وسقوط جدران على الجنود، أو أخطاء بالمتفجرات أثناء الاستعدادات للتدمير.
ومن أهم الأسباب التي تؤدي إلى القتل بالنيران الصديقة:
- – الخوف والارتباك أثناء الالتحام مع مقاتلي المقاومة.
- – ضعف التدريب وعدم التركيز نتيجة الإرهاق خلال القتال.
- – وجود مقاومة قوية على الأرض، تشتت وتوهن من قوة العدو.
- – طبيعة البيئة القتالية الصعبة التي فرضتها المقاومة من خلال حرب الشوارع.
- – بروتوكول هانيبال.. جندي قتيل خير من جندي أسير، وهو إجراء يستخدمه الجيش الإسرائيلي لمنع أسر جنوده، حتى لو كان ذلك بقتلهم.
ويسمح هذا البروتوكول بقصف مواقع الجنود الأسرى، وخلال حرب غزة، تأكد من خلال التحقيقات أن جيش الاحتلال قام بقتل إسرائيليين أو أفراد من جنوده تطبيقا لهذا القانون.
وعلق الخبير العسكري والإستراتيجي اللواء فايز الدويري، على قتلى جيش الاحتلال بالنيران الصديقة بقوله “إنه جيش فاشل وجبان، وليس لديه كفاءة”.
وشدد على أن هذا الأمر نقطة ضعف ووهن بالجيش الإسرائيلي، وليس كما يقال عنه إنه يتمتع بكفاءة عالية، مضيفا أنه “يتمتع بمعدات متقدمة ولكن جنوده وضباطه فاشلون”.
عقيدة المعسكر المسيحاني
أفرزت الحرب على غزة طبقة أخرى من طبقات الاختلاف بين “عنصري الصهيونية”، حيث يقدس أنصال اليسار “الإنسان الإسرائيلي”، ويريدون إنهاء هذه الحرب، في حين “يقدس اليمين الصهيوني الأرض”.
ويرى محللون إسرائيليون أن معسكر اليمين الاستيطاني “أخذ الأمة اليهودية رهينة”، وهو مصمم على بعث الرسائل التي تمنع انتقاد الحكومة وانتقاد جنود الجيش “القديسين” وقادتهم، وتحرّم إنهاء القتال.
وقال تقرير أعده أوري مسغاف، ونشرته هآرتس، إن هذا المعسكر يعتبر الجنود والرهائن القتلى الإسرائيليين “تضحية نبيلة وجديرة بالاهتمام على طريق الخلاص، وهم الطبق الفضي الذي ستنهض عليه دولة يهودا”.
ووفق التقرير، فإن اليمين المتطرف يعتبر التعداد اليومي لجثث الإسرائيليين القادمة من أرض غزة “قدرا إلهيا”.
صدمة مجتمع
تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خسائر فادحة في صفوف الجيش، ونقلت عن بيانات طبية أن المستشفيات تكتظ بالجرحى من العسكريين، وأن المقابر تستقبل أعدادا هائلة من الجثث.
وتشير التقارير إلى افتتاح مراكز لتأهيل أعداد كبيرة من العسكريين الذين أصيبوا بعاهات مستديمة جراء المعارك، ومن بين هؤلاء المئات ممن أصيبوا بالعمى.
وذكرت “يديعوت أحرونوت” أن قسم إعادة التأهيل في الجيش يستقبل يوميا حوالي 60 جريحا جديدا، من القوات الأمنية والاحتياطية، ولا يشمل ذلك العدد جرحى القوات النظامية.
وكشفت منظمة معاقي الجيش الإسرائيلي أن عدد جرحى الجيش نتيجة الحرب في قطاع غزة قد يصل إلى 20 ألفا “إذا أدرجنا مصابي اضطراب ما بعد الصدمة”.
كما كشف موقع “والا” الإخباري الإسرائيلي مطلع يناير/كانون الثاني الحالي عن إصابة 4 آلاف جندي إسرائيلي بإعاقات منذ بداية الحرب على قطاع غزة، مرجحا ارتفاع الرقم إلى 30 ألفا.
أمراض نفسية
كشف بيانات جديدة صادرة عن “المعهد الوطني لأبحاث السياسات الصحية”، عن صورة قاتمة لآثار الحرب على الصحة العقلية والنفسية للإسرائيليين.
واستعرض رئيس جمعية الصحة العقلية في المجتمع الإسرائيلي الدكتور إيدو لوريا، بيانات تتوقع أن يعاني ما يصل إلى 625 ألف شخص في إسرائيل من أضرار نفسية، نتيجة معركة طوفان الأقصى والحرب التي أعقبتها على قطاع غزة.
وبحسب تقييم أولي أجرته مجموعة بحثية بالتعاون مع الجامعة العبرية في القدس، وجامعة كولومبيا، قد يصاب ما بين 60 و80 ألف شخص بأعراض تخلف عقلي خطي ومستديم، بسبب الصدمة من الهجوم المفاجئ والحرب.
كما سيصاب ما يصل إلى 550 ألف شخص بأمراض وأزمات نفسية متفاوتة، وذلك وفقا للمجلس الوطني الإسرائيلي للصدمات، وتقرير “ماكينزي” الصادر عنه.
وفي تقرير بعنوان “الحرب أوقعت نظام الصحة النفسية في أزمة” نشرته الصحافة الإسرائيلية، فقد كشف النقاب أن عددا لا يحصى من الإسرائيليين بحاجة إلى الرعاية الصحة العقلية، في وقت لا يزال نظام الصحة النفسية العام يفتقر إلى الآلاف من الأطباء النفسيين.
وفي التقرير تقول الاختصاصية النفسية الدكتورة هداس شهرباني صيدون إن الخط الساخن للإسعاف النفسي يستقبل أكثر من 3 آلاف مكالمة يوميا، مقارنة بـ700-800 مكالمة في اليوم العادي، وحوالي 1500 مكالمة يوميا خلال جائحة كورونا (كوفيد-19).
ووجه منتدى مديري مراكز الصحة النفسية في إسرائيل رسالة إلى السلطات المختصة قال فيها “نتوجه إليكم يائسين بشأن الوضع الصعب لنظام الصحة العقلية في إسرائيل”.
وأشارت الرسالة إلى أن “أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أدت إلى ما يقدر بنحو 300 ألف مريض إضافي يحتاجون إلى العلاج على يد متخصصين مدربين”.
وفي السياق، قالت هيئة البث الإسرائيلية إن جمعية الإسعافات الأولية العقلية تلقت أكثر من 100 ألف طلب مساعدة نفسية منذ بداية الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.