إنه صباح اليوم التالي لليلة السابقة، ولدى المملكة المتحدة الآن حكومة جديدة. فاز حزب العمال بقيادة كير ستارمر في الانتخابات العامة بأغلبية ساحقة، وحصد تقريبًا نفس عدد المقاعد والأغلبية الساحقة التي حققها توني بلير مع “حزب العمال الجديد” في عام 1997.

ومع ذلك، فإن حصول حزب العمال بقيادة ستارمر على السلطة أخيرًا بعد 14 عامًا من حكم المحافظين الطويل والكارثي، لا يمثل القصة الكاملة هنا. وكما هو الحال دائمًا، فإن التفاصيل الصغيرة تكتسي أهمية وتحتاج إلى تدقيق.

يبدو أن حزب العمال مدين بجزء كبير من انتصاره الساحق لرفض الناخبين التام لحزب المحافظين. ففي الأمس القريب، قُضي على المحافظين، ورفض الناس التصويت لصالحهم حتى في بعض المقاعد التي كانت تُعتبر منذ فترة طويلة الأكثر أمانًا، بما في ذلك المقاعد التي شغلها ذات يوم رؤساء الوزراء السابقون: تيريزا ماي، بوريس جونسون، ديفيد كاميرون، وليز تراس التي كانت صاحبة أقصر مدة خدمة في منصب رئيس الوزراء في التاريخ السياسي البريطاني.

ومع خسارة حزب المحافظين 250 مقعدًا، وجدَ العديد من الشخصيات البارزة في الحزب، مثل جاكوب ريس موغ، وبيني موردونت، وغرانت شابس، أنفسهم عاطلين عن العمل. وخسر 11 عضوًا سابقًا في حكومة حزب المحافظين مقاعدهم البرلمانية، وهو رقم قياسي. لقد كانت هزيمة كاملة لحزب المحافظين.

لقد حقق حزب العمال فوزًا ساحقًا، لكن حوالي ثلث الناخبين فقط -35%- أدلوا بأصواتهم لصالح الحزب. ارتفعت حصتهم من الأصوات في هذه الانتخابات بنسبة 1.4 نقطة مئوية فقط، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى المكاسب التي حققوها ضد الحزب الوطني الأسكتلندي في أسكتلندا في عام 2019، وأقل بخمس نقاط مئوية عما حصلوا عليه في عهد جيريمي كوربن في عام 2017.

ولو رفض الشعب البريطاني المحافظين في عامي 2017 أو 2019 بنفس الطريقة التي فعلوا بها بالأمس، لكان حزب العمال بقيادة كوربن قد حقق انتصارًا كبيرًا مثل الذي نشهده اليوم.

وهذا بطبيعة الحال نتيجة للنظام الانتخابي العتيق في المملكة المتحدة، الذي يساعد في الحفاظ على الاحتكار الثنائي للحزبين في وستمنستر، وغالبًا ما يحقق نتائج لا تتماشى مع إرادة الشعب.

ولكن على الرغم من هذا “النظام المعطوب”، ظل الناخبون يرسلون رسالة واضحة إلى حزب العمال من خلال انتخاب المستقلين المؤيدين لفلسطين.

في هذه الانتخابات، خسر حزب العمال بقيادة ستارمر عددًا من معاقله السابقة أمام المرشحين المستقلين الذين قاموا بحملات انتخابية على برامج مؤيدة للفلسطينيين، مطالبين بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار في غزة، وإنهاء احتلال فلسطين المستمر منذ عقود.

وفي خمس دوائر انتخابية، انزعج الناخبون من موقف ستارمر المؤيد لإسرائيل بشأن الحرب على غزة، وقام المرشحون المنتخبون بحملاتهم الانتخابية في المقام الأول حول هذه القضية. على سبيل المثال، فاز زعيم حزب العمال السابق المخلوع جيريمي كوربن بشكل مريح في دائرته الانتخابية في شمال إيسلينغتون باعتباره مستقلًا مؤيدًا للفلسطينيين.

وقام العديد من المستقلين الآخرين المؤيدين لفلسطين بتقليص أغلبية حزب العمال في المقاعد التي كانت تُعتبر آمنة في السابق. على سبيل المثال، تم تخفيض أغلبية وزير الصحة في حكومة الظل العمالية ويس ستريتنغ البالغة 5000 في إلفورد نورث إلى 500 فقط، عندما اقتربت ليان محمد – وهي امرأة فلسطينية بريطانية تبلغ من العمر 23 عامًا- من الإطاحة به. وعلى نحو مماثل، فازت جيس فيليبس – التي حصلت ذات يوم على أغلبية عشرة آلاف صوت – بفارق بضع مئات فقط من الأصوات في برمنغهام ياردلي ضد مرشح حزب صغير مؤيد لفلسطين.

حتى الآن، تم تفسير هذه الزيادة غير المسبوقة في التصويت المستقل من قبل وسائل الإعلام الرئيسية على أنها ببساطة رفض لسياسة ستارمر في غزة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة. ومع ذلك، فهذا تحليل قصير النظر يشير ضمنًا إلى أن المسلمين وحدهم هم الذين يهتمون بالإبادة الجماعية. علاوة على ذلك، فإنه يغذي التأويلات بخصوص الولاءات المنقسمة المزعومة للمسلمين البريطانيين، ما يؤدي إلى تأجيج الخوف من الإسلام.

الحقيقة بالطبع بسيطة. العديد من البريطانيين، سواء كانوا مسلمين أم لا، يريدون أن ينتهي القتل وأن تسود العدالة في فلسطين. علاوة على ذلك، يريدون أن يتمتع ممثلوهم بالنزاهة الأخلاقية للتحدث ضد الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي، حتى عندما ترتكب هذه الانتهاكات من قبل دولة تُعتبر حليفًا إستراتيجيًا رئيسيًا للمملكة المتحدة.

علاوة على ذلك، يعترف العديد من البريطانيين بتواطؤ المملكة المتحدة التاريخي في تجريد الفلسطينيين من أراضيهم بالعنف، ويريدون من حكومتهم أن تتخذ موقفًا مبدئيًا بشأن هذه القضية للتعويض عن أخطاء الماضي. ولهذا السبب، دفع موقف حزب العمال بشأن غزة العديد من الناخبين إلى إدارة ظهورهم للحزب.

وهناك قصة أخرى مهمة في هذه الانتخابات وهي صعود حزب الإصلاح اليميني المتطرف المناهض للهجرة، الذي حصل على 14% من الأصوات وأربعة مقاعد في البرلمان. نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة وزعيم مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هو الآن نائب إصلاحي يمثل كلاكتون.

وفي الأعوام القليلة الماضية، لعب فاراج دورًا مهمًا في تشكيل السياسة البريطانية، وخاصة في قضايا مثل الهجرة وعلاقة المملكة المتحدة بأوروبا، على الرغم من عدم حصوله على مقعد في البرلمان. والآن بعد أن أصبح ممثلًا منتخبًا، فمن المعقول أن نتوقع منه أن يكون له تأثير أكثر وضوحًا.

ومن داخل البرلمان، سوف يدفع الإصلاح حزب العمال إلى تبني سياسات أكثر يمينية وعدوانية بشأن الهجرة. سيتعين على ستارمر مقاومة هذه الحملة والعمل على إنشاء سياسة للهجرة واللجوء تتماشى مع القانون الدولي والمبادئ الأخلاقية، والتي تخدم أيضًا احتياجات البلاد.

إذن، أين نذهب من هنا؟ 14 عامًا من حكم حزب المحافظين أخذت الكثير من الشعب البريطاني، حياتنا الآن أصعب بكثير، الكثير منا أصبح أكثر فقرًا. جميع خدماتنا العامة منهارة. علاوة على ذلك، وكما أظهر نجاح المستقلين المؤيدين لفلسطين، يشعر الكثير منا بالذهول عندما نرى حكومتنا تدعم حرب إبادة جماعية ضد شعب يعيش تحت الاحتلال، إذ ساعدت بريطانيا الاستعمارية في تحديد مصيره.

هناك شهية هائلة للتغيير، ولهذا السبب صوّت الناس لصالح خروج المحافظين. ولكن بينما يتولى قيادة البلاد، من المهم للغاية أن يعترف كير ستارمر بأن فوزه لم يكن مطلقًا، وأنه لم يقنع قطاعات كبيرة من الناخبين بأن حكومته ستخدم مصالحهم. وسيتعين عليه أن يوضح لنا جميعًا أنه فهم الرسالة الواضحة التي أرسلها الناخبون، “نحن نرفض المحافظين، ولكن هذا لا يعني أننا نحتضن حزب العمال الخاص بك دون قيد أو شرط”.

في خطابه الأول كزعيم جديد للمملكة المتحدة، أشار ستارمر إلى أنه يفهم ذلك، وادّعى أنه يريد أن يكون رئيس وزراء البلاد بأكملها، وخاصة أولئك الذين لم يصوّتوا له.

إذا كان جادًا بشأن هذا الأمر – وآمل أن يكون كذلك من أجل بلدنا – فسوف يحتاج إلى التواصل مع أولئك الذين ينتمون إلى اليسار العمالي الذين طردهم من الحزب، والحركة النقابية، وجميع القوى الأخرى في المملكة المتحدة من الذين يريدون رؤية هذا البلد يخدم مصالح جميع شعبه، ودعم حقوق الإنسان والقانون الدولي في سياسته الخارجية.

ولا يمكن تجاهل المكاسب التي حققها المستقلون ومرشحو الأحزاب الصغيرة اليسارية. وسيتعين على ستارمر أن يستمع إلى مخاوفهم بشأن قضايا مثل غزة وتغير المناخ، وأن يتخذ الإجراء المناسب.

وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف يرى أن انتصاره الانتخابي، المبني على انهيار حزب المحافظين، سيثبت أنه لا معنى له.

فهو لن يكون غير قادر على مقاومة الضغوط التي يمارسها حزب الإصلاح فحسب، بل سيواجه أيضًا المزيد من الغضب والاحتجاجات والضغط القوي من جانب اليسار من أجل المساءلة.

لقد كان لليسار المؤيد لفلسطين تأثير كبير على هذه الانتخابات، لكن المعركة لم تنتهِ بعد. والآن بعد خروج حزب المحافظين، ووصول حزب العمال إلى السلطة، فإن هذه المجموعة غير المتجانسة تحتاج إلى المزيد من التوحد، وتطوير إستراتيجيات جديدة للضغط على الحكومة الجديدة لحملها على اتخاذ إجراءات مجدية بشأن القضايا التي تهمّهم، بدءًا بالحرب على غزة.

لقد أظهرت هذه الانتخابات أن أيام الاحتكار الثنائي للحزبَين في المملكة المتحدة قد ولّت. مع تزايد عدد الأشخاص الذين يقررون لمن سيصوتون بناء على قيمهم بدلًا من ولائهم لحزب ما، هناك فرصة مهمة لليسار لزيادة تأثيره.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version