أثار – مؤخّرًا – مقطعٌ متداولٌ للشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الكثيرَ من الجدل؛ فقد فهم منه بعض الناس نفي الشيخ للمفاضلة بين الأنبياء والرسالات، ولكن هذا المقطع جزءٌ من كلمة للشيخ في احتفال يوم المولد النبوي الشريف، تحدّث فيها عن كمالات النبي – صلى الله عليه وسلم – الأخلاقية وأن مماثلة السيدة عائشة – رضي الله عنها – بين خُلق النبي وخُلق القرآن تُحيل إلى أن كلا الخُلقين لا نهاية لحسنهما وكمالاتهما، ثم ختم الشيخ حديثه بالكلام عن أخلاقيات الإسلام في القتال، وأنها لا تُقارن بالحرب الجارية اليوم والتي آلت إلى الكثير من المجازر على مرأى ومسمع من العالم المتحضر الذي بات كالقاتل يمشي في جنازة المقتول، ودعا أخيرًا إلى واجب النصرة لأهل غزة والسودان.

مسألة التفضيل بين الأنبياء

ولكن كلمة شيخ الأزهر التي اشتملت على معانٍ خُلقية رفيعة، وعلى موقف سياسيّ غير مباشر، كما عوّدنا في كلماته المتعاقبة، شوّش عليها بعض المتلقين الذين تركوا العمود الذي تقوم عليه كلمة الشيخ من أولها إلى منتهاها، وراحوا يَتَخالفون حول فقرةٍ مجملةٍ جاءت في سياق الكلمة، وفيها أن المفاضلة بين الرسالات الإلهية أمرها متروكٌ إلى الله، ولا يجوز لنا نحن – المؤمنين – بها أن نُفاضل بينها من عند أنفسنا؛ رغم أن الشيخ أعقب ذلك مباشرةً بقيدٍ مهمٍّ أهمله المُتخالفون وهو قوله نصًّا: “اللهمّ إلا اتباعًا لما يَرِد في الشرع الكريم”.

ونجد فحوى كلام الشيخ في المصادر الإسلامية، كما نجد – مثلًا – عند ابن هبيرة (ت. 560هـ) الذي علّق على حديثٍ في النهي عن المفاضلة بين الأنبياء بقوله: “الذي أراه في هذا المعنى: لا تُفاضلوا أنتم بين الأنبياء؛ أنبياء الله، وكِلُوا ذلك إلى أمر الله – تعالى – كما قال تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). فإذا اتبعنا قول الله – عز وجل – فيمن فضّله، وقولَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، لم يكن نحن قد فضّلناه على موسى”، وهذا الكلام هو عينُ ما قاله – مجملًا – شيخ الأزهر.

وأودّ – في هذه المناسبة – أن أحرر مسألة التفضيل بين الأنبياء، بعيدًا عن الإجمال الذي عَرَض له شيخ الأزهر وأثار ما أثار؛ رغم أنه لم يكن موضوع كلمته. فقد بحث العلماء قديمًا هذه المسألة، وهي جزءٌ من مبحث الفضائل وفق المنظور الإسلامي الذي يختلف عن المنظور الفلسفيّ.

وهذا المبحث يسعى – في رأيي – إلى بناء النماذج الأخلاقية التي تُحتذى، ولاسيما أن الفضائل دالّة على خصال وأفعال، بعضها منائح وهِبَات من الله – تعالى – لصفوة خَلقه، وبعضها اكتسابات، وكلا النوعين تتحقق به الأفضلية وتتحدد به الدرجات المتفاوتة، بل إن العلماء راحوا يفاضلون بين جنس وجنس، كالمفاضلة بين البشر والملائكة، ومذهب الجمهور تفضيل الأنبياء على الملائكة. والبحث في الفضائل والنماذج التي تُحتذى يتصل بالبحث عن الكمالات، والكمالاتُ موصلة إلى أنواع السعادات.

وعمدةُ النقاش في الأفضلية هو قول الله – تعالى – وقول رسوله – صلى الله عليه وسلم – خصوصًا أن التفضيل إنما يرجع إلى ما عند الله – تعالى – الذي هو مصدر الحُسن والقُبح والكمالات الخُلقية.

فالقرآن الكريم تعرّض للمفاضلة بين النبيين بشكلٍ صريح، ولكنْ مُجمل، في آيتين هما: (تلكَ الرسلُ فضلنَا بَعضهُم عَلى بَعضٍ منهم من كَلم الله وَرفع بعضهم درجاتٍ وآتينَا عيسَى ابن مريم البينَاتِ وَأَيدنَاه بروحِ القدسِ) (وربكَ أَعلمُ بمَن في السماوات والأرضِ وَلقد فَضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورًا).

فالآية الأولى تتحدث عن الرسل الذين قصّ الله قصصهم في سورة البقرة، ولذلك أحال باسم الإشارة “تلك” أي المجموعة، وهم: موسى وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وداود، وغيرهم ممن خَصّ الله كلّ واحد منهم بخَصيصة ليست للآخر، فاتخذ إبراهيمَ خليلًا، وخصّ داود بالزبور وتسبيح الجبال والطير، وخصّ سليمان بتسخير الريح والشياطين وعلمِ منطق الطير، وخصّ عيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وأنه يَخلق من الطين طيرًا بإذن الله، إلى غير ذلك مما يحيل إلى فضائل هي درجاتٌ وخصائص لكلّ نبيّ يمتاز بها من الآخَر.

أما الآية الثانية، فالخطاب فيها للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – إذ تبدأ بالقول: (وربكَ) أي يا محمد، وهي تفيد معنى الآية الأولى، ما يعني أن نبيّنا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – ليس مشمولًا بكلتا الآيتين.

مذهب جماهير أهل الحديث والفقه

أما أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – فهي متضافرة ومتخالفة في الوقت نفسه مع ثبوتها، فقد نهى مراتٍ عن التخيير والمفاضلة بين الأنبياء، وبيّن مراتٍ أخرى فضله على عامة الأنبياء في الجملة دون تخصيص واحدٍ منهم بعينه. ولأجل النصوص الناهية عن المفاضلة بين الأنبياء استشكل العلماء – تاريخيًّا – هذه المسألة، بل إن الإمام القرطبي (ت. 671هـ) قال عند الآية الأولى السابقة: “وهذه آيةٌ مُشكلة والأحاديثُ ثابتة بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا تخيّروا بين الأنبياء)، (ولا تفضّلوا بين أنبياء الله) رواها الأئمة الثقات”.

وقد روى الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت. 321هـ) قائمة بالأحاديث التي تنهى عن المفاضلة؛ لأنه رآها مُشكلةً، ومنها أن رجلًا جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا خير البرية. فقال له النبي: “ذاك أبي إبراهيم عليه السلام”، وغير ذلك من الأحاديث المتعددة ذات الروايات المتضافرة على النهي عن المفاضلة، إما نهيًا كليًّا وإما نهيًا عن تفضيل النبي محمد على نبي مخصوص كموسى ويونس بن متى. ولأجل هذا خلص الطحاوي المحدث والفقيه الحنفيّ إلى أن ثمة قولين في المفاضلة:

الأول: أنه لا بأس بالتخيير بين الأنبياء بناء على ما اختصّ به كل واحد منهم، وقد أوضح الإمام بدر الدين العيني (ت. 855هـ) أن هذا مذهب طائفة من أهل الحديث.

الثاني: كراهية التخيير بين الأنبياء، أي على وجه التعيين، وقد أوضح العيني أن هذا مذهب جماهير أهل الحديث والفقه؛ فإنهم يكرهون التخيير بين الأنبياء على وجهٍ يؤدي إلى الإزراء بالمُخَيَّر عليه، واحتجّ هؤلاء بأحاديث النهي المتعددة، ومنها حديث: “لا تخيروا بين أنبياء الله”، وحديث: “لا تخيّروني على موسى”، وحديث: “لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى”، وغيرها.

ومع ذلك فقد اعتقد الجماهير أفضلية النبي – محمد صلى الله عليه وسلم – على سائر الأنبياء والملائكة أيضًا، وأجابوا عن أحاديث النهي بإجابات مختلفة ومتناثرة يمكن لي أن أصوغ مجموعها في أربعة مفاهيم نظرية أشكل منها منهجية لتأويل الحديث، وتحرير مسألة المفاضلة، وهي كالآتي:

الأول: التمييز بين الأفضلية والتفضيل. فأفضلية بعض الأنبياء على بعضٍ ثابتةٌ بنص القرآن، وذلك أن من الأنبياء من اختُصَّ بمزية لا توجد في الآخر. والأحاديث الواردة في النهي لا تتناول الأفضلية وإنما تتناول التفضيل، أي الخوض في المفاضلة؛ لأن ذلك يؤدي إلى العصبية بين أتباع الأنبياء وثوران الفِتنة، كما وقع في زمن النبيّ نفسه بين مسلم ويهوديّ، ولذلك منعَهم من ذلك لأجل الفساد وتطييبًا لخاطر اليهودي الذي لطمه المسلم في سياق تلك المفاضلة.

ويظهر لي أن شيخ الأزهر بما له من إدراك لحساسية منصبه وأنه منصبٌ تأليفيّ سلك هذا المسلك النبوي في الإجمال؛ خصوصًا أن كلمته لم تكن لبيان المفاضلة بين الأنبياء، بل لبيان كمال نبينا، صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدخل في المقاصد التي راعاها النبي والعلماء عامة، على خلاف من يسلك مسلك سيد قطب في المفاصلة وبناء السدود وتوهم إعطاء الدنية في الدين.

الثاني: التمييز بين التفضيل المجمل والتفضيل المعيّن. فالنهي الوارد في الأحاديث هو نهيٌ عن تفضيل نبيّ معيّن على نبي معيّن، وذلك لاعتبارات: أولها: أن الذي يُفاضل لا بدَّ أن يكونَ عالمًا بوجوه التفضيل ودرجاته، وهذه الوجوه مما لا يوقَف عليه إلا بالنصّ دون الاجتهاد.

التفاضل يكون في الأحوال والخصائص

والنصوص في هذا مُجملةٌ في حق عامة الأنبياء بل إن منهم من قصّهم الله على نبيه الخاتم، ومنهم من لم يَقْصُصهم عليه. وثانيها: أن النهي عن تفضيل المعيّن على المعيّن دَفْعٌ للإزراء بأحد الأنبياء؛ فإن ذلك – إن وقع – سبيلٌ إلى الكفر؛ لأن الواجب احترام جميع الأنبياء وتوقيرهم. وتفضيلُ واحد بعينه على واحد بعينه يوهم النقص في المفضول، وقد أُمرنا بأن (لَا نفرّق بين أَحَدٍ مِّن رسلهِ) من حيث الإيمان به وتوقيره.

الثالث: التمييز بين النبوة نفسها وأحوال الأنبياء. فالأنبياء كلهم سواءٌ في حق النبوة والرسالة، ولا نفضل بعضهم على بعض في هذا المعنى، ولكن التفاضل إنما يكون فيما هو زائد على النبوة، وهو الأحوال والخصائص التي اختُصّ بها كل واحد منهم، وهذا معنى (لَا نفرّقُ بَين أحَد من رسُله).

وبناء على هذه الأحوال كان هناك مطلق الرسل، وأولي العزم من الرسل، ومن رُفع مكانًا عليًّا، ومن أوتي الحكم صبيًّا، ومن أوتي الصحف ومن أوتي الزبور ومن أوتي الكتاب، ومن كلّمه الله تكليمًا، إلى غير ذلك مما عبر عنه الله – تعالى – تعبيرًا مجملًا فقال: (ورفعَ بعضهم درجات) بعد أن أثبت أنه فضّل بعض الرسل على بعضٍ في الآية نفسها.

الرابع: التمييز بين التفضيل الوجهي (أو من وجهٍ) وبين التفضيل الجُمْليّ (أو في الجملة). وهنا تتنزل القاعدة التي أشار إليها شيخ الأزهر في كلمته حول التمييز بين الخصوصية والأفضلية، فالخصوصية (أو المزيّة) لا تقتضي الأفضلية وهي قاعدةٌ صحيحة – في رأيي – جاريةٌ على كثير من الأمثلة في الأنبياء وغيرهم.

فقد سوّينا بين الأنبياء من حيث النبوة التي لا تفاوت فيها؛ لأنهم جميعًا مُصطفَون وحازوا وجوه الكمال والمحاسن، وإن كانت درجاتهم في ذلك غير متساوية بصريح القرآن كما سبق، بل جاءت الأحاديث أيضًا توضح تفاوتهم كحديث المعراج الذي يوضح أن بعض الأنبياء أرفع درجة من بعض، وأنهم موزعون بين السماوات، وأنه رغم أن بعضهم اختُصّ ببعض الخصائص دون الآخرين فلا يلزم من تفضيل أحدٍ على أحدٍ في صفة خاصة أن يكون أفضل منه في جميع الصفات، أي في الصورة المجموعة أو الكلية.

وبهذا اختُص نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فكان أفضلهم جميعًا على وجه الإجمال لا التعيين وبالصورة المجموعة وإن كان لبعض الأنبياء خصائص لم توجد له، وقد نشأت أدبيات تعدّ خصائصه الشريفة الدالة على أفضليته بنوعها ومجموعها على السواء، وقد ثبتت في أحاديث عديدة، وقد أوصل أحد العلماء عدد خصائصه – صلى الله عليه وسلم – إلى ستين خصلة وهو ما لم يوجد لغيره.

وقد جاء في كتب شروح الحديث معانٍ وتأويلاتٌ ضربتُ صفحًا عنها؛ لبُعدها في رأيي، كالقول مثلًا: بالنسخ وبأن أحاديث النهي المتعددة كانت قبل أن يوحى إليه بإثبات التفضيل، فالنسخ لا يثبت إلا بمعرفة التاريخ، وهشاشة هذا التأويل تظهر من المعاني السابقة التي أوردتها، وكالقول مثلًا: إنه، صلى الله عليه وسلم، نهاهم عن تفضيله على غيره على سبيل التواضع وهَضْم النفس والبر بغيره من الأنبياء، وهذا ضعيفٌ في رأيي؛ لأن ثمة أحاديث أخرى يُثبت فيها لنفسه العديد من الفضائل والخصائص التي اختُصّ بها وأبرزها أنه قال: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”.

كما أن مقام النبوة مقام البيان، فضلًا عن أن خصوصياته – صلى الله عليه وسلم – هي كرامات وهبية من الله – سبحانه – وليست كسبية من قبل نفسه حتى يفتخر بها، ولذلك قال في الحديث: “ولا فخر”، وهو صلى الله عليه وسلم – مع ذلك – بالغٌ الدرجةَ العليا في التواضع.

لا تقدم هذه المفاهيم الأربعة إطارًا نظريًّا لتحرير مسألة التفضيل بين الأنبياء فحسب، وإنما تقدم إطارًا منهجيًّا لفهم ما صُنِّف على أنه مُشكلٌ من الحديث؛ لأنها تنقلنا من الأحاديث المفردة (أو الجزئية) إلى فهم الخطاب النبوي الذي ينسجم مع الخطاب القرآني من جهة، والذي تتضافر فيه الأحاديث المختلفة على اختلاف سياقاتها وأزمنتها لتأدية معنى متماسك، هو جزء من نسيج الخطاب النبوي من جهة أخرى.

كما أن هذه المفاهيم توضح كيف أن المنظور الأخلاقي هيمن على هذه المسألة، وأنه يستوعب الاعتقاد النظري بالمساواة التامة بين الأنبياء من حيث النبوة والتفاضل في الكمالات والفضائل على تنوعها، وأن تنوعها أيضًا يقدّم لنا نماذج تُحتذى تشكل بمجموعها الكمال الإنساني كما أراده الله – سبحانه – الذي اصطفى هؤلاء جميعًا من بين سائر البشر، وجعلهم نماذج يُستهدى بها على تعاقب الأمم والتواريخ. والله أعلم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version