رام الله- في وداعه رسالة للحفاظ على الحكاية الشعبية وصندوق العجب، وفي حضوره العجب والمرح. هنا في “دار الزرو” في رام الله القديمة تابع الفنان عادل الترتير التحضيرات لافتتاح معرضه “سيرة حياة صناديق العجب”، لكن من دون صاحب الصناديق الذي رحل تاركا خلفه إرث 50 عاما من العطاء المسرحي.

وفي إحدى ردهات المعرض تجد 3 مجسمات ضخمة لصناديق العجب، طولها 7 أمتار وعرضها متران ونصف بحجم مناسب للمسارح، صنعها عادل ولونها، ووقف خلفها حيث التقطت له صورة الوداع، وفي اليوم التالي في العاشر من يوليو/تموز توفي ابن مدينة اللد المولود عام 1951 وعاش في بلدة رافات قرب مدينة رام الله.

معرض صاحب العجب.. المشهد الأخير

في التراث الشعبي يشكل الصندوق عمودا للحكاية الشعبية وتنقلها، فقد كان صاحبه يحمله على كتفيه رغم ثقله، ويطوف به البلاد يحاكي الأطفال بأجواء مفرحة، كما يشكل علامة استثنائية للفنان الراحل الذي تفرد به، وجاء هذا المعرض ليحاكي رحلة تطور الصناديق الـ12 والتي صنعها عادل على مدى 3 عقود، وبعض الكنوز المسرحية التي أبدعها منذ مطلع السبعينيات.

في الاستقبال، يجلس أحفاد الترتير وإلى جانبهم الزي التقليدي المزركش لصاحب العجب والذي عُلِّق مع قبعة إسفنجية ملونة يدويا، وفي آذان الزوار تتردد جملته الشهيرة وهي الافتتاحية التقليدية لحكاياته “تعوا وعوا شوفوا واسمعوا” و”تعَ وتفرج يا سلام على عجايب الزمان.. تعَ وتفرج وشوف رح نحكي عالمكشوف”.

تحدث ابنه علاء لموقع الجزيرة نت عن المعرض فقال: “هو جزء من فكرة جماعية لتأريخ المسرح الفلسطيني، ومن توثيق متكامل شمل إطلاق موقع إلكتروني يحتوي أكثر من 4 آلاف مادة عن رحلة الوالد وهو أكبر وأول موقع يوثق حياة فنان فلسطيني وأعماله بهذا الحجم”.

وأثناء تجولنا في المعرض كان يقول موضحا: “هذه القطعة من الصندوق هي جزء من سريري وأنا رضيع، وتلك منحوتات الوالد الخشبية، هذه القطعة الخشبية بدأ بصنعها لي ولم يكملها ومعها أدواتها، هنا استخدم في صناعة الصندوق الخيش، أما هذه الصناديق الصغيرة فصنعها لأحفاده، وفي هذه الغرفة تصميم رقمي ثلاثي الأبعاد لطريقة صناعة الصندوق” ثم أشار للجوائز والدروع التي حصل عليها، وكان آخرها درعا تكريميا من مجموعة من الفنانين قبل وفاته بأسبوعين.

جوري الترتير إحدى حفيدات الراحل مع الصندوق الخشبي بحجمه الصغير الذي صنعه خصيصا لأحفاده (الجزيرة)

الترتير.. علامة الاحتراف في المسرح الفلسطيني

تحدث المخرج السينمائي والفنان درويش أبو الريش عن الراحل قائلا: “ربطتني به علاقة التلميذ بأستاذه. كنت مهتما بالفن منذ صغري، وكنت أتابع بشغف فرقة “بلالين” التي ضمت أسماء بارزة مثل عادل ومصطفى الكرد، فرنسوا أبو سالم، إميل عشرواي، وإبراهيم جبيل. كان الراحل فنانا أصيلا، نابضا بالوطنية والانتماء، وإنسانيته عميقة. وهو من أبرز الممثلين الكوميديين الذين عرفتهم الساحة الفلسطينية، وقد وهب حياته للمسرح، الذي جعله وسيلة للتعبير عن الواقع الفلسطيني، خاصة في مرحلة ما بعد النكسة”.

وأضاف: “قدّم مع زملائه أعمالا أعادت إحياء الذاكرة الجمعية، وجعل من الفن أداة مقاومة. أسس فرقة “صندوق العجب”، ولا أنسى أول أعمالها: مسرحية “لما انجنينا” عام 1976، والتي كانت من أوائل التجارب الاحترافية في المسرح الفلسطيني. لم يكتفِ بذلك، بل حمل فرقته إلى بيروت، حيث خاض تجربة المسرح الرحباني، في خطوة جسدت التلاقي بين الفن والمقاومة”.

الراوي والسادن للتراث الفلسطيني

تناول الترتير عبر الصندوق نحو 16 حكاية سواء من تأليفه مثل “حكاية أبو العجب” وأخرى من الموروث الشعبي والتي وصفها ابنه علاء إنها مليئة بالقيم والمبادئ، تُعلّمنا كيف نفكر ونقاوم، وأن يكون كل ما نقوم به مجبول بالحب والصدق.

علاء الذي شارك والده عمله منذ الصغر حاملا الصندوق وممثلا في بعض أعماله المسرحية، تأثر بهذه التجربة فقال: خلال عملي بالسياسة الدولية والاقتصاد السياسي أجد نفسي أطوع هذه الحكاية في نصوص مقالاتي، بل وأعددت مقاربة بين حكاية “نُص نصِيص” وحالتنا السياسية التي نعيشها اليوم”.

واعتبر درويش أبو الريش أن الراحل الترتير علق الجرس فيما يتعلق بالحفاظ على الحكاية الشعبية، وقال “صندوق العجب موجود في الحارة الشعبية وفي المدينة، وهو شكل سينمائي تقليدي، يحكي عبره عن قصة فيما تدور الصور المتحركة عبر فتحت فيه، رابطا بين أجزاء فلسطين التاريخية”.

المعلم والأب.. عادل كما عرفته الأجيال الجديدة

بدورها، تحدثت الفنانة بيان شبيب لموقع الجزيرة نت عن الراحل فقالت: “تعرفتُ على الفنان القدير في لحظة مفصلية من تاريخنا، بعد عودتنا إلى الوطن إثر اتفاقية أوسلو، كنتُ حينها صغيرة أحاول فهم هذا الوطن الذي عدت إليه محمّلة بالحنين، والقلق، والتطلعات المؤجلة” وأضافت “كان لقاؤنا الأول  في مسرحية “قراقوش والموسيقى” للمخرج فتحي عبد الرحمن، ضمن مشروع فني ضخم جمع الأطفال مع نخبة من الفنانين الفلسطينيين الكبار”.

وتابعت: لعب الترتير دور قراقوش بحضوره الطاغي، يمزج بين المرح والجد، وبين الحكاية الشعبية والرؤية السياسية، هو ليس ممثلا فقط بل قلب العمل وروحه، كان يجلس معنا ويضحك، يروي لنا من ذاكرته الزاخرة، ويمنحنا من خبرته الفنية الطويلة عن تاريخ المسرح الفلسطيني وهو من مؤسسيه.

وما زالت شبيب تذكر كيف أخرج الصندوق الذي شكّل سيرته كحكواتي وجاب به المخيمات والمسارح والشوارع، صندوق يعبر عن ذاكرة وطن. وأكدت أنها بعد احترافها المسرح شهدت حرصه الدائم على حضور اجتماعات المسرحيين، وتأكيده على ضرورة التكافل المسرحي، وتأسيس بنية تحتية مسرحية تحفظ ذاكرتنا الفنية، بما يخدم الفنان.

***داخلية*** من صور المعرض والتي تظهر أضخم صندوق عجب لاستخدام المسارح صنعها الراحل الترتير وإلتقط آخر صورة له قبل رحيله وقبل المعرض ومع ابنه علاء وأحد أقاربه، وتم تعليق الصورة على مدخل المعرض
من صور المعرض والتي تظهر أضخم صندوق عجب لاستخدام المسارح صنعها الترتير (الجزيرة)

صندوق العجب.. من رام الله إلى العواصم العربية

اليوم هناك 3 صناديق عجب صنعها الترتير في مدينتي القاهرة والشارقة، وحول هذه التجربة تحدث الفنان والمخرج غنام غنام مدير التأهيل والمسرح المدرسي في الهيئة العربية للمسرح ومقرها الشارقة: في إطار تحضيرنا لملتقى العرائس والفنون المجاورة، بحثنا عمن يقوم بتصنيع صندوق العجب عربيا، فلم نجد سوى الفنان الفلسطيني عادل الترتير وهو مؤشر خطير على اندثار هذا الفن.

وأضاف أن “الفنان الترتير صنع لنا صندوقا ملونا بألوان الطعام من كركم وقرفة وغيرها وجلبه معه من رام الله، وصنع آخر في الشارقة كتحفة نادرة وبزخارف إماراتية كون الصندوق لعب دورا مهما في الحياة الإماراتية وتحديدا حياة صاحب السمو حاكم الشارقة الشيخ الدكتور محمد القاسمي الذي شاهد الصندوق وهو في العاشرة وتأثر به”.

وأشار إلى أن الترتير ساهم في إنقاذ هذا الفن ونقله وتعليم عشرات الشباب عبر برامج الهيئة صناعته وهم من المغرب ومصر والأردن والعراق والجزائر وتونس.

وداع مسرحي.. حديث اليوم الأخير

تحدث الفنان درويش أبو الريش عن الجلسة الأخيرة مع الفنان قبل وفاته بيوم فقال: “يومها تحدثنا عن  كل الفنانين الذين مروا في مسيرتنا الفنية وأعماله المسرحية، كان حديثا وداعيا” وأضاف كان عادل يتحدث عن افتتاح المعرض بشغف وفرح لا يوصف.

وقال الفنان المقدسي أحمد أبو سلعوم إنه برحيل الترتير فقد عنوانه في رام الله والصديق النقي العنيد الملتزم بمبادئه في مسرح يعتمد على النقاش الجاد، كنا نتشارك همومنا كلاجئين وما عشناه من فقر عدا عن حياة الفنانين القاسية. هو فنان يمثل المراحل كلها بعد النكسة، لم ينقطع لحظة عن فنه حتى في أقسى ظروف مرضه بقي المسرح محور حديثه في إصرار على رسالته الفنية.

صندوق العجب وعليه الجملة الافتتاحية التقليدية الشهيرة لصاحب صندوق العجب قبل أن يبدأ سرد حكايته للأطفال (الجزيرة)

الإرث الفني بين المتحف والاستمرار.. من يحفظ الحكاية؟

قال علاء إن “التحدي الآن يكمن فيما إذا كان الصندوق سيذهب إلى المتاحف أم يستمر العمل على نشره، كان في افتتاح المعرض المئات من أجيال مختلفة، ولمسنا رغبة تلاميذه في مواصلة مشواره، مؤكدا أن المعرض يحتوي على جزء من مقتنياته لذا نفكر بتحويل مقر صندوق العجب في رام الله القديمة ليكون المقر الدائم لهذا الإرث الذي يتطلب رعاية رسمية وتعاون المؤسسات الثقافية ليبقى هذا التراث حيا”.

وأكد غنام غنام على ضرورة الاستثمار في تلامذة عادل لأن عمله يعتبر جزءا من المقاومة الثقافية التي تعتبر الحكاية الشعبية أهم دعائمها، ونحن معنيون بدرء خطر محو الهوية والثقافة الفلسطينية من قبل الاحتلال، ولا بد من التعامل مع أبو العجب كأيقونة فنية نضالية مثل ناجي العلي وغيرها من أيقونات.

وقال أبو سلعوم إن “الترتير يستحق التكريم الذي يعتبر أقل من تجربته أمام أكثر من نصف قرن من العطاء، ولا أقل أن يطلق اسمه على معالم مدينة رام الله التي جابها فنا وحبا وانتماء. وطالب الفنانين أيضا بضرورة إيجاد إطار حاضن للفنانين يحمي حقوقهم وأعمالهم، وتأسيس متحف دائم لأعمال الترتير بدعم من المؤسسة الرسمية الفلسطينية.

شاركها.
Exit mobile version