رحل أبو إبراهيم في نهاية مشهدية أسطورية اتسمت بالجلال الفائق. وصار أول رئيس فلسطيني استشهد في معركة خاضها وجهًا لوجه في الخطوط الأمامية، وليس في عملية اغتيال.

كان يحيى السنوار في أكثر الأماكن خطورة في العالم، بشارع ابن سينا في حي السلطان غرب مدينة رفح، وهي المنطقة التي تم إخلاؤها منذ خمسة أشهر. لم يكن مختبئًا في الأنفاق ولا متنكرًا بين النازحين، كما ادعت الأبواق الإسرائيلية، وإنما كان في قلب الميدان مشتبكًا وسط المقاتلين، ليس محاطًا بالرهائن، أو بدرع بشري أو حتى بكتيبة حراس من جنوده.

بعد اشتباك مع قوات الاحتلال وإصابته بشظية، لجأ يحيى السنوار إلى أحد المنازل المهجورة شبه المحطمة ليستند إلى مقعد، وهو ينزف من ذراعه الأيمن، وبيده اليسرى ألقى على جنود الاحتلال قنبلتين يدويتين منعتاهم من التقدم خلفه داخل المنزل. فأرسلوا مسيرة تتبعه داخل المكان، وإذا به ينهرها بعصا التقطها من الأرض.

رأيناه مرتديًا زيّه العسكري، ملثمًا بالكوفية، وبين يديه بارود، وفوق صدره جعبة حرب، لا يحمل في جيبه سوى مسبحة وكتيب صغير للأذكار والأدعية و800 شيكل، ومسدسه الشهير الذي أخذه من ضابط إسرائيلي حاول التجسّس على حماس عام 2018.

بعدما حددت المسيرة الإسرائيلية مكانه، تلقى قذيفة أصابته في رأسه وقتلته. حدث كل ذلك بالصدفة البحتة، وليس جراء الرصد أو الاختراق، حتى الذين اشتبكوا معه كانوا ضمن عناصر في كتيبة للمشاة، وليسوا من القوات الخاصة.

ولم يكتشف الإسرائيليون حقيقته إلا بعد عدة ساعات، حين حاولوا التعرف على جثث القتلى، وعندئذ حدثت المفاجأة الكبرى ووجدوا أنفسهم أمام جثة الرجل المهيب الذي هزمهم وزلزل أقدامهم في طوفان الأقصى.

وحين تسرَّب الخبر وأحدث دويه المشهود في أرجاء العالم، حتى صدق فيه القول إنه كان زلزالًا في حياته وزلزالًا في مماته، تمّ ذلك بسرعة قبل أن تهرول سلطات الاحتلال إلى الدخول على الخط، وتحاول الإيحاء بأنها حققت إنجازًا وانتصارًا عسكريًا.

منذ ذلك الحين وقصته على كل لسان. رغم أن نَجمه بدأ يصعد عاليًا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبلغ ذلك الصعود ذروته في صورته الملحمية في لحظاته الأخيرة حين جلس بعد إصابته وراح يطارد المسيرة قبل أن يلقى حتفه.

وهي الصورة التي خلدت ثباته وأيقونيته، وأطلقت زلزالًا آخر يُحسب للرجل. لذلك لم يكن غريبًا أن تنتشر الصورة في أنحاء الدنيا وتجتاح منصات التواصل الاجتماعي، حيث أثارت ردود أفعال جماعية وإعجابًا عارمًا دمّر التأثير النفسي الذي عوّلت عليه القيادة الإسرائيلية جراء استثمار اغتياله.

هذا الطوفان الثاني لم تتحمّله إسرائيل، فأشاعت عبر ترسانتها الإعلامية، ممثلة في كبرى الصحف الأميركية، سرديات خلاصتها أن إستراتيجيتها القتالية الفائقة هي التي أجبرت السنوار على الخروج من تحت الأرض لتتمكن من قتله.

وكما جاء مشهد السنوار الأخير بنتائج عكسية، لم تنجح تلك التقارير في تشويه صورته البطولية أمام جموع الداعمين للمقاومة، بل رسّخت بطولته عندما كشفت عن رفضه القاطع عرضًا قُدم له في أوّل شهور الحرب بمغادرة غزة إلى مصر.

في العالم العربي كان صدى قتله قويًا ومدهشًا. فقد سارع الأزهر الشريف إلى رثائه في بيان وجّهه إلى الأمة الإسلامية حيّا فيه “شهداء المقاومة الفلسطينية الأبطال”، كما نعتْه نقابتا الصحفيين، والمحامين المصريين.

وتحول اسمه على الفور إلى هتاف من كلمتين، صاغه الكاتب عارف حجاوي في عبارته الشهيرة “يا حيّا السنوار”، بينما انتشرت رسومات وصور تجسد مشهده الأخير، كما عبر عنها عشرات الفنانين والمبدعين، فقدّموه في تجليات من الثبات والكبرياء.

وتحولت إحدى الرسومات التي صوّرته ممسكًا بعصاه بجوار حنظلة ناجي العلي إلى إعلان صامت لآلاف الحسابات العربية التي اختارتها للتعبير عن تأثرها به ودعمها له. وتحولت العصا ذاتها إلى أيقونة يُضرب بها المثل في التعبير عن المقاومة.

وتداولت المواقع بيانًا أصدرته عائلة أبو طه، مالكة بيت رفح المهجور الذي سكنه أبو إبراهيم، (وقيل إنه سيُهدم جراء ذلك)، عبروا فيه عن افتخارهم بتواجده في بيتهم وبأن آخر عصا قاوم بها المحتل كانت من الدار. ولم تمضِ أيام حتى أُضيف إلى الأمثال العربية مثل يقول: “رميت بعصا السنوار”، ليدل على أنك أديت ما عليك بكل ما أوتيت من شجاعة وقوة، رافضًا الاستسلام.

ذلك غيض من فيض مشاعر الحفاوة والإكبار التي ما زالت تتردد في وسائط التعبير المختلفة في العالم العربي، إلى حدٍّ أعجز عن حصرها.

لكن ملاحظتي الأساسية – التي أرجو أن أكون مخطئًا فيها – أن تلك الحفاوة العربية كانت معبّرة عن حماس المجتمعات أكثر من تعبيرها عن توجّهات السلطات التي كان لبعضها، وليس كلها، مواقف سلبية إزاء المقاومة.

وهو ما عبّرت عنه منابرها الإعلامية طول الوقت للأسف. أبرزها على الإطلاق حدث بعد مقتل السنوار، عندما تبنّت إحدى تلك القنوات ذات الموقف تقريرًا بثته على شاشتها، اتهمت فيه قادة المقاومة بالإرهاب.

ولأنه كان صادمًا وفجًّا، فقد أثار موجة عالية من الاستياء والغضب من جانب الرأي العام العربي، وصل صداها إلى الجهات التنفيذية المعنية في الدولة الشقيقة. فتدخلت بسرعة وقامت بحذف التقرير، وأعلنت أنها أحالت المسؤولين عن إعداده للتحقيق. تلك خطوة مقدّرة لا ريب.

الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن أغلب المعلومات عن المقاومة الفلسطينية التي تروّج لها الصحافة الغربية، والأميركية بوجه أخص، تعتمد على تسريبات من مصادر إسرائيلية. وبين أيدينا نماذج لا حصر لها من ذلك القبيل، يلحظها أي باحث، وكلها تؤدي دورها في التشهير بالمقاومة وشيطنة قيادتها وأهدافها.

ومما يؤسف له أن الصحف العربية والبرامج التلفزيونية، وفّرت مادة غزيرة من ذلك القبيل، تصف السنوار بأنه “رجل غزة الدموي”، بل وتطالب حركة حماس بالاعتذار عن 7 أكتوبر/ تشرين الأول، معتبرة العملية مشروع خراب استهدف المدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين.

لأنه كان رجلًا قليل الكلام، فإن السنوار آثر دائمًا أن يتحرك في الظل. وموقفه هذا فتح الأبواب واسعة لتصويره على غير حقيقته، ولأنه تولى مسؤولية أمن الحركة التي أوكلها إليه مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، فقد أتاح ذلك لناقديه أن ينسجوا من حوله قصصًا صورته باعتباره دمويًا ومغامرًا متطرفًا ورّط حماس والفلسطينيين في مسارات ومغامرات أسهمت فيما آلت إليه الأمور في وقت لاحق.

وذلك موضوع يطول الحديث فيه وتتعدد الاجتهادات. ولي مصدران أرجع إليهما في ذلك، هما: روايته التي كتبها خلال سنوات سجنه التي استمرت 22 عامًا، وسجل فيها رحلته وتجربته الشخصية والنضالية، والوثيقة التي أصدرتها حماس في مطلع العام الحالي، تحت عنوان: “هذه روايتنا – لماذا طوفان الأقصى؟”.

في روايته، انتحل اسم “أحمد”، وحدثنا عن طفولته في المخيم الذي وُلد فيه مع جموع اللاجئين. ولأنه وُلد في 1962، فقد شاهد بعينيه الآثار المباشرة لهزيمة عام 1967 التي اضطر خلالها للاحتماء داخل حفرة تحت الأرض من غارات الاحتلال.

وهناك رسم معاناة أبناء المخيمات مثله في غزة، الذين قدّر لهم أن يصارعوا الحياة على جبهتين؛ إحداهما لمقاومة الفقر والإصرار على الاستمرار في الحياة، والثانية لمقاومة الظلم والذل الذي أنزله بهم الاحتلال.

تذكرنا التفاصيل التي أوردها بالحياة الشاقة التي لازمته منذ طفولته، شأنه شأن عشرات الآلاف من الفلسطينيين، إلى أن توفرت له فرصة الالتحاق بالجامعة الإسلامية التي جذبته للانخراط في خلايا مقاومة الاحتلال. لاحظ من البداية حرص إسرائيل على غرس عملائها بين جموع الطلاب، فنبهه ذلك إلى أهمية البدء بتطهير صفوف المقاومين من العملاء. وذلك الهاجس الأمني لازمه وكبر معه طول الوقت حتى صار محورًا لدوره الذي ساهم في تحقيق عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

حُكم على السنوار بالسجن مدى الحياة وهو في السابعة والعشرين من عمره (خرج منه على مشارف الخمسين)، فمثّل ذلك تجربة صقلته ونقلته إلى طور آخر من النضج هيّأه ليصبح مشروع قائد كبير، اقترن لديه الحماس بالوعي العميق والمعرفة الواسعة والتصميم الأكيد. فدرس اللغة العبرية وتَمكّن منها حتى تابع إعلام العدو جيدًا، وركز على الكتابات السياسية الإسرائيلية، وترجم ثلاثة منها إلى العربية.

وإذ وجّه عنايته إلى ما صدر عن قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فإنه لم يتوقف عن محاورة سجّانيه حول أوضاع السجن واحتمالات المستقبل، ونقل عنه أحد معالجيه – الطبيب وضابط المخابرات الإسرائيلي بوفان بليتون – قوله في عام 2004 إنهم في حماس سيكونون مستعدين للتوقيع على هدنة مع الحكومة الإسرائيلية لمدة 20 عامًا.

وطوال سنوات سجنه ظل شاغله الأكبر هو كيفية الاحتشاد للخلاص من الاحتلال، مثلما نقل عنه رفاقه عندما سألهم بعد إطلاق سراحه في صفقة تبادل الأسرى عام 2011: “لماذا لم تستطيعوا تحرير فلسطين إلى الآن؟”.

كشفت نتائج انتخابات حماس الداخلية في فبراير/ شباط 2017 تطورًا هامًا في حركة المقاومة، عندما اختارت السنوار مسؤولًا عن القيادة في غزة، فقدّم بذلك نموذجًا للجمع بين الخبرة السياسية والعسكرية. وحدث ذلك بعد مرور 10 سنوات من الحصار، تعرّض خلالها القطاع لثلاث حروب.

ولم يمرّ عام على انتخابه حتى بدأ في تحريك المسار، بحيث دفع بحركة “مسيرات العودة الكبرى” المدنية السلمية في 30 مارس/ آذار 2018، التي حاولت خلالها الجماهير الفلسطينية في القطاع الاحتجاج عند الحدود بين غزة وإسرائيل على استمرار الحصار، وإعادة إحياء الدعوة إلى حقّ العودة. وعندما لم تحقق هذه المسيرات التأثير المطلوب بعد عام، أعدّ عدته لعملية عسكرية لاختراق الحدود، ومخاطبة العدوّ باللغة الوحيدة التي يفهمها.

في الإجابة عن سؤال “لماذا الطوفان؟”، حددت حركة حماس أهدافها من عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في هدفين أساسيين: أسر جنود العدو ومقاتليه من أجل إطلاق سراح الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ورفع الحصار المستمرّ منذ 17 عامًا.

وهذه المطالب عرضتها الوثيقة على خلفية مواجهة مخططات تهويد المسجد الأقصى، والسيطرة على الضفة الغربية وتهجير شعبها، وهو ما أثار السؤال التالي: “بعد أكثر من 75 عامًا من الاحتلال والمعاناة، وإفشال أي أمل بالتحرير والعودة، والنتائج الكارثية لمسار التسوية السلمية، ماذا كان يتوقع العالم من شعبنا أن يفعل؟”.

هذا النصّ المهم لم يستوقف كثيرين – وأنا منهم – في غمرة الانبهار بما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الذي تحدد في إطاره هذا وليس أكثر.

فالمؤيدون اعتبروه زلزالًا أيقظ أحلامهم في استعادة الوطن، وتفاؤلًا بالخلاص من الاحتلال وانتهاء عقود الذل والحصار. أما الإسرائيليون فقد جُنّ جنونهم، واعتبروه عارًا وتهديدًا وجوديًا لم يألفوه في تاريخهم (وهو كذلك)، حتى تصوروا أن الحل يكون بالانتقام وإبادة الفلسطينيين من الوجود حتى لا تتكرر الصدمة مرّة أخرى.

وخلال العام الذي جرى، أصبح العالم يتابع المشهد المتفجر على الهواء مباشرة غير مبالٍ بالدماء الغزيرة التي سالت أو جحيم الانتقام الإسرائيلي الذي شنته مع سبق الإصرار والترصد.

وكان مدهشًا أن الأمر التبس على كثيرين، بحيث طمست لديهم الخطوط والفواصل بين الجاني والضحية، وبين القاتل والقتيل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version