لطالما كان الأدب بشقيه، الشعر والنثر، سلاح الشعوب المناضلة، لا يقلّ أهمية وتأثيرا عن أسلحة الحروب المعروفة، فمنذ فجر التاريخ الأدبي كان للكلمة في نفس العدو أثر كالسيف، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأينا تشجيعه لشعراء المسلمين على الذود عن عرض المسلمين والدفاع عنهم بالكلمة والقصيدة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه: “اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل”.

وكذلك الأمر في الجهة المقابلة، فالعدوّ يكتسب شرعية زائفة من خلال ما يروجه من حقائق مفبركة أو بما يضفيه عليها من مبالغات تكسبه تعاطفا جماهيريا كبيرا، فالمحرقة النازية الصهيونية بثت في الوعي الجمعي ما يخدم أهداف الصهاينة، وحمّلت الأجيال اللاحقة التي لم تشهد الوقائع إثم ما فعله السابقون بلبوس الواقعة التي غُيّبت كثيرٌ من تفاصيلها لتظهر بوجه واحد، بوجه الخطيئة، فلولا أعمال روائية وأشعار ومسرحيات موظّفة لترسيخ جرائم النازية في الذاكرة البشرية ما كانت لتحوز على التعاطف العالمي الذي نشهده اليوم، والأمثلة على ذلك كثيرة.

فهناك روايات عدة كتبت حولها وحولت إلى أفلام لاقت رواجًا كبيرا وحازت على جوائز عالمية عدة، أسهمت في ترسيخ الحقائق التي نسجوها بالمبالغات لشرعنة قضيتهم عالميا، كرواية “فُلك شندلر” للأسترالي توماس كينيلي، ورواية “سارقة الكتب” للأسترالي ماركوس زوساك، ورواية “عازف البيانو” للبولندي اليهودي فلاديسلاف شبيلمان التي تحولت إلى فيلم سينمائي نال عددًا من جوائز الأوسكار.

طوفان الأقصى حطّم أسطورة الشعب الذي لا يُقهر، وإن كنا لم نصدق هذه الأسطورة يوما ما (مواقع التواصل)

إن الحرب الدائرة في قطاع غزّة اليوم إبادة جماعية لا يمكن لعاقل أن ينكرها، ولا يخفى على امرئ ما يؤديه الأدب من دور عظيم في تشكيل الوعي الجمعي للناس وتوجيهه، ومن هذه النقطة انطلق نضال أقلام شعوبنا العربية أيضا، فطوفان الأقصى ليس محض عمل عسكري فحسب، فقد أغرق الأوهام الشعبية وحطم أوثان الأمة وقض مضجع العدو وأيقظ حنين الأرض وأوقد شعلة الانتماء، وأعلن عن صخب التراب وعزف سيمفونية التوق إلى الحرية والاستقلال من كل مظاهر الغصب والظلم والطغيان، وتبدّت ألحانها في أعمال أدباء الأمة شعرا ونثرا.

فالطوفان حطم أسطورة الشعب الذي لا يُقهر، وإن كنا لم نصدق هذه الأسطورة يوما ما، لأن أهل الأرض يعرفون جيدا أنهم يواجهون عدوا جبانا يحتمي خلف المدججات الآلية والأسلحة المطورة ودعم القوى العالمية، على أن هذه الحقائق لا بد أن تعرفها الأجيال، ولا بد من وسيلة غير الإعلام الذي تتناوبه الجهات المختلفة أهدافا ومصالح.

فكان الأدب خير وسيلة لبقاء الحقائق وخلودها، لا سيما أننا نواجه عدوًّا متغطرسا يستعين على تمكين نفسه بمهاجمة المدنيين وقصفهم، فيمنع عنهم شروط الحياة الأساسية من ماء ومأكل وكهرباء، كما هو الحال في قطاع غزة الجريح اليوم، ولا يكتفي بذلك، بل يقصف المستشفيات وأماكن تجمع الناس الباحثين عن نقطة أمان لأطفالهم وعوائلهم، فيقصف المدارس التي تجمعوا فيها، ويغرق في العدوان وكأنه يروي ظمأ انتقام السنين ويحجز لنفسه الجناح الأكبر في قعر جهنم فيمسح عوائل وأحياء كاملة عن بكرة أبيها.

أثبت الطوفان ظمأ الشعوب العربية للحرية والخلاص من عدو زُرع بين جنبات الأمة كسرطان ينهش في جسدها ويقوض كيانها ويهدد وجودها، فانبرى الأدباء في مجال القص والرواية إلى تعرية جرائم هذا الغاصب والكشف عن دناءته، راسمين معالم الإنسان الفلسطيني المقاوم، وكيف تفجرت طاقاته الكامنة في سبيل خلاص أرضه ودحر العدو الغاشم المدجج بأعتى أنواع الأسلحة، وبيّنت الأعمال الأدبية التي خطتها أيادٍ عربية واعدة كيف يفجر الظلم طاقات الإنسان المختلفة ويظهر إبداعاته.

وبيّنت كيف تهزم القلة الكثرة الباغية، وكيف تتفوق الأقلام على الأسلحة الفتاكة في كشف وضاعتها وتعرية أهدافها اللاإنسانية، وأظهرت الأعمال الأدبية التي كتبت خلال عام واحد منذ تفجر الطوفان كيف يتولد العزمُ والإصرار على متابعة النضال من الظلم والقمع والتجويع والحصار الممنهج، وكيف أخرج لنا قوة تجرف في طريقها أوهام الماضي والحاضر، وترسم خطاً جديدا لمستقبل هذه الأمة.

انبرى أدباء الأمة لتخليد هذا الكفاح المشرف، وحاكوا من تفاصيله حكايات تلمس الواقع فترتفع به ليصل إلى أسماع العالم من جهة، لكنها لا تفوقه واقعا، فمهما خطت الأقلام من آلام ومعاناة لن تفي حق الحقيقة، ولن تصل إلى ذروة الأوجاع التي عاينها أهلنا الفلسطينيون ولا يزالون تحت وقع الأسلحة المدمرة التي تمزق جسد الإنسانية أمام الأحياء جميعهم صغاراً آملين بغد أفضل، وكباراً مكلومين بواقع يحاصرهم بالخذلان والتخلي.

الرواية الأدبية مرآة سرديّة الحروب

يعبر الأدب دائما عن بعض وجوه الحقيقة الإنسانية، فيخلّد صمود الشعوب وتضحياتها، وفي فن الرواية نجد متسعًا ومجالاً أكبر للتعبير عن دقائق الوقائع التي تعيشها الشعوب المستعمرة المسلوبة أرضها وحقوقها، فالرواية فن المجتمع كما يقال، وهي الأقدر قياسا بغيرها من الفنون الأدبية على رسم الملامح السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأي مجتمع في حقبة زمنية محددة.

ففي رواية “الحرب والسلم” لتولستوي استطاع الكاتب أن يعرض أحوال روسيا حين جاءها نابليون غازياً سنة 1812م، وكذلك هوغو في رواية “البؤساء”، إذ رسم أحوال فرنسا في القرن التاسع عشر وتحدث عن حروب نابليون، وعلى الجانب العربي حدثنا نجيب محفوظ في كثير من رواياته عمّا جرى بعد نكسة يونيو/حزيران، وكذلك فعل عادل الأسطة في روايته “ليل الضفة الطويل” إذ تحدث عن واقع المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية بعد الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك عما كتبه غسان كنفاني من روايات عن أحداث نكبة فلسطين سنة 1948.

الحرب والسلم تولستوي
رواية “الحرب والسلم” لتولستوي استطاع الكاتب فيها أن يعرض أحوال روسيا حين جاءها نابليون غازيا سنة 1812 (الجزيرة)

من المعروف أن لفن الرواية عناصر معينة لا بد من توافرها حين يشرع الروائي بالكتابة، وقد قدم طوفان الأقصى للروائيين العرب هذه العناصر بوجوه متعددة، من أحداث ووقائع، وصراعات، وشخصيات، وأمكنة، وأزمنة.

فالحدث الأعظم يدور حول مباغتة عدو شرس متمثل في الكيان الصهيوني، والصراع أبدي بين الخير والشر والحق والباطل والغاصب والمغتَصب، ونتائج الصراع تفجر عواطف الفقد وتكسر مرايا موت، أما الشخصيات فهي نماذج حية ترسم لنا مظاهر التضحية والفداء، وتتحلى بالصبر والمرابطة.

وإذا ما أردنا أن نتحدث عن الأمكنة، فمحورها مكان مقدس لدى جميع أصحاب الكتب السماوية، ويستحق الاستبسال في الدفاع عنه. أما الزمن فهو زمن النضال والكفاح والذّود عن المقدسات وكرامة الإنسان المستباحة، والمحافظة على الأرض والتراب، وحماية الناس نساء وأطفالاً وشيوخا من القتل والإبادة والتهجير والفناء.

في الروايات التي كتبت حول طوفان الأقصى لا يجهد الكاتب في تفعيل الخيال وتكثيف الصور لعرض الأفكار وتدعيم المعاني وحشد عواطف القارئ واستنفارها، فالبؤس واليأس في واقع الحال لا يحتاج إلى أدوات تؤكده وتكثفه، والصور الحية خير دليل. قد تبدو بعض الأحداث عجائبية لأنها تعكس اجتماع الصدق والنفاق في بقعة أرضية ولحظة زمانية واحدة، لكنها حقائق ووقائع تثبتها المشاهد التي تزودنا بها صور الإعلام الحي والشريف!

لم نعد بحاجة للرجوع إلى التاريخ للكتابة عن نماذج إنسانية مثلت معاني عميقة بنضالها وما قدمته من تضحيات، فالواقع اليوم يضج بتلك الأمثلة، ولا يكفي المداد، ولا تلحق الأقلام بركب قصص النضال والكفاح والتضحية الحية، ولا خير من واقع يحرض في قلم الكاتب طاقات الإبداع لرسم الواقع بصدق وموضوعية، على أن طوفان الأقصى ليس معزولاً عن أسبابه الوجودية والتاريخية، فهو رد فعل طبيعي على المجازر الصهيونية الممتدة من سنة 1948 إلى يومنا الحالي.

الرواية في أدب المقاومة والطوفان في “الأدب الإسرائيلي”

أسهم الشعراء والأدباء والروائيون والقصاصون العرب في تصوير الواقع الفلسطيني وتقريب الحقائق إلى أذهان الأمة ورسمها بصور لائقة ومشرفة لتحفظها الذاكرة الجمعية وتنطلق منها في نضال مستمر سيتكلل بالنصر والفلاح عاجلاً أو آجلا، كما أسس للأدب الفلسطيني -إذا جاز التعبير- كثير من الأسماء الكبيرة في عالمنا العربي كالأخوين إبراهيم وفدوى طوقان، وغسان كنفاني ومحمود درويش ووليد سيف.. وغيرهم كثير.

إذ أسهموا إسهامات كبيرة وبارزة في تأسيس أدب المقاومة من خلال مئات الروايات والقصص والقصائد النابضة بروح النضال والمقاومة، فصارت الكلمة سلاحا خطيرا يخشاه العدو على امتداد الزمن وتوالي الأجيال.

تحتاج الأعمال الأدبية، ولا سيما النثرية منها، إلى زمن للنضوج، لكنها ذات قدرة عالية على التأثير لأنها قابلة للتحويل إلى إنتاج تلفزيوني أو سينمائي، فهل استطاع الأدباء المعاصرون اللحاق بركب النضال الفلسطيني أو أنهم تأخروا عنه؟ وهل ساروا مع الشعراء على قدم واحدة أو تأخرت قرائحهم وتباعدت بهم الأزمنة وضاقت الكلمات؟

ولأن العدو يدرك تمام الإدراك أهمية الأعمال الأدبية في تشكيل وعي الناس أسرع إلى دفع عمليات الإنتاج الإبداعي والأدبي وحفز أقلام الكتّاب عليها، وتأثر المشهد الثقافي في إسرائيل تأثرا كبيرا بطوفان الأقصى، وشهدنا ذلك في أسبوع الكتاب السنوي الذي يقام في إسرائيل كل عام في شهر يونيو/حزيران، إذ نشرت المكتبة الوطنية الإسرائيلية تقريرا عن إصدار الكتب في إسرائيل في العام 2023، وأظهر التقرير أنه حتى نهاية مايو/أيار 2024 نُشر ما لا يقل عن 82 كتابا حول عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي والحرب على غزة.

يستغرب الإسرائيليون أنفسهم من حجم التدفق في مجال الكتابة حول طوفان الأقصى، ويعبر المدير التنفيذي لدار النشر المعروفة باسم “يديعوت بوكس” عن ذلك في مقال في موقع كالكاليست. كما يؤكد استقبال الدار لعدد هائل من الأعمال التي خطها شاهدوا الحرب، ومثل آفي شومر الرئيس التنفيذي لسلسلة “تسومت سفريم” عبر في المقال نفسه عن كثرة الأعمال التي تناولت هذه الحرب بأقلام تخط التجربة الشخصية فتلاقي رواجا أكبر من تلك التي تخطها أقلام الصحافة.

معركة السرديّة

تفاعل أدباء العدو الصهيوني مع الحدث وأنتجوا في الأشهر الماضية أعمالا أدبية كثيرة من روايات وقصص تقصّ حكايات السابع من أكتوبر بما يخدم أفكارهم ويرسّخ سرديتهم وما يحاولون إقناع العالم به كمشروعية وجودهم في تراب فلسطين ونزع الاعتراف بهم بتشكيل بنية فكرية تحتية لدى أجيالهم القادمة، فالأعمال تُكتب بالعبرية وتُوجّه لصفوف العامة منهم كالمجموعة القصصية التي كتبها الإسرائيلي يائير أجمون بمشاركة الكاهنة أوريا مفوراخ بعنوان “يوم واحد في أكتوبر”، يقص فيها أربعين قصة لأبطال إسرائيليين بحسب زعمهم، مستخدما شهادات حية للأشخاص الذين تحدث عنهم، ووفقاً لصحيفة هآرتس حقق كتاب “يوم واحد في أكتوبر” نجاحا تجاريا نادراً واحتل قوائم الكتب الأكثر مبيعا.

ومثل ذلك السيرة الذاتية التي كتبها ضابط إسرائيلي يدعى إلكانا كوهين وعنونها بـ”الرقم الشخصي 7.10.23″، تحدث فيها عن اللحظات والذكريات التي عاشها في حرب السابع من أكتوبر، ورسم صورا متعددة لبطولاته المزعومة وعلاقته برفاقه ومجنّديه، واصفا مشاعر الأمل واليأس التي تناوبت عليهم، ووصف دقائق يوم السابع من أكتوبر معبرا عن اللحظات التاريخية التي تركت أثرا عظيما في ذاكرة الإسرائيليين جميعا.

وكذلك المجموعة القصصية “ملجأ ما بعد السابع من أكتوبر” التي شارك فيها عدد من الأدباء والكتاب الإسرائيليين المعرفين في الأوساط لديهم، مثل: الشاعرة يعارا شحوري، والأديب آساف شور، ودرور مشعاني وعوديد كرملي. غير أن هذه المجموعة القصصية تعرضت للنقد من قبل نقاد إسرائيليين، إذ رأوا أنها محض نصوص هزيلة. كما توجه كتابهم الشباب نحو الكتابة للأطفال، يريدون بذلك تنشئة الجيل المُعمّى البصيرة على ما انتهجه الصهاينة القدماء وسارت عليه الأجيال من بعدهم بعقيدة هشة وتاريخ ضئيل، كالمجموعة القصصية المعنونة بحرب الأبطال لهداسا بن آري التي تعد إحدى ناشطات حزب الصهيونية الدينية.

حشد العدو الصهيوني أقلام الأدباء والشعراء المعروفين وغير المشهورين، الذين عزفوا على وتر العقيدة من جهة، وعلى وتر الذاكرة المنكوبة بالمحرقة من جهة أخرى، ورسموا معالم كاذبة عن معاناة الإسرائيليين بسبب الحرب سواء أكانوا جنودا أو مدنيين. وركز العدو الصهيوني على فئة الشباب منهم ليبث أكاذيبه الواهية في نصوص أدبية يتلاعب بوساطتها بأفكار الناشئة من الصهاينة ويوهمهم بأحقيته في أرض فلسطين، ومن تلك الأعمال التي تعد أقرب إلى التوثيق التاريخي “السبت؛ السابع من أكتوبر” الذي حرره الشاعر الإسرائيلي رون دهان بمشاركة شعراء وأدباء آخرين، يحكي فيه أكثر من خمسين شهادة من قلب الحدث في اليوم الأول من طوفان الأقصى. وغير ذلك من أعمال لا رغبة لي بسردها، لكنها تؤكد اهتمام الصهاينة وعنايتهم بالسلاح الأدبي ومدى تأثيره في عامة الإسرائيليين لديهم.

بعث الرواية المقاومة من جدث اليأس

إن الامتلاء بالشعور يولد لدى الكتاب رغبة بالتفريغ في الكتابة، للتحلل من عبء الشعور من جهة، ولإيصاله إلى القراء من جهة ثانية، ولتوثيق الحدث الكبير من جهة ثالثة، ولأن تاريخنا العربي الحديث مليء بالخيبات والانتصارات الزائفة والانكسارات العميقة، لا بد أن ينعكس ذلك على أدبنا الذي يحمل آهاتنا ومآسينا الوجدانية المشبعة بالخيبة والصدمات النفسية.

صوّب طوفان الأقصى البوصلة من جديد، لا سيما بعدما أصاب صفوف رواد المقاومة والحشد الجماهيري من تيه ويأس وفتور، وأعاد إلى الواجهة ملحمة النضال الفلسطيني، يعبر عن ذلك ثائر عودة في محاضرة ألقاها مؤخرا في المركز الثقافي العربي في الميدان، إذ قال: “منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى استعادت الثقافة أدبياتها نفسيا وروحيا بعد ما طال الأدب المقاوم من تهميش وإقصاء إثر عمليات التطبيع التي وقّعتها بعض الدول العربية، فشكّلت معركة طوفان الأقصى ظاهرة أدبية عميقة بسبب فداحة وعظم المصاب وجلال الصمود والثبات، مما دفع الكتّاب إلى تسجيل حضورهم في ميدان الفن والثقافة والأدب، فظهر أدب جديد اتخذ من غزة وطوفانها موضوعا له في كل نصوصه التي مجّدت المقاومة”.

تؤكد الأعمال الأدبية التي تحاكي الطوفان حتمية الانتصار، وتوثق الأحداث بسرد واقعي مدعوم بالصور الحية المباشرة، فتتشكل ذاكرة القارئ من الكلم والواقع في آن واحد بصور بصرية تحفز مشاعر القراء وتستنهض هممهم، وهذا ما يؤكده عودة في قوله: “فاتّسم ما يُكتب بالواقعية الوصفية التي ستشكل معجما جديدا في لغة الأعمال الأدبية العالمية لكثرة النماذج الواقعية المرصودة عبر الصور الغزيرة المتلاحقة للأحداث التي غذّت منابع الإبداع”.

من الطبيعي أن يصاب المبدع بالارتباك النفسي والفني حين يعاين الفجائع بحواسه كلها، فرؤيته للوقائع وكل ما فيها مما يخالف التوجه الإنساني من قتل وتهجير وتنكيل وتعذيب يشوّه معالم الإنسانية في رؤيتنا للوقائع ويدفع للتساؤل عن معنى الكتابة وجدواها أمام هذا الكم الهائل من الدمار الحقيقي والنفسي. لكن حرارة الطوفان استنفرت أقلام الأدباء وحثتهم على السعي وراء اللحاق بركب النضال، إذ لا بد من الارتطام بهذا الواقع المدمّى للكتابة والتعبير عنه، إذ لا وقت للتأمل والتدبر وانتظار نضوج التجربة الأدبية! لا سيما أن المبدع اليوم صار مؤرخا أيضا يوثق الأحداث ويترجم المشاعر التي اكتنفتها، وكل ذلك في سبيل تعزيز ذاكرة المقاومة الفلسطينية وردفها بالأحداث المعاصرة، وإن تطلب ذلك الكتابة من المسافة صفر!

روايات طوفانية

ومن الأعمال العربية الأدبية التي صدرت بعد الطوفان رواية “المعمداني قصة غزة من الجذور إلى الطوفان” للكاتب والصحفي التونسي ناجي بن جنات، وهي رواية وثائقية صرح الكاتب بأنها تنطلق من بنية تاريخية حقيقية، فشخصيات أبطالها مستوحاة من الواقع من واقعة قصف مشفى المعمداني والمجزرة التي نفذها الصهاينة هناك بعد اندلاع طوفان الأقصى بأيام، ويتحدث فيها عن حجم الخسائر البشرية من شهداء ومفقودين. ويؤكد انطلاقاً من إيمانه بسلاح القلم أنه كتب هذه الرواية انتصارا للقضية الفلسطينية ودعم النضال ضد عدو الأمة. نضيف إلى ذلك العناية بغلاف الرواية الذي حمل صورة تجسد الرمق الأخير لطفل في مشفى المعمداني وهو يحمل قطعة خبز لم يسعفه الوقت لتناولها قبل استشهاده.

وكذلك الكاتب والروائي السوري هيثم شبلخ كتب رواية بعنوان “طوفان القلوب”، وتحدث فيها عن الصراع الأبدي بين الحق والباطل وأصحاب الأرض والمغتصبين، كما تحدث عن سيرورة الأحداث وتغلغلها في التاريخ وتداعياتها ومسبباتها، وبيّن كيف أطاحت أحداث الطوفان بفكرة الجيش لا يهزم وزعزعت حضور الصهاينة وبيّنت عورهم وأعادت ترتيب الأولويات في الساحات العربية والإسلامية. وقد افتتحها بإهداء عذب يقول فيه: “إلى الذين صاغوا من دمائهم فجر هذه الأمة، وصنعوا من عذاباتهم فُلكَ نجاتها حين طمي الطوفان، ونظموا من أنّاتهم أناشيد عزها وفخرها، فنهضت بعد طول كبوة، واستقامت بعد زمان عثرة، وقالت لباقي الأمم: أولئك أبنائي”.

أما أحداث الرواية فتدور حول رسالة شابة إسرائيلية وقعت في الأسر صباح السابع من أكتوبر، تتحدث فيها عن تفاصيل الأسر وما شعرت به من خوف وهلع، وما عاشته من صدمة زعزعت الثقة بالأمان المطلق الذي بات وهما بالنسبة لها، كما يعرض الكاتب من خلال حوار يجريه بين الشابة الإسرائيلية وأحد أبطال المقاومة وشقيقته وجهة نظر الإسرائيليين المغيّبين عن الحقائق رغبة أو رهبة، ويشير إلى نضال الشعب الفلسطيني بوصفه نضالا أزليا لشعب اغتصبت أرضه فتفانى في محاولات استردادها، وخذله القريب قبل البعيد.

ومن ذلك سؤالها (بتصرّف): لماذا بدأتم بهذه العملية؟ ولماذا أشعلتم نارا أنتم أكثر من سيعاني منها؟ فيجيبها قائلا: إن المشكلة عند من يسأل هذا السؤال أنه يتجاهل الحقائق والوقائع على الأرض، إنّ لما جرى في صباح السابع من أكتوبر جذورا تمتد لمئة عام سابقة، وأنتم من أشعل فتيلها، وتنسون أنّ كيانا نشأ بالقوة عام 1948 على أرض غيره، فقتل معظم أهلها وطرد الباقي، وتتعاملون مع نتائج هذه الاعتداءات على أنها واقع يجب التعايش معه، ومن ثم تريدون من ضحايا هذا الاحتلال أن يستسلموا للواقع المفروض ويقبلوا بنتائجه، فإن حاولوا أن يقاوموا أو يستردوا بعض حقهم كان ذلك سبب أي حرب تنشب في المنطقة.

ثم ينقلنا الكاتب إلى عالم الأسيرة الداخلية ويصف ما شعرت به من تخبط وما دار في رأسها من أفكار دفعتها إلى تغيير وجهة نظرها التي كانت تتبناها قبل الأسر، ناهيك عما لاقته من حسن المعاملة في أثناء أسرها، إذ يعبر الكاتب عن ذلك بقوله: “وعندما أحاط الطوفان بقلبها فاض ذلك الفؤاد بأسرار وأخبار ومعانٍ”. وحين أفرج عنها عوملت كالخونة لأنها لوّحت بيدها لخاطفيها عند الوداع، ولم تكن تملك ما تدلي به من معلومات للأجهزة الأمنية التي استجوبتها.

وفي السياق نفسه، صدرت رواية للكاتب الأردني أيمن العتوم بعنوان “الرعب/حكاية الحرب في غزّة”، وأثارت الرواية جدلاً كثيرا، وتصف حرب الإبادة التي ينفذها الصهاينة على قطاع غزة بشكل ممنهج ومدروس. وحين سئل الكاتب عن اختيار العنوان أجاب: “إن كلمة الرعب وردت في القرآن الكريم أربع مرات؛ مرتين لليهود ومرتين للعرب الكفّار، وفي الواقع فإن حرب غزّة تقذف الرعب في قلوب اليهود مرةً وقلوب العرب مرةً أخرى”.

وفي هذه الرواية يصور العتوم نضال الناس في قطاع غزة ووضع المرأة الغزية وهي تحاول التعايش وسط ظروف حياتية تحت الصفر، فجميعهم في صراع مستمر مع الموت في مأساة تتجدد بتجدد الأيام ومرورها. واختار العتوم شخصياته من شهود العيان الذين طحنتهم آلة الحرب بقهر الواقع وخذلان الأخ وتقهقر النصير، فكان أحدهم ممرضاً، والأُخرى صحفية تغطي الأحداث في الخطوط الساخنة. وترك الكاتب نهاية الرواية مفتوحة ليبث في حنايا القراء أملاً بنصر بدأ الفلسطينيون بخطه في صفحات التاريخ وسيستمر حتى يأذن الله بنصر يثلج صدور أبناء الأمة الشرفاء.

أعجب الكاتب السوري هيثم شبلخ برواية الرعب وعلق قائلاً: “أن تكون الرواية عن غزة في أيامها الحالية فهذا يعني خليطا من الشجاعة والصمود والعزة والحزن والخذلان والرعب. وأن يكون الراوي أيمن العتوم فذلك يعني مزيجا من اللغة البليغة والتعابير الآسرة والبيان القادر على نقل بعض أشجان الصورة وقسوتها بشكل يجعلنا كأنّا نراها عيانًا”.

بالنظر إلى المشهد الثقافي العربي لا بدّ أن ينصرف الكُتّاب في هذه المرحلة إلى الكتابة للأطفال عن قضية الأمة العربية والإسلامية، بهدف تعزيز الانتماء لديهم وتفعيل الوعي بأهمية هذه القضية بوصفها الحاضر الذي لم يزل نابضا بالأسى منذ فجر التاريخ، فالاعتقاد بالقضية والإيمان بها يحتاج إلى أسرة واعية وحوافز فكرية تشكلها وترسم زواياها وتحدد أسبابها وعوامل النصر فيها لتغدو جزءًا من كيان الإنسان فيوجه طاقاته لخدمة الأمة والذود عنها وتحقيق انتصارها.

كانت الرواية الأدبيّة بعد طوفان الأقصى ميدانًا لمعركة السردية بين الرواية المقاومة والرواية الإسرائيليّة، فكان الأدب موطن اشتباك يوازي ويساند اشتباك المعركة، فتلاقى غبار الأدب مع غبار المواجهة في غزة على أمرٍ كان قد قُدّر، وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.


  • الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
شاركها.
Exit mobile version