طرابلس- من قلب العاصمة الليبية طرابلس، تعود نغمات “المالوف” لتصدح من جديد، معلنة انطلاق الدورة الـ12 من مهرجان طرابلس الدولي للمالوف، بعد انقطاع دام 10 سنوات بفعل النزاعات والانقسامات.

المهرجان، الذي يحمل هذا العام اسم “دورة الشيخ مصطفى محمد أبو جراد”، انطلق في 5 يوليو/تموز الجاري ويستمر حتى العاشر منه، في قصر الخلد، أحد أبرز المعالم التاريخية للمدينة.

تحت شعار الوفاء للتراث، تنظّم الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون بالشراكة مع المركز القومي لبحوث ودراسات الموسيقى العربية هذا المهرجان، الذي يرى فيه كثيرون بداية استعادة طرابلس دورها الثقافي، وعودة الصوت الليبي الأصيل إلى مقدمة المشهد.

فن ينهض من الذاكرة

يرتبط فن المالوف، ذو الجذور الأندلسية، بالهوية الثقافية للمغرب العربي. وفي ليبيا، اكتسب طابعا خاصا، توارثته الزوايا الصوفية، وتغنى به الرواد مثل حسن عريبي، ومحمد بوجراد، وأحمد الحاراتي، وغيرهم.

ويُعرف المالوف بأنه فن مركّب، قائم على نوبات موسيقية متعددة، تبدأ بتوشية وتتخللها مقاطع صوتية وإيقاعات تقليدية باستخدام آلات كالعود والكمنجة والبندير.

يقول أحمد دعوب، المدير التنفيذي للمهرجان، في تصريح خاص للجزيرة نت، إن المالوف هو من أعرق الفنون السمعية العربية، ونصوصه تمتد لأكثر من 500 عام، وله جذور ضاربة في حضارة الأندلس، مضيفا أن أحد أغراضه التوحيد والمدح، وتندرج تحته النصوص الششتريّة، نسبة إلى الشاعر الصوفي أبو الحسن الششتري، الذي انتشرت قصائده في أرجاء المغرب العربي.

مهرجان المالوف يمثل أحد أبرز عناوين عودة النشاط الثقافي إلى العاصمة الليبية (الجزيرة)

رسالة ثقافية بعد عقد من الانقطاع

خلال حديثه للجزيرة نت عبّر عبد الباسط بوقندة، رئيس الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، عن أن هذه الدورة ليست مجرد احتفالية فنية، بل تحمل أبعادا ثقافية وتاريخية عميقة، واصفا أن ليبيا عاشت لأكثر من 14 عاما في ظل حروب وتطرف، وسيطرة “للظلاميين” الذين حاربوا كل أشكال الفنون، ويضيف عودة مهرجان المالوف بعد 10 سنوات تعني أن الليبيين يريدون الفن والحياة، وأن الثقافة هي الطريق نحو الأمن والاستقرار.

ويتابع “نحن لا نستعيد المهرجان فحسب، بل نستعيد تراثنا، ونربط الأجيال الشابة بجذورها، وهذا ما نراه اليوم من حضور كبير للعائلات والشباب والأطفال، لقد عاش الليبيون سنوات من التصحر الثقافي، والآن نحن نطلق رسالة مفادها أن الحياة تعود، وأن الفن هو السبيل للخروج من الظلمة”.

مهرجان المالوف أحد أبرز عناوين عودة النشاط الثقافي إلى العاصمة الليبية (الجزيرة)

حضور واسع واهتمام شبابي

تشارك في المهرجان 11 فرقة موسيقية من مختلف مناطق ليبيا، بينها فرق من طرابلس، ومصراتة، وسبها، ودرنة، وزليتن، وكعام، وتاجوراء، بالإضافة إلى فرقة ضيفة من تونس.

وتتنوع العروض بين المالوف والموشحات والمدائح، وتُقدَّم وسط حضور جماهيري لافت في قصر الخلد.

سالم عبد الوهاب، المشرف الفني بفرقة الفجر الجديد من سبها، يقول للجزيرة نت، “نحن مسرورون بتجربتنا اليوم، وبهذا الجمهور الذواق الذي يسمعنا ويفهم معنى المالوف”، مضيفا أن هناك اهتماما متزايدا من الشباب بهذا الفن، خصوصا في الجنوب، حيث تحتضن فرق مثل فرقته المواهب الصاعدة منذ التسعينيات، ويؤكد أن المالوف لا يحتاج لإمكانات كبيرة، بل إلى حب حقيقي للفن وروحٍ تتذوق الجمال.

عبد الباسط بوقندة رئيس الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون ليبيا (الجزيرة)

تكريم الرواد وربط الأجيال

تحمل كل دورة من دورات المهرجان اسم أحد رواد المالوف الليبي، وفاءً لمن أسهموا في ترسيخ هذا الفن، ويقول أحمد دعوب “آخر دورة كانت باسم الفنان الطاهر العريبي، وهذه الدورة اختير لها الشيخ محمد بوجراد، تكريما لما قدّمه من إسهامات في المشهد الموسيقي في طرابلس، وخاصة في الزوايا التي كان لها دور محوري في تعليم المالوف ونقله للأجيال”.

ومن بين الحضور، يقول عصام الكحولي للجزيرة نت، “المالوف يعني لي الهوية الليبية والذكريات.. كنا نذهب للزوايا في المولد النبوي لنسمع الموشحات، وهذا الفن يعيدنا إلى عمقنا الروحي”.

ويضيف “لقد أُعجبت بموشحات فرقة الجنوب، والأجمل أن أرى الشباب الليبي اليوم متمسكا بهويته ويفتخر بها”.

11 فرقة موسيقية من مختلف مناطق ليبيا تشارك في مهرجان المالوف (الجزيرة)

خارطة فنية جديدة

يمثل مهرجان المالوف أحد أبرز عناوين عودة النشاط الثقافي إلى العاصمة الليبية، ويقول عبد الباسط بوقندة “أطلقنا هذا العام عدة مهرجانات ضمن خطة هيئة السينما والمسرح والفنون، منها مهرجان فنون الطفل، ومهرجان السينما، والآن مهرجان المالوف، وفي سبتمبر (أيلول) المقبل مهرجان الأغنية الليبية في لبدة”.

وأكد أن هدفهم هو إعادة الفن الليبي إلى الواجهة، وبناء مشهد ثقافي متكامل يعبّر عن هوية المجتمع الليبي ويصنع مساحة للتلاقي بين ماضيه وحاضره.

وفيما تُختتم فعاليات المهرجان الخميس المقبل، تبدو نغمة المالوف أكثر من مجرد موسيقى؛ إنها عودة إلى الذات، واحتفاء بجذور ثقافية ظلت صامدة رغم الحروب، وربما يكون مهرجان المالوف في طرابلس هذا العام ليس مجرد تظاهرة فنية، بل هو ولادة متجددة لذاكرة مدينة، وسردية شعب لا يزال يبحث عن صوته في زمن الضجيج.

شاركها.
Exit mobile version