في بلاغ رسمي، أعلنت رئاسة الجمهورية الفرنسيّة، في التاسع من يناير، تعيين رئيس حكومة جديد كان من المفروض أن يتم الإعلان عنه في السابع من يناير، ولكن ضغوط المعارضين لتعيين غابرييل أتال أخّرت ذلك دون أن تفلح في ثني الرئيس ماكرون عن تعيينه.

يعتبر غابرييل أتال (34 سنة) أصغر من تقلّد هذا المنصب في تاريخ فرنسا، وأقلّهم خبرة، وإن كان يتمتّع بشعبية محترمة قياسًا ببقية الفاعلين السياسيين. ولعل ذلك يعود إلى شيء من الإعجاب بأقواله الصارمة حيال بعض الموضوعات الحساسة، عندما كان وزيرًا للتربية، كتصريحه الناري بأن السلطة العلمية في المدرسة الفرنسية تحترم ولا تُنازع، وكذلك اللّائكية تُحترم ولا تُنازع، إشارة إلى ما عرف بمسألة العباءة.

لكن لماذا تخلّى الرئيس ماكرون عن رئيسة الحكومة السابقة إليزابيث بورن، ولماذا اختار شخصية ليست من أصحاب التجارب السياسية الثريّة؟ كيف تقبّلت الأحزاب السياسية هذا التعيين المفاجئ؟ ذلك ما سنحاول تناوله في هذا المقال.

إقالة بورن

صاحبَ تولّي رئيسة الحكومة السابقة إليزابيث بورن موجةٌ إيجابيةٌ، بالرغم من أن الرئيس ماكرون كان يرغب في تعيين غيرها، وذلك لأنّها على مستوى التاريخ السياسي الفرنسي تعتبر بورن المرأة الثانية التي أصبحت رئيسة للحكومة بعد إديث كريسون سنة 1991، أي بفارق زمني قدره إحدى وثلاثون سنة.

وعلى المستوى الحزبي الداخلي أسهمت بشكل مباشر في تخفيف حدة الخلافات بين الشخصيات النافذة في حزب الرئيس، مثل ما حصل مع وزيرَي العدل والداخلية، تثبيتًا لمبدأ الوحدة الحزبية، ولكن بعد ما يقرب من عشرين شهرًا قضتها في رئاسة الحكومة أصبحت في الأوساط الإعلامية الفرنسية تُنعت بلقب “مادام 49-3” باعتبار أنها في أكثر من مرّة حمّلت الحكومة مسؤوليتها، ومرّرت العديد من المشاريع دون عرضها على تصويت النوّاب. وكان مشروع التقاعد، الأكثر جدلًا من بين هذه المشاريع التي تمت المصادقة عليه بهذه الطريقة.

لم تكن بورن من شخصيات دائرة الرئيس الضيقة، ولم تكن من ضمن المقرِبين، ومع ذلك لم تكن تعصي للرئيس أمرًا، بل استخدمت بذكاء قدرتها الحوارية لتقنع المعارضة بضرورة التصويت لقانون الهجرة، ونجحت في ذلك، ولكنّها في الوقت نفسه أحدثت شرخًا كبيرًا في حزب الرئيس حيث لم يصوّت ربع النوّاب لصالح قانون الهجرة.

خروج بورن من سلطة التنفيذ إلى سلطة التأثير لا يرضي ماكرون، الذي صُنع على عين المنظومة؛ ليكون مطلق اليد في تطبيق أوامرها. ولذلك حان الوقت لإزاحتها حتى لا تتحول إلى شخصية منافسة للرئيس.

تعيين غابرييل أتال

انحصر الحديث في الأيام الأخيرة حول شخصيات ثلاث:

جوليان دو نورماندي 43 سنة وسيباستيان لو كورني 37 سنة وغابرييل أتال 34 سنة. وسرعان ما تركّز الحديث حول هذا الأخير ليقع تعيينه رئيسًا للحكومة. يبدو أن ماكرون راهن عليه لولائه المطلق ولشعبيته المتصاعدة ولصغر سنّه، في محاولة لإعادة الشباب إلى الفضاء السياسي.

ولقد علّق لوكاس بنيامين- وهو من النواب الخضر- على شبابية أتال قائلًا: إنّه لا يمثّل الشباب؛ لأن هناك فرقًا كبيرًا بين العمر الحقيقي والعمر المحسوس، الذي في تقديري يتجاوز الثمانين. وقضايا البيئة من آخر اهتماماته. ولكن في الحقيقة، يتجاوز الأمر ماكرون وخياراته.

حرصُ الغرف النافذة على تعيين شاب بهذه الخبرة السياسية المتواضعة يثير أكثر من سؤال. صحيح أن ماكرون منذ تولّيه رئاسة الجمهورية لم يعيّن رئيس حكومة مواليًا له كمثل ولاء أتال، ومع ذلك فإنّنا نقدّر أن تعيين أتال ليس من أجل شخص ماكرون ولكن من أجل الماكرونية، ومن أجل استمرار المنظومة التي أسهم ماكرون في تأسيسها؛ لخدمة الشركات الاقتصادية الكبرى، والتي جعلت الاهتمام بالشأن الوطني في أسفل قائمة اهتماماتها.

تعيين أتال يعكس أيضًا النفوذ القوي للتيار المثلي في مواقع القرار. هذا التيار الذي تغلغل في الأوساط الفنية والمالية، ثم تطلّع إلى الوصول إلى مواقع القرار السياسي وبشكل واضح ومعلن.

الأحزاب السياسية وتعيين أتال

تنوعت ردود أفعال الأحزاب السياسية بين مؤيّدة ومتحفظة ورافضة:

يرى حزب “الإحياء” – صاحب الأغلبية الحاكمة في تعيين أتال- فرصة للدفع نحو تحقيق كل الإصلاحات المأمولة، وذهبت أورور بارجي إلى أن أتال يعكس روح الجرأة والتجاوز التي تحتاجها البلاد في هذه المرحلة.

أمّا الجمهوريون فقد فضلوا أن يكونوا حذرين في تصريحاتهم، وإعطاء أتال فرصة المحاولة، ومحاسبته على المنجزات المتحققة وليس على الأقوال، كما عبّر عن ذلك برونو ريتايو رئيس كتلة الجمهوريين في مجلس الشيوخ، أما رئيس حزب الجمهوريين إيريك سيوتي فقد قال: “أبدي تمنّياتي الخالصة لرئيس الحكومة الجديد، لأنّنا نتمنى دائمًا الأحسن لبلدنا، حتى يسير بعزم وثبات على طريق النهوض”.

أما حزب اليمين المتطرف- المعروف باسم حزب التجمع الوطني- فقد رأى أن ماكرون لم يجد حلًا لخيبات عهدته المتراكمة فلجأ إلى التّشبّث بشعبية أتال التي ستتآكل بفعل الخيارات السياسية والاقتصادية الكارثية لماكرون، كما جاء على لسان رئيس الحزب جون بارديلا الشاب ( 29 سنة)، الذي سيكون منافسًا حقيقيًا للشاب أتال.

من ناحيته قال إيريك زمور رئيس حزب “الإسترداد”، وهو لا يقل تطرفًا عن حزب التجمع الوطني؛ إن ماكرون سيظل مثل الخروف يدور حول نفسه حتى إذا توقف سقط.

ولكن النقد الأكثر حدة جاء على لسان جان لوك ميلنشو رئيس حزب فرنسا المتمرّدة الذي رأى أن أتال سيعود إلى منصبه الأصلي ناطقًا باسم الحكومة، حيث لم يعد هناك وجود لمؤسسة رئاسة الحكومة، لأن الإمبراطور لا يريد أن يقتسم معه أحد الحكم، وأضاف أنها لمصيبة حقًا لشعب أصبح أطفاله أمراء.

مؤسسات وظيفية

تعودنا في البلاد العربية والإسلامية أن نتساءل عن الأدوار التي تقوم بها ما أسميناها خطأ بالدولة العميقة، ولكن يبدو أن السؤال نفسه ينطبق أيضًا على الدول التي تصف نفسها بالديمقراطية.

لقد تحولت مؤسسات الدول القُطرية إلى مجرّد مؤسسات وظيفية لخدمة الاقتصاد المعولم، ولم تعد تعنيها بشكل مباشر قضايا الوطن والأمّة. وهذا الانحدار التي تشهده المؤسسات الوطنية سيغذّي بالضرورة النزعات الشعبوية ودعوات الاستقلالية، ولكنّها لن تستطيع أن تفعل شيئًا مادامت ستظل أسيرة لمنظومة الاقتصاد الرأسمالي المعولم.

 

شاركها.
Exit mobile version