على مدى أكثر من 7 أشهر نجحت إسرائيل – ونتنياهو تحديدًا – في إحباط أي تقدم يمكن أن تحققه مفاوضات وقف الحرب، وتبادل الأسرى بشكل منهجي وضمن سياسة محددة، منذ قمة باريس الأولى التي عُقدت نهاية يناير/كانون الثاني الماضي بعد أن تمّ تأجيلها، ثم تم إفشالها على خلفية مماطلة نتنياهو في منح صلاحيات لرئيس الموساد ديفيد برنيع.
وفي قمة القاهرة يوم 13 فبراير/شباط، تم إرسال وفد للاستمتاع فقط، كما تم إضافة المستشار الشخصي لنتنياهو أوفير فولك للوفد. وتم إفشال قمة باريس الثانية في 23 فبراير/شباط، وكذلك المفاوضات التي جرت في الدوحة في 16 مارس/آذار، وذلك بتقييد التفويض الممنوح للوفد المفاوض.
لا نية لإبرام صفقة
بعد رد حماس الإيجابي على الإطار الذي قدمه الرئيس الأميركي بايدن، رد مسؤول سياسي كبير (نتنياهو) بأن إسرائيل ستواصل الضغط العسكري، وأن هناك ثغرات في الاتفاق. وبعد 3 أيام أصدر نتنياهو بيانًا بشأن الخلافات المتبقية، وأكد استمرار الحرب حتى تحقيق الأهداف والنصر الحاسم.
فيما بعد تم اجتياح رفح؛ بحجة القضاء على 4 كتائب متبقية لحماس فيها. رغم التحذيرات الأميركية، تم السيطرة على محور صلاح الدين، ومعبر رفح بين مصر وغزة والذي تم إغلاقه ومنع أي مساعدات إنسانية عبره، دون أي اكتراث لحجم الضحايا المدنيين، أو أي اعتبار للتحذيرات من استهدافهم.
واضح من هذا السياق، أن إسرائيل غير مكترثة بإبرام صفقة لإنهاء الحرب، أو البحث في شروط إنجازها. كما أن لديها القدرة على تجاوز أي ضغوط خارجية أو داخلية، وذلك لتحقيق الهدف الذي له الأولوية على أي أهداف أخرى وهو استعادة الردع المفقود أمام المقاومة في غزة وفي الإقليم، استعدادًا لاستعادة سياق ترتيب المنطقة وَفق مصالح ورؤية إسرائيل وأميركا.
يمسك نتنياهو بمشهد المفاوضات، ويرسل وفد التفاوض إلى جولات التفاوض ولديه النية والإرادة المسبقة لإفشالها، بالحديث عن النصر الحاسم، واستمرار الحرب، والهدنة المؤقتة لمدة 42 يومًا؛ لاستعادة بعض الأسرى، وتدمير القدرات العسكرية والحكومية لحماس، فضلًا عن الشروط الجديدة في كل جولة تفاوض، وغيرها من الدعاوى.
وإذا تمّ الاقتراب من التوصل لأي اتفاق يتم التنصل منه والتراجع عنه؛ لأن الأمر لا يتعلق بتحسين شروط التفاوض، بل بالاستمرار في الحرب في سياق رؤية إستراتيجية لمواصلة العدوان وتوسيعه – إن أمكن – في خدمة ترتيبات اليوم التالي للحرب، والذي يتعلق بمصير غزة والضفة ومستقبل فلسطين وإسرائيل بشكل عام. وهذه الرؤية الإستراتيجية مشتركه بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والغرب عمومًا. وهي عامل أساسي في تجاوز أي ضغوط لإنجاز الصفقة.
الضغوط الداخلية
المجتمع الصهيوني في مجمله ينحرف نحو التطرف، وأكثر من 70% يؤيدون الاستمرار في الحرب، ولا يأبهون بكل الجرائم التي يرتكبها جيشهم في غزة، والاختلاف أساسًا يتمحور حول سُلم الأولويات. أهل الأسرى ومؤيدوهم يعتبرون استعادة الأسرى في صفقة تبادل له الأولوية على استمرار الحرب التي يمكن استئنافها بعد استعادتهم.
وفي كل الأحوال، وما دام لم يتم تعطيل الحياة العامة – كما يطالب باراك رئيس الوزراء السابق – فإن تأثير الشارع الإسرائيلي يبقى ضعيفًا، ويمكن امتصاص غضب الشارع بإرسال وفود التفاوض، وتحميل حماس مسؤوليّة الفشل.
وبعد الإنجازات التكتيكية لإسرائيل باغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران، والشهيد فؤاد شُكر في ضاحية بيروت الجنوبية، خفتت الأصوات المناهضة للحرب، وتحسن موقف نتنياهو الشعبي أمام معارضيه الذين باستعراضهم نستنتج أن معظمهم أكثر تطرفًا منه: “غانتس، ليبرمان، ساعر”. وهكذا يبقى استمرار العدوان متصدرًا جدول أعمال إسرائيل.
الضغوط الخارجية
جميع وسائل الضغوط الدولية من المؤسسات الدولية بما فيها الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، لا تشكل عوامل ضغط فاعلة أمام الموقف الأميركي المعارض لتفعيل أي من إجراءاتها. ويبقى الموقف الأميركي هو أساس تفعيل أي ضغوط خارجية على إسرائيل.
وغني عن القول، أن العلاقات الأميركية – الإسرائيلية هي علاقات إستراتيجية أعمق من أن تتحكم فيها العلاقات الشخصية بين المسؤولين، وأكبر من أن تخضع لحسابات تأثيرها على الانتخابات الأميركية.
لذلك فإن إدارة الرئيس الأميركي بايدن ونائبته هاريس – وهي ترى أن مصلحتها الانتخابية في إنجاز صفقة تبادل أسرى تضمن نزع فتيل التوتر الإقليمي الذي تحذر منه وتتجنّبه بكل السبل، وتستعيد بموجبها الأسرى الأميركان، وتحقق نصرًا دبلوماسيًا يساعدها في توحيد قاعدتها الانتخابية – لا تمارس، ولا تريد أن تمارس أي ضغوط على إسرائيل لإنجاز هذه الصفقة.
بل تتمادى في دعم إسرائيل وغض النظر عن كل جرائمها، وإمدادها بكل متطلبات الحرب، بما فيها إقرار صفقة أسلحة بقيمة مليارَي دولار قبل أيام من جولة التفاوض التي جرت في الدوحة مؤخرًا، والتي تقول الإدارة الأميركية إنها الفرصة الأخيرة لإنجاز صفقة التبادل.
نتنياهو يرسل وفده المفاوض للدوحة، وهو يدرك أنه لا توجد كوابح أميركية، وأن السلوك الأميركي في الواقع مختلف عن المواقف الأميركية المعلنة، وأن هذا السلوك الأميركي المتناقض، هو ما يدفع نتنياهو لمزيد من التشدد وإفشال المفاوضات، واستمرار العدوان.
المشكلة ليست في نتنياهو الذي أفشل مقترح الرئيس بايدن، والذي هو مقترح إسرائيلي في الأساس، بل في موقف أميركا التي تقدم كل أشكال الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، وتحمل حماس مسؤولية إفشال الصفقة. لأن الموقف الأميركي ينطلق أساسًا من رؤية الغرب للإقليم، ودور إسرائيل فيه، وأن الحرب في غزة جزء من ملفات المنطقة والحرب الأوسع فيها، حتى يبقى الإقليم خاضعًا للسياسة الأميركية، وتحت سيطرتها في مواجهة التحديات الإقليمية والصراع الدولي مع روسيا، وأيضًا الصين الزاحفة للإقليم.
ومن جانب آخر، فإن استمرار العدوان، وفشل المفاوضات لإنجاز صفقة، وتوسيع الاعتداءات إلى طهران وضاحية بيروت الجنوبية، يحمل ذلك خطر الانزلاق إلى توتر إقليمي كبير مع إيران، يسعى إليه نتنياهو، وتتجنبه الإدارة الأميركية، خاصة في مرحلة الانتخابات.
والحال هذه، فإن السيناريو الأفضل للإدارة الأميركية أن يستمر التفاوض، ويتم الإعلان عن تقدم في المفاوضات واستمرارها؛ لتقليص نقاط الاختلاف. وفي نفس الوقت يستمر العدوان على غزة وإن بوتيرة أخف؛ بهدف كسب الوقت، وتجنب التوتر الإقليمي الكبير، حتى نصل إلى الانتخابات الأميركية.
وهذا يناسب إسرائيل على أمل أن يفوز ترامب؛ ليس لأنّه سيكون الأكثر سخاءً في الدعم السياسي والعسكري، والذي تجاوز فيه بايدن كلَّ الحدود، ولكنه سيكون مع اليمين الجمهوري مطلوبًا في دعم إسرائيل في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وترتيب المنطقة، وتصفية القضية الفلسطينية باتجاه التهجير، ليس في غزة فقط، بل في الضفة أساسًا، بعيدًا عن أي كيانية فلسطينية.
ونذكّر هنا برؤية ديفيد فريدمان (سفير ترامب السابق في إسرائيل) الذي دعا إلى اعتبار سكان الضفة الغربية مقيمين في إسرائيل.
إن قوة المقاومة واستمرارها في فلسطين والإقليم سيبقيان العامل الحاسم في تجاوز وإفشال كل هذه المؤامرات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.