قطاع غزة شريط ضيق على شرق البحر المتوسط جنوب فلسطين، تبلغ مساحته 365 كم2، بما يمثّل 1.33% من مساحة فلسطين، طوله حوالي 41 كم، وعرضه يتراوح بين 6 و12 كم، يقطنه حوالي 2.4 مليون فلسطيني، بقي تحت الإدارة المصرية منذ عام 1948، وخسرته مصر في حرب 1967، ليبقى تحت الحكم العسكري الصهيوني حتى قدوم السلطة الفلسطينية وفق ترتيبات اتفاق أوسلو عام 1994، لينتقل بعدها إلى إدارة حركة حماس بعد عملية الحسم عام 2007، ويخضع منذ ذلك الوقت لحصار صهيوني بري وبحري وجوي خانق.

التصدي للغزاة

على مدار التاريخ كانت غزة جزءًا مهمًا من التصدّي للغزاة في المنطقة، استعصت عليهم وقاومتهم، حفرت الأنفاق وتمرّدت على الطامعين.

لقد قاومت الصليبيين الذين خرّبوها، وتصدّت لحملة نابليون على بلاد الشام، وقاتلت مع العثمانيين الغزو البريطاني في الحرب العالمية الأولى على مدار أكثر من 7 شهور، حتى دخلها الجنرال البريطاني اللنبي بعد خسائر كبيرة في أكتوبر/تشرين الأول 1917.

خضعت فلسطين للانتداب البريطاني، وقاومته بكل بسالة من 1920 حتى إعلان دولة إسرائيل عام 1948.

على وقع نكبة الـ 48 استقبل قطاع غزة الذي كان يسكنه حوالي 80 ألف مواطن، ما يقارب 200 ألف لاجئ من قرى وبلدات ومدن جنوب فلسطين، استقروا في 8 مخيمات لجوء فلسطينية على امتداد القطاع، ليشكل اليوم عدد اللاجئين من أبنائهم وأحفادهم حوالي ثلاثة أرباع سكان القطاع.

كثافة اللجوء إلى قطاع غزة، زرعت بذرة (تحدي غزة) الذي يتمثل في الديمغرافيا من جانب، والمقاومة من جانب آخر، والذي سيبرز مبكرًا ومستدامًا، ويمثل عقدة للمحتل لم يتمكن من حلها حتى يومنا هذا، رغم الجرائم والمؤامرات التي لم تتوقف، التي بدأها المحتل مبكرًا بطرح مشاريع التوطين في سيناء؛ بهدف منع عودة اللاجئين الفلسطينيين وإنهاء حق العودة.

في عام 1953 طُرح مشروع لتوطين 12 ألف أسرة لاجئة من قطاع غزة على أرض في شمال غرب سيناء، وحظي المشروع تحت ضغط أميركي بالموافقة وخصصت له الإدارة الأميركية 30 مليون دولار.

بعد عدوان 67 طرح الوزير الصهيوني إيغال آلون مشروعًا لنقل لاجئين من غزة إلى منطقة العريش، ثم طرح شارون مرة أخرى نقل 12 ألف أسرة من غزة إلى سيناء.

وفي حملة دموية قام قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال شارون بمحاولة تصفية المقاومة المسلحة (قوات التحرير) عام 1971 ونفذ مشروعًا لاقتلاع 12 ألف لاجئ من مخيمَي الشاطئ وجباليا؛ بهدف توسيع شوارع المخيمات، وهدم البيوت ليتمكن جيش الاحتلال من ملاحقة الفدائيين، ونشأ عن خُطة الترحيل هذه مشروع الشيخ رضوان شرق مخيم الشاطئ، ومشروع بيت لاهيا شرق مخيم جباليا.

مركز الفدائيين

بعد نكبة 48 تفجّرت المقاومة مبكرًا في قطاع غزة، ومع بداية الخمسينيات بدأت عمليات إغارة من الفدائيين المتسللين من غزة إلى قراهم داخل الأرض المحتلة، وتخريب المنشآت الصهيونية، ونهب مزارع المستعمرات، وردّ الصهاينة بقيادة شارون بمجزرة البريج التي أوقعت حوالي 50 شهيدًا.

انفجرت غزة ضد مشروع التوطين في سيناء عام 1953 وتشكلت كتيبة (مصطفى حافظ)، وقامت بعمليات جريئة ضد الكيان الصهيوني.

بعد احتلال غزة في العدوان الثلاثي عام 1956 أصبحت غزة مركزًا للفدائيين بمثابة (عش الدبابير)، ووقعت أثناء الاحتلال مذبحة خان يونس التي أوقعت 275 شهيدًا، ومذبحة رفح مع أكثر من مئة شهيد.

بعد انتهاء عدوان 56 تشكلت مجموعات فدائية انخرط فيها أبناء غزة من كافة التوجهات من الإخوان المسلمين وحتى الشيوعيين، وبعضهم أصبح قادة حركة فتح فيما بعد: “ياسر عرفات، خليل الوزير، صلاح خلف، فتحي البلعاوي” وغيرهم. ثم تشكلت قوات “عين جالوت” التابعة لجيش التحرير الفلسطيني، في القاهرة، ومعظم المنتسبين لها كانوا من أبناء قطاع غزة.

بعد احتلال قطاع غزة سنة 1967 مباشرة بدأ تشكيل الخلايا السرية بمشاركة بقايا جيش التحرير الفلسطيني، وأعاد (زياد الحسيني) (1943 – 1971) تشكيل خلايا “قوات التحرير” التي نفذت أعمالًا جريئة وقوية على امتداد القطاع. إضافة إلى ظاهرة جيفارا غزة “محمد الأسود”، وظاهرة “رفيق السالمي” من حركة فتح الذي قام بتصفية العملاء في مشاهد علنية.

غطّت عمليات الفدائيين مدن ومخيمات القطاع إلى درجة انتشار عبارة منسوبة إلى شارون يقول فيها: “إننا نسيطر على قطاع غزة نهارًا، بينما يسيطر عليه الفدائيون ليلًا”.

بعد خروج قوات منظمة التحرير من بيروت على أثر عدوان 1982 عادت غزة إلى الواجهة كقاعدة للنضال الوطني، ولأن قبضة جيش الاحتلال تبطش وتلاحق أي قطعة سلاح في غزة، فقد تشكلت ظاهرة (ثورة السكاكين) على يد أبناء حركة الجهاد الإسلامي في غزة؛ لإفشال خطة الحدود المفتوحة بين غزة وإسرائيل.

صدام شعبي واسع

هذه العمليات وروح المقاومة التي أوقدتها ولّدت زخمًا جديدًا بعد هروب 6 مقاتلين من حركة الجهاد الإسلامي من سجن غزة المركزي في مايو/أيار عام 1987، وقيامهم بعمليات جريئة ضد جنود الاحتلال، ثم استشهادهم في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في منطقة الشجاعية يوم 6 /10/ 1987، مما مهد المشهد لانبثاق الانتفاضة الأولى (1987-1993) من قطاع غزة.

ويمكن اعتبار الانتفاضة الأولى أوسع صدام شعبي مع المحتل وقوات الاحتلال منذ سنة 1948، حيث انتقلت الانتفاضة من قطاع غزة إلى الضفة الغربية ومساندة فلسطينيي الـ 48 والشتات، وغيّرت المشهد النضالي الفلسطيني مع دخول لاعبين جدد: “الجهاد الإسلامي”، و”حماس” التي تأسَّست مع بداية الانتفاضة، كما أبدعت المقاومة في استحداث طرق جديدة للقتال أهمها “العمليات الاستشهادية” لتعديل ميزان القوى المختل، وتحقيق الردع المتبادل. كذلك فإن الخطاب السياسي والتعبوي أخذ طابعًا دينيًا بعد أن اقتصر على البعد الوطني، أو اليسار الأممي.

بعد فشل الاحتلال ورئيس وزرائه إسحاق رابين في سياسة (كسر العظام) بهدف إجهاض الانتفاضة، قال العبارة المشهورة المنسوبة إليه: “أتمنى أن نستيقظ ونرى غزة وقد غرقت في البحر”، واستدار رابين 180 درجة للتفاوض مع “م.ت.ف”، وتوقيع اتفاق أوسلو في محاولة لإجهاض مقاومة الشعب الفلسطيني وسلبه جميع أوراق القوة.

ولأن منطق الأموات لا يسري على شعبنا، فقد استمرت المقاومة في تنفيذ العمليات المسلحة وخاصة العمليات الاستشهادية التي أربكت المحتل، وكان أبرزها عملية بيت ليد الاستشهادية المزدوجة والتي نفذها عضوا الجهاد الإسلامي (صلاح شاكر وأنور سكر) في يناير/كانون الثاني 1995، وتعتبر أهم عملية ضد جنود الاحتلال منذ عام 48.

لم تمضِ 5 سنوات على اتفاق أوسلو، حتى عاد الشعب الفلسطيني إلى سياقه الطبيعي في انتفاضة عام 2000، بعد أن اكتشف ياسر عرفات وهْم أوسلو في مفاوضات (كامب ديفيد 2)، وتصاعدت وتطورت في سياق انتفاضة 2000 المقاومة في غزة وأرسلت الجهاد الإسلامي وحماس الاستشهاديين في عمليات جريئة داخل الكيان، كانت أولاها عملية الجهاد الإسلامي التي نفذها الشهيد (نبيل العرعير).

توالت العمليات ضد مستوطنات قطاع غزة التي تسيطر على حوالي 45% من مساحة القطاع، ويسكنها حوالي 7500 مستعمر صهيوني، يقوم على حمايتهم 15 ألف جندي، مما اضطر المحتل عام 2005 حين كان (أبو الاستيطان) أرئيل شارون رئيسًا للوزراء إلى سحب قواته من قطاع غزة، وتفكيك المستعمرات، مغامرًا بانقسام حزبه (الليكود)، وتشكيل حزب جديد باسم (كاديما)، مع تحويل غزة إلى سجن كبير تسيطر عليه قوات الاحتلال برًا وبحرًا وجوًا، والتهديد بتدمير القطاع إذا واصل المقاومة.

قلعة المقاومة

في عام 2006 شاركت حماس وفازت بالانتخابات التشريعية، ثم سيطرت على قطاع غزة في يونيو/حزيران 2007 لتعلنه إسرائيل كيانًا معاديًا تحت الحصار.

منذ ذلك الوقت تحول القطاع – تحت إدارة حماس – إلى قلعة للمقاومة بعد أن قامت حماس والجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة، عمومًا، بتطوير الصواريخ والقذائف محلية الصنع، ومضادات الدروع، والأنفاق بالتوازي مع التعبئة العقائدية.

أمام تحدّي غزة التي قاومت محاولات عزلها عن القضايا الوطنية، وتصدّت لسياسة الاستفراد بالقدس والأقصى، تعرض القطاع إلى عنف صهيوني كبير خلال العقد ونصفٍ الماضي، هاجمت إسرائيل القطاع في حروب مدمّرة متتالية سنوات: 2008 /2009، 2012، 2014، 2019، 2021، 2022 قاومتها فصائل المقاومة بكل اقتدار مستندة إلى حاضنة شعبية صلبة.

في ظلّ تمرد غزة على الحصار، وفشل الحروب المتكررة في إخضاعها تفجّرت (مسيرات العودة)، ولعب المحتل لعبة “الحصار والتهدئة”، بتسهيلات محسوبة يتم سحبها عقابًا على أي توتّر أمني.

وما إن حازت المقاومة في قطاع غزة، إمكانات معقولة حتى خرجت للمحتل بـ (سيف القدس) لتبادر المقاومة لأول مرة بقصف القدس المحتلة دفاعًا عن أهلها ومقدساتها في تحدّ كبير للاحتلال، متجاوزة تهديداته، وملقية بالتصريحات والإدانات في المنطقة فارغة المضمون حول القدس والأقصى إلى سلة المهملات.

لم ينتبه أحد في العالم أو في الإقليم إلى أن (سيف القدس) يمكن أن تكون مقدمة لـ (طوفان الأقصى) إذا واصلت إسرائيل عدوانها وجرائمها، وواصلت أميركا سياسة التنكر للشعب الفلسطيني وحقوقه الدنيا، والإمعان في تصفية القضية الفلسطينية، وحصار غزة التي برزت كمعضلة تستعصي على أي حلّ.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version