بعد أكثر من 100 يوم على الحرب، تبدو غزة كالشجرة التي صعد عليها الجميع دون أن يرتب أحدٌ سُلمًا للنزول. ويبدو أن البدايات كانت لدى الجميع مرهونةً بضغط اللحظة التي ينبغي أن تبدأ، فيما النهاية جزءٌ من ترتيبات لاحقة.

خاضت حماس عمليتها في السابع من أكتوبر وهي تعي تمامًا أن ردة الفعل لن تكون أي شيء معتاد، لكن رغم ذلك يبدو أن التصورات لم تصل درجة اللامعتاد الحالي الذي نعايشه.

العصا لا تجلب الأمن

تستند الرواية الفلسطينية، حتى دون أن يرويها أحد، إلى أن الفعل من جنس الواقع. فلم يكن واقع غزة لائقًا بحياة البشر بسبب إستراتيجيات العقاب الجماعي التي اعتقد أصحابها أن العصا تجلب الأمن.

يقولون في علوم التربية؛ إن العنف العقابي يُوقف الفعل لكن لا يمنعه، بل قد يحفزه عند فرصة ما. خالف الاحتلال، ومِن ورائه الفاعلون الدوليون والإقليميون في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، قواعدَ التفاعل البشري وديناميات الفعل وردّه التي تقررها الطبيعة، وذهبوا جميعًا إلى سياسة الضغط حتى النهاية، فكان السابع من أكتوبر تلك النهاية. والمقاومة الفلسطينية بفعلها تبدو واعية لإمكانية معركة طويلة ومدمرة، لكنه يبقى وعيًا لم يجب عن سؤال السُّلم، سُلم النزول.

إلا أن المشهد الحالي يُظهر المقاومة كأكثر أطراف الصراع استعدادًا للتخلي عن السُّلم، والقفز من أعلى، على قاعدة أن الموت السريع بكل مأساويته خيرٌ من البطيء، الذي لا خير فيه إلا اعتياد الألم والتعايش معه. أما في جانب الاحتلال فهو الفاعل الأكثر تورطًا، والذي لا يسعفه وزنه للقفز بدون سُلم. النزول عن شجرة غزة بالنسبة للاحتلال هزيمة لا تبدو حقيقتها موضع نقاشٍ كبيرٍ بعد فشل تحقيق أهداف الحرب، رغم كل هذا الوقت والتحشيد وعمليات التقتيل والإبادة الجماعية.

هزيمة الاحتلال الإستراتيجية ناجزة بغض النظر عن النتيجة المنتظرة على الأرض. ومن هنا يبحث الاحتلال عن طريقة نزول مشرّفة، مدفوعةٍ بالهيبة المُهرقة على رمال غزة وغِلافها، وبالبقايا التي يحاول نتنياهو لملمتها من حياته السياسية التي وصلت حلْقتها الأخيرة في هذه الحرب.

نتنياهو سببٌ كبيرٌ في استمرار الحرب؛ بحكم المستقبل الحرج الذي ينتظره، إلا أنه يمتلك قوةً تتمثل بالضعف الكلي لدولته، مجتمعًا وجيشًا وحكومةً. فالإجماع الإسرائيلي على استمرار أطول حربٍ إسرائيلية بلا أفق هو ضعف، لكنه يمنح نتنياهو قوته الخاصة للاستمرار في محاولاتٍ حثيثة لتجميع فرصٍ تُمكّنه من البقاء في حرب البقاء الأشمل والأخطر لهذا الكيان. إلى أن ينكسر إجماعُ المذبحة الإسرائيليُّ، فنتنياهو بخير، وحربه في استمرار، وباقي المواقف الدولية تفاصيل مهمة، لكنها ليست حاسمة.

يستند الإجماع الإسرائيلي اليوم إلى عاملين؛ الأول: هو انكسار هيبة الردع، وفشل الجيش في استعادتها حتى الآن، وليس ممكنًا التساهل في هذا الجانب كونه من عقائد الدولة التي تقوم على أساس بناء الأمن. والثاني: هو وجود أسرى إسرائيليين لابد من تحريرهم كأقل نتيجة للحرب.

خلل إستراتيجي

هنا، ومن باب التفكير بصوتٍ عالٍ، ولأهل الميدان ظروفهم وتقديراتهم، قد يكون مهمًا التفكير بشكلٍ مختلفٍ في سياق المفاوضات القائمة لأجل صفقةٍ تُنزل الجميع من الشجرة خطوة خطوة. قد يكون القبول بصفقة تبادل كبيرة مقابل هدنة تمتد لأسابيع أو شهرين أو ثلاثة، دافعًا إلى إلغاء فاعلية العامل الثاني من عوامل الإجماع الإسرائيلي.

فعودة أسرى الاحتلال تجعل الحرب تستمر بأهداف نتنياهو فقط، بعد زوال واحد من عوامل إجماعٍ إسرائيليٍ يحمل معه مصلحة نتنياهو الشخصية في استمرار الحرب حتى يجد هذا الأخير سُلّمه الخاص للنزول. أما العامل الأول المتعلق بالردع والأمن، فإن كافة الأطراف وصلت مرحلةً باتت فيها مستعدةً لإعطاء شعور تحقيقه ولو مؤقتًا، سواء في جبهة غزة، أو في جبهة الشمال ومثيلاتها.

إن تحقيقَ صفقة كبيرة- يخرج فيها رموز من الأسرى الفلسطينيين، خاصة في الضفة الغربية، مثل: مروان البرغوثي، وأحمد سعادات – قد يسمح بإنتاج فاعلية فلسطينية من نوع جديد. وهنا لابد من تذكر الخلل الإستراتيجي الذي يلف الحالة الفلسطينية المتمثل بالانقسام بين حماس وفتح، والذي يمكن التقدير أن أسبابه الموضوعية لا تلغي مخاطره الإستراتيجية. إن استعادة جبهةٍ فلسطينيةٍ موحدةٍ أمرٌ ممكنٌ بالرمزيات، والساحة الفلسطينية متوثبة لوحدة سياسية وميدانية، وهي نسيجٌ مولعٌ بالرمزيات، التي يعكس حضورها مكانةً سياسيةً قد تكون الكبرى قياسًا على التجربة التاريخية.

كل ما سبق يستدعي الاتفاق مسبقًا على صفقة تتم من خلال بلورة مشروع سياسي فلسطيني واضح المعالم، وتصوّرٍ مُشبعٍ بالنقاشات الوطنية مع جميع الفاعلين الفلسطينيين. فهذه لحظة اجتماعٍ فلسطيني، والحرب هيّأت الجميع لتجاوز الفئويات لصالح مشروع وطني كبير، قد تكون هذه الدماء الطاهرة في غزة بوابته.

إن تفكير المقاومة الفلسطينية في استدعاء الاجتماع الوطني كطريق متعرج لتحقيق وقف الحرب من جهة، والبناء على نتائجها، الإيجابية والسلبية، هو المسار الأفضل، وربما الأقصر، والأهم؛ لأنه الأكثر جدوى وطنيًا على المديَين: القريب والبعيد معًا.

تهشيم سمعة المجرم وداعميه

نأخذ بعين الاعتبار وضع الصاعد الثالث على شجرة غزة، وهي الولايات المتحدة الأميركية. فواشنطن لم تعد قادرة على محاكاة شروط موقفها في الأسابيع الأولى للحرب، خاصةً مع مشهد محكمة العدل الدولية التي صدر حكمها الأخلاقي والدعائي ضد الاحتلال في الصورة التاريخية للمجرم في قفص الاتهام، قبل أن يصدر حكمها القانوني أيًا كان. وهي صورة مست سمعة المجرم وداعميه بطبيعة الحال.

ولا يخفى على أحد التباعد الذي يتسع بين نتنياهو وبايدن الذي يواجه استحقاقات موقف دعم الحرب محليًا ودوليًا. فواشنطن التي تفكر بعقلها الإستراتيجي في كل بقاع العالم، تلبس عقل إسرائيل الأمني عندما تصل الشرق الأوسط.

مشكلة واشنطن اليوم أنها مطالبة بالتفكير بعقلين معًا: العقل الأميركي تجاه حرب روسيا وأوكرانيا، وتأهب بكين الذي يزداد كل يوم لضم تايوان للبر الصيني من جهة، والعقل الإسرائيلي الذي يعبث بمصالح وسمعة أميركا والغرب كله في المنطقة والعالم، من جهةٍ أخرى. وما جعل الله لرجلٍ من قلبَين في جوفه.

صحيح أن الحرب الحالية تمثل معضلةً للجميع، لكنها لم تصل نقطة النضج الكلية، التي تجعل انتهاءها مطلبًا للجميع. فهناك طرفٌ لايزال يرى إمكانية الاستمرار، مدعومًا بإجماع أصحاب المصالح في سياقه، وهو الاحتلال الإسرائيلي. وإستراتيجية وقف الحرب تستدعي إيصال الجميع إلى نقطة النضج، التي يشكل الإجماع الإسرائيلي حائطًا لابد من تجاوزه في الخطوة ما قبل الأخيرة.

 

شاركها.
Exit mobile version