الرباط– يقترب المغرب تدريجيا من الانضمام إلى نادي الدول الفاعلة في صناعة ألعاب الفيديو، مدفوعًا بتسارع التحولات الرقمية وازدياد الاعتماد على الإنترنت وتكنولوجيا الهواتف الذكية.

وتُظهر بيانات منصة “ستاتيستا” أن المغاربة أنفقوا ما يقارب 2.27 مليار درهم (227 مليون دولار) على ألعاب الفيديو خلال عام 2024، وهي سوق يهيمن عليها الشباب؛ إذ تمثل الفئة العمرية ما بين 14 و35 سنة حوالي 70%.

من جهته، يبيّن تقرير صادر عن شركة “نيوزو” لعام 2025 أن سوق ألعاب الفيديو على الحاسوب والمنصات في العالم بلغ 80.2 مليار دولار في سنة 2024، مع توقعات ببلوغه92.7 مليار دولار بحلول 2027.

ويشير التقرير إلى أن الأسواق الناضجة في أميركا وأوروبا قد بلغت حد التشبّع من حيث عدد اللاعبين، في حين تظل الأسواق الناشئة -ومنها المغرب- قادرة على استقطاب موجات جديدة من المستخدمين، مما يمنحها ميزة إستراتيجية في جذب الاستثمارات وتوطين الإنتاج الرقمي.

وبخلاف اللاعب الأوروبي أو الأميركي، لا يزال المستخدم المغربي في طور تشكيل هويته الرقمية، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام إطلاق ألعاب محلية تحمل طابعًا ثقافيا أو تعليميا قبل أن تستقر العناوين العالمية في أذهانه.

ورغم بروز ملامح أولية لبنية صناعية من خلال منصات حاضنة واهتمام رسمي متزايد، ما تزال تحديات البنية القانونية والتمويل والوصول إلى الأسواق العالمية قائمة.

استهلاك صاعد

تشير التوقعات إلى ارتفاع إجمالي إيرادات سوق ألعاب الفيديو في المغرب إلى نحو 3 مليارات درهم (300 مليون دولار) بحلول 2027، بمعدل نمو سنوي يصل إلى حوالي 9.4% خلال الفترة 2024–2027، وهو ما يعكس تحولًا لافتًا في سلوك الاستهلاك الرقمي داخل المملكة.

حورية قلقول (وسط): تصميم الألعاب في الجامعة هو أداة تعليمية وفرصة مهنية داخل الدينامية الرقمية الجديدة (الجزيرة)

وتُدرج هذه الأرقام ضمن سوق إقليمية صاعدة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بلغ حجمها سنة 2023 نحو 7.25 مليارات دولار، مع تقديرات بوصولها إلى 14.2 مليار دولار بحلول 2030، بحسب بيانات شركة الأبحاث “غراند فيو ريسيرش”.

ويعتبر أستاذ الاقتصاد الرقمي ياسين أعليا أن الموقع الجغرافي للمغرب، إلى جانب ديناميته الديمغرافية وزخمه الشبابي، يمنحه امتيازًا إستراتيجيا داخل سوق إقليمية وعالمية تشهد توسعًا متسارعًا.

وفي تصريحه للجزيرة نت، أوضح أن المغرب يستهدف قاعدة استهلاكية ضخمة وجاذبة للاستثمار ضمن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى السوق المحلية التي يُقدر فيها عدد اللاعبين المغاربة بـ3 ملايين لاعب منتظم، و15 مليون لاعب غير منتظم.

أما رئيس الجمعية المغربية لمطوري الألعاب الإلكترونية، عبد الله العلوي المدغري، فيرى أن حجم الإنفاق الحالي يعكس دينامية القطاع وتزايد الاهتمام الحكومي به، لا سيما من وزارة الشباب والثقافة والتواصل.

وأكد للجزيرة نت أن بلوغ رقم معاملات سنوي بقيمة 50 مليار درهم (5 مليارات دولار) خلال السنوات الخمس المقبلة يُعد هدفًا مشروعًا، شريطة إدماج أبعاد معرفية وتربوية في تصميم الألعاب، لتحويلها إلى أدوات تنموية لا مجرد منتجات ترفيهية.

 حاضنة للشركات الناشئة

ضمن جهودها لتعزيز مكانة المغرب في صناعة الألعاب الإلكترونية، أطلقت الحكومة مبادرات نوعية، أبرزها إنشاء حاضنة في الرباط تضم 9 شركات ناشئة، بميزانية تصل إلى 260 مليون درهم (26 مليون دولار).

وتهدف هذه الحاضنة إلى تمكين الشباب من ولوج سوق الشغل الرقمي، وتهيئة بيئة مشجعة لمطوري الألعاب في مختلف التخصصات، بدعم من وزارات الاستثمار والانتقال الرقمي والتكوين المهني.

وتشير تقديرات البنك الدولي (2023) إلى أن كل مليون دولار يُستثمر في الصناعات الرقمية يولّد نحو 180 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، مما يعزز الدعوات إلى تأسيس حاضنات وتمويلات موجهة نحو ألعاب الفيديو كصناعة مستقبلية واعدة.

ويؤكد أعليا أن هذه الحاضنة قادرة على تأهيل المطورين وجذب الكفاءات، لكن التحدي الأكبر -بحسب قوله- لا يزال تقنيا وتشريعيا، إذ يسعى المغرب إلى إرساء الأسس القانونية والتكنولوجية الضرورية لهذا القطاع.

ويرى أن الاستعداد لتنظيم كأس العالم 2030 يُشكّل محفزًا لتطوير البنية الرقمية والمواصلات، بوصفها ركائز أساسية لأي صناعة ألعاب متقدمة.

من جهته، يلفت العلوي المدغري -وهو شاب يملك تجربة 11 سنة في المجال- إلى أن عدد الأستوديوهات ارتفع من 12 إلى أكثر من 30 خلال سنة واحدة، بين نسختي معرض المغرب للألعاب لعامي 2024 و2025، مما يعكس دينامية متسارعة.

ورغم هذا التقدم، يُشير المدغري إلى صعوبة الحصول على تمويل مستقر، موضحًا أن تطوير لعبة متوسطة على الهاتف يتطلب ما بين 600 ألف ومليوني درهم (60–200 ألف دولار) في عام واحد، مع فريق يتألف من 5 إلى 10 أفراد.

رؤية العلوي المدغري تتمثل في جعل الألعاب وسيلة للتنمية عبر دمج الأبعاد المعرفية والتربوية (الجزيرة)
العلوي المدغري (الثاني يمين) يؤكد أهمية استعمال الألعاب الإلكترونية في دمج الأبعاد المعرفية والتربوية (الجزيرة)

تدريب مستمر

لا يزال التكوين الجامعي في مجال صناعة الألعاب الرقمية في المغرب في مراحله الأولى، مع وعود حكومية بإطلاق تخصصات جامعية ومهنية ابتداء من الموسم المقبل.

وشرعت بعض المؤسسات الجامعية في تجريب مناهج جديدة تهدف إلى تجديد العلاقة بين الطالب والمعرفة، عبر دمج الثقافة المحلية ضمن بيئة رقمية وتفاعلية.

من بين أبرز هذه المبادرات تجربة أطلقتها جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، تقوم على استخدام أدوات رقمية مفتوحة المصدر لتطوير مشاريع تربوية تتمحور حول التراث والسرد الرقمي والابتكار البصري، في تخصصات متعددة من ضمنها صناعة الألعاب.

وتوضح حورية قلقول، مديرة مركز التميز في التصميم والفن التطبيقي بالجامعة ذاتها، أن صناعة الألعاب في السياق الجامعي تُعد أداة بيداغوجية وفرصة مهنية في ظل الدينامية الرقمية التي تعرفها الجامعة.

وتضيف للجزيرة نت: “لا نتعامل مع الألعاب كترف تكنولوجي أو نشاط جانبي، بل كأداة تعليمية متعددة الوظائف، وقطاع واعد من حيث الآفاق المهنية”.

وتشير إلى أن المسارات التعليمية المعتمدة تُعالج تصميم الألعاب كمساحة لتمرير المعارف وتطوير المهارات والتعبير الثقافي، إذ لا يقتصر الأمر على تعلم أدوات التصميم، بل يُطلب من الطلبة بناء تجارب تعليمية أو ثقافية ترتكز على قواعد اللعب والتفاعل، مما يحفز التفكير النقدي، والخيال، والعمل الجماعي.

وتؤكد قلقول أن التدريب في هذا المجال يفتح آفاق توظيف فعلية، خاصة مع اتساع الاهتمام بالصناعات الثقافية والإبداعية داخل المغرب والمنطقة المغاربية.

إنتاج وابتكار

يشدد تقرير “نيوزو 2025” على أن الابتكار والإبداع يمثلان حجر الزاوية في صناعة الألعاب، إذ أثبتت تجارب دولية أن فكرة قوية وتنفيذًا بسيطًا يمكن أن يتفوقا على ميزانيات ضخمة، وهو ما يفتح المجال أمام الأستوديوهات المغربية الناشئة لإثبات الذات وبلورة اقتصاد مستدام.

في هذا الإطار، يوضح ياسين أعليا أن المغرب يمتلك فرصة حقيقية لتعزيز حضوره في أسواق شمال أفريقيا والخليج، مستفيدًا من الروابط الثقافية واللغوية المشتركة.

ويقول إن “الألعاب المغربية التي تستند إلى الهوية المحلية واللغة العربية تحظى باهتمام متزايد خارج البلاد، مما يجعلها مؤهلة لاختراق أسواق إقليمية واسعة بتكاليف تسويق ولوجستية منخفضة”.

وتطمح المملكة إلى بناء منظومة متكاملة لصناعة الألعاب، من خلال التحول من الاستهلاك إلى الإنتاج، بحسب ما تؤكده مديرة معرض الألعاب الإلكترونية نسرين السويسي.

وتبرز أن صور المغرب تحضر بقوة في خلفيات العديد من ألعاب الفيديو العالمية، من خلال مدنه ومعماره، مما يفتح المجال لاستثمار هذا المعطى الثقافي والحضاري في تطوير محتوى محلي مميز.

ياسين أعليا: موقع المغرب وديناميته الديمغرافية يمثلان ميزة إستراتيجية داخل السوق الإقليمية (الجزيرة)

ويشير العلوي المدغري إلى أن بعض الألعاب المغربية تجاوزت 40 مليون تحميل على مستوى العالم، وهو إنجاز مهم بالنظر إلى محدودية عدد الأستوديوهات والإمكانات.

ومع ذلك، يُقرّ المدغري بأن عدد هذه النجاحات لا يزال محدودًا، داعيًا إلى تطوير ألعاب تجمع بين البعد الترفيهي والبعد التعليمي لتوسيع الحضور المغربي في الأسواق العربية والإسلامية.

ويشدد على الحاجة إلى إنشاء صندوق دعم مخصص للتوزيع والتسويق الدولي، على غرار تجربة بريطانيا التي خصصت هذا العام نحو 375 مليون درهم (30 مليون جنيه إسترليني) لهذا الغرض، بالإضافة إلى ضرورة ضبط عمليات تسجيل الألعاب لحماية حقوق المطورين.

تحول نوعي

ورغم التحديات المرتبطة بالتدريب والتمويل والتسويق، تُظهر المؤشرات المتعلقة بالإقبال على ألعاب الفيديو، ونمو عدد الأستوديوهات، وتطور البنية الرقمية، أن المغرب يقف على أعتاب تحول نوعي في هذا القطاع.

ويعتمد نجاح هذا التحول على دعم الابتكار، وتوسيع قاعدة التكوين، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بما يُمكن من تحويل الألعاب من مجرد استهلاك فردي إلى صناعة ثقافية واقتصادية مؤثرة على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ويضاف إلى ذلك التوجه العالمي السريع نحو الألعاب السحابية التي تتيح اللعب عبر الإنترنت من دون الحاجة إلى أجهزة قوية، وهو ما يشكّل فرصة حقيقية أمام أسواق ناشئة مثل المغرب للاستفادة من انتشار الإنترنت من دون أعباء مالية كبيرة.

كما تلعب تقنيات الذكاء الاصطناعي دورًا متزايدًا في تصميم الألعاب وبناء تجارب تفاعلية معززة، وهو ما يستدعي تطوير القدرات التقنية وتأهيل كوادر متخصصة في هذه المجالات داخل المغرب، وفق مراقبين.

شاركها.
Exit mobile version