خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام المؤتمر السنوي لسفراء فرنسا في الثامن من يناير/ كانون الثاني الماضي، الذي تناول فيه تراجع فرنسا في أفريقيا بعد إعلان معظم الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية على أراضيها، يُعدّ أعلى وأهم تصريح رسمي فرنسي في هذا الشأن. وبالرغم من أن الرئيس ماكرون كان يتحدث لقادة الدبلوماسية الفرنسية، فإن خطابه لم يكن دبلوماسيًا البتة.

أنكر الرئيس الفرنسي أن بلاده تتراجع في أفريقيا، وقال: “نحن نعيد تنظيم أنفسنا”، وأردف أن إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية كان قرارًا متفقًا عليه مع الرؤساء الأفارقة، وترك لهم مهمة الإعلان عنه.

وقال ماكرون إنه حزين؛ لأن القادة الأفارقة لم يشكروا بلاده على ما قدمته لهم القواعد العسكرية الفرنسية من خِدمات جليلة، وأضاف، وبنبرة استعلاء، أن الرؤساء الأفارقة لم يكونوا حريصين على محاربة الحركات السالبة في بلدانهم، بقدر حرصهم على البقاء على كرسي السلطة، وأنه لولا الجيش الفرنسي لما كان كثير منهم جالسين على كراسيهم اليوم.

زعم الرئيس الفرنسي أن بلاده لم تتراجع في أفريقيا، وأن ما جرى من إغلاق لقواعدها العسكرية إنما هو ترتيب مسبق متفق عليه، وأن القادة الأفارقة نفذوا ما طُلب منهم، لكنهم أساؤوا الإخراج.

بيدَ أن هذا المنطق لا يبدو مقنعًا أصلًا، فقد كان رد القادة الأفارقة قويًا جدًا على تصريحات الرئيس الفرنسي، بل إن بعضهم، كما في السنغال وتشاد ومالي، ردوا الصاع صاعين لفرنسا، مذكرين إياها بأنه لولا بسالة الجنود الأفارقة في الحرب العالمية الثانية، ربما كانت فرنسا حتى اليوم محمية ألمانية.

بالرغم من أن الخطاب كان موجهًا للدبلوماسيين، وأن الدبلوماسية هي المجادلة بالحسنى، فإن الخطاب كان حمّال وجوه، ولم يخلُ من التهديد باستخدام القوة. وإلا فماذا يعني قول الرئيس ماكرون إنه لولا الجيش الفرنسي لما كان كثير من الحكام الأفارقة جالسين على كراسيهم؟

إن هذه اللغة غير الدبلوماسية يمكن أن يُفهم منها أن الجيش الفرنسي، الذي أبقى بعض الحكام الأفارقة على كراسيهم ردحًا من الزمن، قادر على أن يقصيهم منها كذلك.

وهذا الاستعلاء الماكروني المعهود يناقض السياسة الجديدة نحو أفريقيا، والتي بشّر بها ماكرون نفسه في خطابه الشهير في جامعة واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، والمعروف اختصارًا بـ”خطبة واغادوغو”، والتي تبرأ فيها من تبعات الاستعمار الفرنسي لأفريقيا. كما يناقض خطته التي أقرها في عام 2022، والتي هدفت إلى بناء شراكة وتعاون عسكري فرنسي- أفريقي بمعايير جديدة.

ما هي الاتفاقيات العسكرية الفرنسية؟

المقصود بذلك هي مجموعة اتفاقيات سرية عسكرية وأمنية وُقِّعت في ستينيات القرن الماضي، بُعيد استقلال المستعمرات الفرنسية في غرب أفريقيا، أي في مرحلة القبضة الحديدية الباطشة لفرنسا على مستعمراتها السابقة. وبالرغم من سرية هذه الاتفاقيات، فقد سرّب بعض قدامى العسكريين والسياسيين جزءًا من محتواها. وسنعرض بإيجاز ما رشح عن مضمونها:

  • تَمنح الدول الأفريقية فرنسا حق إنشاء قواعد عسكرية على أراضيها، دون الحصول على إذن أو موافقة من برلمانات هذه الدول، وتكون هذه القواعد أراضيَ فرنسية ليس للدولة المضيفة الحق في معرفة ما يجري داخلها. كما أن فرنسا غير ملزمة بتقديم أية معلومات عن هذه القواعد، أو طبيعة عملها، أو عدد الجنود فيها، أو نوع الأسلحة والفعاليات التي تقوم بها. وبذلك، أصبحت القواعد الفرنسية في أفريقيا محميات ومراكز متقدمة للتجسس وجمع المعلومات، وتنفيذ سياسات وعمليات تخدم فرنسا حصرًا.
  • لفرنسا حرية استخدام الأجواء الأفريقية بواسطة سلاح الجو الفرنسي متى ما كان ذلك ضروريًا، دون إطلاع الدول المضيفة على طبيعة الاستطلاعات الجوية التي يقوم بها الطيران العسكري الفرنسي.
  • يجري تدريب العسكريين الأفارقة في فرنسا، على أن تدفع الدول الأفريقية تكاليف التدريب لمبعوثيها، مهما بلغت قيمته، مقارنة بالتدريب في دول وأكاديميات عسكرية أخرى.
  • تلتزم الدول الأفريقية بإطلاع فرنسا على أي تعاون عسكري تقوم به، أو أي اتفاقيات عسكرية ترغب في توقيعها مع دول أخرى، وأن تحصل على موافقة باريس.
  • في حالة تعرض فرنسا لتهديد عسكري خارجي، ينضم جنود الدول الأفريقية إلى الجيش الفرنسي للدفاع عن فرنسا، وبالمقابل، تتعهد باريس بحماية المستعمرات السابقة ورعاياها في حالة تعرضها لأي تهديد.

شكلت هذه الاتفاقيات العسكرية السرية، بالإضافة إلى الاتفاقيات الاقتصادية، العمود الفقري لسياسة فرنسا الأفريقية، المعروفة اختصارًا باسم “فرانس أفريك”.

صُمِّمت هذه الاتفاقيات المجحفة من قِبل اليمين الفرنسي الديغولي منذ بداية الجمهورية الخامسة، وكان الغرض الرئيس منها هو ضمان بقاء فرنسا في أفريقيا لأطول فترة ممكنة.

أشرف على هذه الاتفاقيات سياسي فرنسي ديغولي مشهور، هو جاك فوكار، مستشار الشأن الأفريقي للجنرال شارل ديغول، والذي ظل يدير السياسة الفرنسية في أفريقيا بشكل مباشر أو غير مباشر منذ عام 1958 وحتى وفاته في مارس/آذار 1997.

ولئن كانت هذه الاتفاقيات مجحفة ومعيبة، فإن تطبيقها كان أكثر إجحافًا. لقد صُمِّمت للحفاظ على مصالح فرنسا فقط، دون الاكتراث بمصلحة الشعوب، لدرجة أن باريس اعتبرت أن الرئيس الأفريقي الذي يسير وفق رؤيتها هو جزء من مصالحها التي يجب المحافظة عليها.

وبناءً على ذلك، أطلقت يدها الباطشة لتحدد من يحكم أي بلد أفريقي، ولم تتوانَ في التدخل المباشر والسافر لفرض رؤساء بعينهم، دون النظر إلى رأي الشعب. والتاريخ حافل بالتدخلات العسكرية الفرنسية في أفريقيا الغربية.

رؤية جديدة للتعاون العسكري

أسهمت عوامل كثيرة في رفع درجة الوعي الجمعي الأفريقي بحقيقة السياسات الفرنسية الظالمة التي تفرضها باريس على مستعمراتها السابقة، وأدى ذلك إلى ظهور جيل جديد من السياسيين وقادة الرأي العام الأفارقة، مما عزز حالة الاستياء الشعبي الواسع ضد سياسة فرنسا الأفريقية، ولا سيما ضد تلك الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية السرية بين باريس ومستعمراتها السابقة.

ومما يُحمد للرئيس ماكرون جرأته في نقد سياسات فرنسا الاستعمارية المجحفة بشأن أفريقيا، على الملأ، كما حدث في خطبة واغادوغو الشهيرة في بداية فترته الرئاسية الأولى عام 2017، والتي أعلن فيها رسميًا انتهاء سياسة “فرانس أفريك” وتبرأ من فترة الاستعمار الفرنسي لأفريقيا، باعتباره من الجيل الذي وُلد بعد انتهاء حقبة الاستعمار.

كما أعلن رغبته في بناء شراكة عسكرية جديدة، متوازنة ومسؤولة مع أفريقيا، وأكد أنه سيعيد التفكير في القواعد العسكرية الفرنسية في القارة.

وبموجب ذلك، أعلنت فرنسا في عام 2022 ملامح رؤية جديدة للتعاون العسكري مع الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية. اقترحت فيها تقليل عدد الجنود الفرنسيين في أفريقيا، وأن تُدار القواعد بإدارة مشتركة بين فرنسا والدول المضيفة. كما اقترحت تحويل بعض القواعد إلى أكاديميات عسكرية لتدريب القوات الأفريقية ورفع قدراتها الفنية والقتالية، وزيادة المساعدات العسكرية لأفريقيا.

وأهم ما صرح به ماكرون في هذه الخطة، هو قوله إنه لا توجد منافسة مع الآخرين في أفريقيا، وأن القارة ليست حكرًا لفرنسا. ولا شك أنه يشير إلى القوى الدولية الجديدة التي بدأت تتمدد في القارة، مثل؛ روسيا، والصين، وتركيا.

عمليًا، لم تجد هذه الخطة طريقها للتنفيذ، لأن الأوضاع في دول الساحل الأفريقي خاصة، وفي غرب أفريقيا عامة، سارت بما لا تشتهيه باريس. فقد أدى الزخم الشعبي الواسع المعادي لسياسات فرنسا إلى صعود قادة ثوريين إلى السلطة، كما في مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وغينيا، والسنغال.

وقادت هذه الأنظمة وغيرها تيار مواجهة التمدد الفرنسي في القارة وتصفية القواعد العسكرية، دون التنسيق مع باريس. وهكذا اضطرت فرنسا إلى ترك “حديقتها الخلفية”، بكل ما يسببه ذلك من تحديات ومتاعب سياسية واقتصادية وجيوسياسية.

خيارات باريس الصعبة

إن نفوذ فرنسا في تراجع حقيقي في غرب أفريقيا، وهو مجالها الحيوي الرئيسي في القارة، وذلك بالرغم من حالة الإنكار الرسمي من الإليزيه. والمشكلة الكبرى هي أن طرق العودة إلى زخم العلاقات القديمة صعبة، وخيارات باريس محدودة ومحفوفة بالمخاطر.

هناك عدد من الخيارات الصعبة أمام باريس، منها استخدام القوة للعودة إلى أفريقيا، أو وقف تسليح الجيوش الأفريقية، أو التنسيق مع الولايات المتحدة والعودة تحت عباءتها. وفيما يلي نناقش هذه الخيارات بإيجاز:

  • ينادي بعض قدامى العسكريين باستخدام القوة، كما درجت باريس على ذلك في السابق. وهذا الخيار صعب بسبب حالة الرفض الشعبي العامة لفرنسا في الشارع الأفريقي، وقوة تأثير منظمات المجتمع المدني، لدرجة أنه لن يستطيع أي حاكم الجهر بولائه لفرنسا، لأن ذلك يعني نهايته. بل إن الحكومات الأفريقية أصبحت تتودد إلى شعوبها بتحدي فرنسا.
  • أما خيار وقف مبيعات الأسلحة والمعدات العسكرية، فهو خيار غير فعال، وذلك لأن جيوش الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية لا تستخدم السلاح الفرنسي، بل تعتمد على واردات الأسلحة من روسيا أو الصين أو تركيا أو الولايات المتحدة، لأن السلاح الفرنسي الصنع غالي الثمن مقارنة بالدول المنتجة الأخرى. ومما يؤكد ذلك أن تقرير مبيعات الأسلحة الفرنسية للخارج، الذي أصدرته وزارة الدفاع الفرنسية عن العام الماضي، أوضح أن هناك دولتين أفريقيتين فقط اشترتا أسلحة من فرنسا، هما المغرب والسنغال. وانحصرت مبيعات كلتا الدولتين في زوارق ومعدات لسلاح البحرية فقط.
  • كما يبدو خيار التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية صعبًا، ذلك لأن الوجود الأميركي في القارة محدود، ويعاني من المشاكل، كما حدث في النيجر، وتشاد، وأفريقيا الوسطى. وسيكون هذا الخيار أصعب في عهد إدارة الرئيس ترامب الجديدة.

ونظرًا لصعوبة كل هذه الخيارات، بالإضافة إلى الوضع السياسي الداخلي المضطرب، فليس أمام صانع القرار السياسي الفرنسي إلا أن يكون أكثر براغماتية وتعقلًا، وأن تقبل باريس بالأمر الواقع، وتحترم خيارات الشعوب والحكومات الأفريقية، وتستخدم دبلوماسية الحوار بالحسنى، وألا تدخل في أي مواجهة أو مغامرة أفريقية غامضة وغير مضمونة العواقب.

فأي مغامرة من هذا النوع ربما تضطر الدول الأفريقية إلى إلغاء الاتفاقيات الاقتصادية، وبالذات اتفاقية استخدام الفرنك الأفريقي. وإذا حدث ذلك، فقد تتراجع فرنسا لتصبح إحدى دول العالم الثالث، كما قال الرئيس السابق جاك شيراك.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version