تعيش أوروبا اليوم حالة قلق وترقب إزاء التقارب المتزايد بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فبعد عقود من التحالف والشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة تكشف الأحداث اليوم عن تصدّع في هذا الحلف.
وبمعزل عن حضور الأوروبيين أو استشارتهم، تتفاوض واشنطن مع “العدو الروسي”، بل إن ترامب لم يتردد -أثناء حملته الانتخابية- في التهديد “بتشجيع” روسيا على مهاجمة أي دولة أوروبية لا تلتزم بتعهداتها المالية تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومع الحديث عن بدء العد التنازلي لإنهاء الصراع في أوكرانيا وعن انسحابات أميركية محتملة من شرق أوروبا، أصبحت دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) في عين العاصفة، فهل تغيرت النظرة الروسية لهذه الدول الأعضاء في الناتو، أم إنها تسعى لفتح جبهة جديدة معها باعتبارها تاريخيا جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق؟
انكشاف أوروبي
نقلت صحيفة الديلي ميل البريطانية في تقرير لمراسلها بيركين أمالاراج نشر في 17 فبراير/شباط الجاري عن مسؤولين أوروبيين أنه من المرجح أن يسحب الرئيس دونالد ترامب القوات الأميركية من دول البلطيق، وعبر المسؤولون عن خشيتهم من أن سحب ترامب لقواته سيترك أوروبا عُرضة لروسيا.
وأشارت صحيفة “بيلد” إلى أن أجهزة الأمن الأوروبية والمسؤولين الغربيين يخشون أن تؤدي المفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة -التي بدأت الثلاثاء 18 فبراير/شباط في الرياض- إلى انسحاب القوات الأميركية من أوروبا الشرقية.
وذكر مسؤولون أوروبيون أن الوفد الروسي طلب خلال المفاوضات الأميركية الروسية في الرياض تقسيمًا جديدًا لمناطق النفوذ وانسحاب الولايات المتحدة من أوروبا الشرقية.
ووفقًا للصحيفة، فإن القاعدتين الأميركيتين المستثناتين من المفاوضات حاليا هما فقط قاعدة رامشتاين بألمانيا والقاعدة الجوية في بريطانيا، وذلك يعني أن على أوروبا الاستعداد لتغييرات جذرية إذا توصل ترامب وبوتين إلى اتفاق.
ولعل هذا ما يفسر -حسب المراقبين- حالة الاستنفار والرفض الأوروبية التي صاحبت الاجتماع الثنائي الروسي الأميركي، وما أعقب ذلك من دعوة فرنسية لقمتين أوروبيتين عاجلتين واكبتهما تصريحات رسمية تعكس خيبة أمل أوروبية كبيرة بالولايات المتحدة.
موقف بوتين
ونقل تقرير صحيفة بيلد عن مسؤول أمني من أوروبا الشرقية قوله: “وفقا لمعلوماتنا، يتعلق الأمر بمطالب لبوتين منذ عام 2021، وهي انسحاب القوات الأميركية من جميع دول حلف شمال الأطلسي التي انضمت إلى الحلف بعد عام 1990”.
ويُحذّر التقرير من أن الانسحاب الأميركي المحتمل قد يُفضي إلى سيناريو كارثي للأوروبيين، يتمثل في احتمال قيام الجيش الروسي بغزو فوري لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، المعروفة حاليا بدول البلطيق، وربما تصعيد الأمر إلى حرب واسعة النطاق ضد بولندا.
لكن رغم هذه المخاوف، ينفي المسؤولون الروس سعيهم لغزو دول البلطيق أو أي دولة أوروبية.
ففي مقابلة مع شبكة فوكس نيوز في فبراير/شباط 2024 استبعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو بولندا أو لاتفيا.
وعندما سئل عن إمكانية ذلك، قال إن بلاده ليست لها أي مصالح فيهما، لكنه استدرك أن ذلك يمكن أن يحدث فقط إذا تعرضت روسيا لهجوم من بولندا أو غيرها.
وقد عقبت الصحافة الأوروبية على تصريحات بوتين بأنه قبل الهجوم على أوكرانيا في أواخر فبراير/شباط 2022 نفى العديد من كبار المسؤولين الروس مرارا وتكرارا إمكانية حدوث أي هجوم عسكري على كييف.
بوتين والحرب الجديدة
في السياق ذاته، أصدرت دول البلطيق -التي تشترك في حدود برية مع روسيا- سلسلة تقارير استخباراتية تحذر من خطط الرئيس الروسي بوتين لتوسيع الصراع العسكري إلى أوروبا.
ووفقا لتقرير للمراسلة الدولية جوانا يورك نشره موقع فرانس 24، فقد حذرت هيئة الاستخبارات الخارجية الإستونية من أن روسيا تعزز قواتها المسلحة بطريقة تعني الاستعداد لحرب مستقبلية مع حلف شمال الأطلسي.
وتقول يورك إن هذه التحذيرات تأتي في ظل مؤشرات متزايدة على وجود مساع لإضعاف تحالف الناتو، فبعد الهجوم القوي على أوروبا الذي شنه جيه دي فانس نائب الرئيس الأميركي في مؤتمر ميونخ للأمن في منتصف الشهر الجاري، والمحادثات الروسية الأميركية في السعودية رغم غياب أوكرانيا وأوروبا، انتشرت أخبار مفادها أن الولايات المتحدة في ظل الرئيس الجديد تخطط لسحب قواتها من دول البلطيق.
وتنقل المراسلة يورك عن مدير مركز الدراسات الجيوسياسية في ريغا عاصمة لاتفيا الدكتور ماريس أندزانس قوله إن “هناك شعورا بأن الجسر عبر الأطلسي إذا لم يكن انهار فقد تضرر بشكل خطير. فبعد أن سافر بايدن إلى كييف أثناء الحرب، أصبح ترامب الآن مستعدًا للسفر إلى موسكو. إنه تحول كبير!”.
ويوضح التقرير أن دول شمال البلطيق الثماني (الدانمارك وإستونيا وفنلندا وآيسلندا ولاتفيا وليتوانيا والنرويج والسويد) كانت من أشد المؤيدين لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي في عام 2022، والآن تكثف هذه الدول جهودها لمواجهة العدوان العسكري الروسي المحتمل عليها، سواء من خلال تعزيز إنفاقها العسكري أو عبر تعبئة المواطنين حول ما يجب القيام به عند نشوب صراع واسع النطاق.
ففي ليتوانيا، أعادت الحكومة فرض التجنيد العسكري وضاعفت حجم قواتها المسلحة وزادت الإنفاق الدفاعي إلى 3.45% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أحد أعلى المعدلات في دول الناتو.
ويقول الدكتور أندزانس “إذا حدث غزو روسي غدًا، فإن دول البلطيق الآن مستعدة بشكل أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عقد من الزمان”، مضيفا أنه مع ذلك “لا تزال هناك حاجة لمزيد من الإعداد، إذ لا تملك دول البلطيق دفاعًا جويًا حاسمًا”.
التهديد الروسي
تنقل المراسلة يورك عن تقرير استخباراتي صدر هذا الأسبوع في لاتفيا أن التهديد المتمثل في انخراط روسيا في صراع مباشر مع دولة عضو في الناتو في الأشهر 12 المقبلة يبقى “منخفضا”، ما دام الجيش الروسي يقاتل في أوكرانيا.
وهو ما يعني، حسب ما نقله التقرير عن الأستاذة في المعهد النرويجي للدراسات الدفاعية كاتارزينا زيسك، أن القلق قائم وخصوصا مع المساعي الراهنة لوقف الحرب في أوكرانيا.
ووفقًا للمخابرات اللاتفية، ستكون روسيا قادرة على استعادة قوتها العسكرية بما يكفي لتشكل تهديدًا كبيرًا لحلف شمال الأطلسي في غضون 5 سنوات على أبعد تقدير.
وتضيف أن الاستعدادات الروسية جارية حتى أثناء الانخراط في الصراع في أوكرانيا، فقد أمر بوتين في سبتمبر/أيلول الماضي بزيادة الجيش الروسي بمقدار 180 ألف جندي ليصل إلى 1.5 مليون فرد في الخدمة الفعلية، مما يجعله ثاني أكبر جيش في العالم بعد الصين.
وترى الباحثة زيسك أن روسيا تريد “تحقيق الأهداف التي تسعى إليها بشكل منهجي منذ أوائل العقد الأول من القرن 21، أي توسيع نطاق نفوذ روسيا وتقويض الولايات المتحدة كقوة دولية مهيمنة خصوصا في أوروبا”، مضيفة “إنها طموحات توسعية للغاية، وتشير إلى أن موسكو تستعد لمواجهة واسعة النطاق”.
لكن الباحث أندزانس يقول إن روسيا قد لا تكون عازمة على الدخول في الوقت الحالي في صراع عسكري مع دول البلطيق، لكنه شيء لا يمكن استبعاده.
وتؤكد المراسلة يورك أن دول البلطيق تكثف استعداداتها العسكرية للحرب مع روسيا، فقد حشدت ليتوانيا وسائلها الدفاعية بما في ذلك الأسلحة المضادة للدبابات على طول حدودها مع روسيا وبيلاروسيا، واتخذت تدابير مماثلة في لاتفيا وفنلندا وإستونيا، وهي جميعها أعضاء في الاتحاد الأوروبي والناتو وتشترك في حدود برية مع روسيا.
حرب هجينة قائمة
بيد أن الحرب الروسية على دول البلطيق قائمة في جوانب متعددة، حيث ينقل تقرير فرانس 24 عن ساسة وخبراء بلطيقيين -بمن فيهم رئيس لاتفيا إدغارز رينكفيكس- اتهامهم لروسيا باستخدام تكتيكات غير عسكرية لشن “حرب هجينة” على دول المنطقة.
فقد تحول بحر البلطيق حيث تتقاسم دول عدة من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو حدودًا بحرية مع روسيا إلى نقطة توتر دائم، فقد تم قطع العديد من كابلات الاتصالات والطاقة تحت الماء خلال الأشهر الأخيرة، وإن كانت موسكو نفت “تعمّدها” استهداف الأنابيب والكابلات البحرية.
وحسب المراسلة الدولية يورك، فإن روسيا تستخدم تكتيكات الحرب الهجينة بهدف زعزعة استقرار المجتمعات ونشر الفوضى، وذلك يقوي الشعور بأن شكلًا من أشكال الصراع مع روسيا قد بدأ بالفعل.
ويقول الباحث أندزانس إن روسيا تمارس عمليات تجسسية في منطقة البلطيق، سواء في المجال التقني أو في الفضاء الافتراضي.
وحسب تقرير فرانس 24، فقد شهدت العاصمة اللاتفية ريغا زيادة في عمليات التخريب التي تتهم روسيا بالوقوف وراءها، ومن أمثلة ذلك حادثة إلقاء قنبلة مولوتوف داخل “متحف الاحتلال اللاتفي” الذي يوثق الاحتلالات القومية والسوفياتية، وقد قال مدير المتحف “إن القنبلة تشكل هجوما على الدولة اللاتفية”.
وينقل التقرير عن الباحثة زيسك قولها إن روسيا “تلعب لعبة طويلة النفس باستخدام سلسلة متعددة من الأدوات، ومن المؤكد أنها ستستمر في استخدام كل الوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية للتأثير على السياسة واستقطاب الرأي العام وخلق الفوضى”.
وتخلص الباحثة في معهد سياسات الدفاع النرويجي إلى أنها لا ترى أي سبب يمنع روسيا من استخدام الوسائل العسكرية إذا تهيأت الظروف، فقد أثبتت مرارًا وتكرارًا أنها مستعدة للقيام بذلك.
وفي محاولة لمنع روسيا من مواصلة استخدام شبكة الكهرباء لابتزاز دول البلطيق، نجحت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا في 8 فبراير/شباط الجاري في الارتباط لأول مرة بشبكة الطاقة الأوروبية، وقطع الروابط التي تعود إلى الحقبة السوفياتية مع شبكة روسيا.
لكن بحسب تقرير للصحفية أوريليه أبينيه نشر على شبكة أوراكتيف، فإن فك الارتباط ذلك يشكل سببا آخر لزيادة مخاوف دول البلطيق من روسيا، فعندما اتخذت أوكرانيا خطوة مماثلة في عام 2022 شنت روسيا غزوها الشامل عليها.
حرب واسعة النطاق على أوروبا
لا يقتصر الخطر الروسي المحدق بأوروبا على دول البلطيق، فقد أوردت صحيفة بوليتيكو الأميركية في تقرير نشرته في 11 فبراير/شباط الجاري استنادا إلى معلومات استخباراتية أن روسيا قد تبدأ حربًا كبرى على أوروبا خلال 5 سنوات.
ونقلت بوليتيكو عن تقرير لهيئة استخبارات الدفاع الدانماركية أن روسيا إذا اعتبرت أن الناتو ضعيف عسكريا أو منقسم سياسيا، فقد تكون مستعدة لشن “حرب واسعة النطاق” على أوروبا.
واعتبرت الصحيفة أن هذا السيناريو يتعزز بشكل خاص إذا قدّرت روسيا أن الولايات المتحدة لا تستطيع دعم -أو لن تدعم- دول الناتو الأوروبية في حرب مع روسيا.
وتحدثت صحيفة بوليتيكو عن 3 سيناريوهات يمكن أن تحدث إذا توقف الصراع في أوكرانيا أو هدأ، وذلك انطلاقا من افتراض أن روسيا ليست لديها القدرة على شن حرب مع دول أوروبية متعددة في الوقت نفسه:
- أولا: في غضون 6 أشهر، تتوقع التحديثات أن تكون روسيا قادرة على شن حرب محلية مع دولة مجاورة.
- ثانيا: في غضون عامين، قد تشن روسيا حربا إقليمية في منطقة بحر البلطيق.
- ثالثا: في غضون 5 سنوات، قد تشن روسيا هجوما واسع النطاق على أوروبا، بشرط ألا تتدخل الولايات المتحدة الأميركية.
لكن صحيفة بوليتيكو تستدرك أن تقرير وكالة الاستخبارات الدانماركية لم يضع في الحسبان الزيادة المحتملة في قدرات الدفاع للناتو، إذ حث ترامب أعضاء الحلف على زيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من ضعف الهدف الحالي.
كذلك هدد ترامب بأن الولايات المتحدة قد تنسحب من الحلف إذا لم يستجب حلفاؤها لشروطها. بل أكثر من ذلك، نسبت بوليتيكو إلى ترامب قوله في عام 2024 إنه “سيشجع” روسيا على مهاجمة أي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي لا تفي بالتزاماتها المالية.
وفي تقرير لصحيفة “لوجورنال دي جيدي” الفرنسية، أوردت الكاتبة ماريان ليكاتش استنادا إلى تقارير استخباراتية أنه يمكن لروسيا حين تنتهي الحرب في أوكرانيا أن تهدد عسكريا الدول الأوروبية في حلف الناتو، باستثناء فرنسا.
وتحدث التقرير عن عملية إعادة تسليح ضخمة تقوم بها روسيا وعن حصولها على دعم كبير من الصين وإيران وكوريا الشمالية.
هل فات الأوان على أوروبا؟
في مقال نشر بصحيفة نيوزويك تحت عنوان “ماكرون كان محقًّا بشأن مستقبل أمن أوروبا.. فهل فات الأوان؟”، اعتبر الكاتب توم أوكونور أنه مع إشارة دونالد ترامب إلى تحول جيوسياسي دراماتيكي من خلال التقارب بشكل أوثق مع روسيا بعد 3 سنوات من الدعم الأميركي القوي لأوكرانيا في أعنف صراع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، يبدو أن دعوات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتكررة لبناء جيش أوروبي أكثر قوة وتكاملا واستقلالية عن الولايات المتحدة كانت محقة.
ولكن أوكونور يرى أنه حتى في ضوء المتغيرات المتسارعة والملحة والتي تقتضي اتخاذ قرارات سريعة، فإن ما يعانيه الاتحاد الأوروبي من بيروقراطية في التحرك وانقسام سياسي يجعل الشكوك تحوم حول إمكانية تحقيق ذلك الهدف، مع أن الفشل في تحقيقه -حسب أوكونور- قد تكون له عواقب وخيمة على مصير القارة.
ونقلت صحيفة نيوزويك عن أستاذ العلوم السياسية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باري بوسن قوله “إن الدول تحشد وتتعاون عندما تكون خائفة للغاية وليس قبل ذلك. ويبدو أن الأوروبيين الآن خائفون ومن المحتمل أن يبذلوا مجهودا أكبر، ولكن ربما ليس بالقدر الكافي، وربما يكون بعد فوات الأوان”.