في قلب غزة، حيث تتكسّر الأحلام على صخور الواقع المرير، تُبصر العيون مشاهدَ لا يمكن أن تُنسى. الأطفال يفترشون الأرض الباردة، ويلتحفون سماء تُسقط عليهم حممًا من قذائف الطائرات القاتلة. ترى الطفلة الجريحة في أركان المستشفى تنتظر أملًا يأتي من المجهول، بينما الأطباء يقفون عاجزين، لا دواء يشفي ولا معدات تخفّف الألم.

فيما يجمع أب شتات شمله وهو يستقبل أشلاءَ ابنته على دفعات من مستشفيَين مختلفين، بعد أن كان وعدها بتوفير حذاء، وجنينٍ قُتل في بطن أمّه الشهيدة بعدما كانت ترسم لنفسها ولابنها أحلامًا لا تنتهي فور توقف الحرب، فخطف أرواحهم صاروخ غادر دون أن يمهلهم ويمكنهم من تناول وجبة الإفطار! في هذه الأرض التي نُهبت أحلامها واغتيلت ابتسامات أطفالها، لا تجد إلا الصبر زادًا، والإيمان جدارًا يتكئ عليه الناس في مواجهة حصارٍ لا ينفك يُحكم قبضته وحربٍ ضروس حوّلت حياة أهله لجحيم.

غزة، تلك البقعة الصغيرة التي تُحاصر من كل جانب، ويشترك في حصارها العربي المطبع المتحامل، والعدو الهمجي الصائل، تعيش تحت حصار لا يعرف الرحمة منذ 17 عامًا. كل شيء في هذه الأرض بات خاضعًا لقيود المحتل، من الماء إلى الدواء، من الغذاء إلى الكهرباء. 100% من سكانها الآن يعتمدون على المساعدات، وأكثر من 85% منهم يعيشون نازحين داخل وطنهم. هؤلاء النازحون يبحثون عن مأوى بين أطلال بيوتهم المدمرة، وفي مساحة أقل من 36% من مساحة القطاع، لكن الحصار يجعلهم يعيشون بلا مأوى حقيقي، بلا أمان ولا استقرار.

حصار جعل القطاع الصحي في غزة يعاني ويعجز عن تلبية احتياجات المرضى والمصابين. مستشفيات خارج الخدمة والذي يعمل منها يعمل بربع طاقته، دون طاقم مناسب ودون إمكانات متوفرة، بينما يتكدس المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات جراحية طارئة بلا أمل في علاجٍ قريب. الأطباء، أولئك الجنود الذين يقاتلون من أجل الحياة، يقفون على حافة الانهيار؛ إذ لا يوجد سوى القليل من المعدات، ولا دواء يكفي حتى لجرح واحد. لقد تحولت المستشفيات إلى مسارح للألم، حيث يموت المرضى ببطء، وهم يعلمون أن الأمل بات سرابًا بعيدًا.

في قلب هذا الجحيم وأتون الحصار يقف العاملون في مجال الإغاثة كرموز للإنسانية التي لا تنكسر. أكثر من 150 من هؤلاء الأبطال فقدوا حياتهم، وهم يحاولون إيصال الغذاء والماء للنازحين والمحتاجين، وبناء المأوى للمشردين، وإعادة ترميم المستشفيات وحفر الآبار.  قُتلوا تحت القصف، وهم يحملون على أكتافهم رسالةً واحدة: “إنقاذ الأرواح”. قدموا خدمة مجتمعهم والفئات الضعيفة والمهمشة على حياتهم غير آبهين بآلة البطش والقتل من قبل الاحتلال، وغير مكترثين بماكينة التشويه والتشهير من أذناب الاحتلال.

ورغم كل ذلك، تظل المساعدات تصل ببطء، فالاحتلال يتحكم في كل شريان ينبض في غزة، ويغلق المعابر متى شاء، ليترك الشعب يعاني من الجوع والعطش بلا أمل في الغد، بل ويصنع الفوضى من خلال تمكين عصابات الجريمة المنظمة من الاستيلاء على شاحنات المساعدات واستهداف فرق تأمينها.

وعلى الرغم من الجهود التي تُبذل يوميًا لإغاثة غزة، يبقى العمل الإنساني مشلولًا في مواجهة سيطرة الاحتلال على المعابر. فتح المعابر هو الشريان الذي يُبقي غزة حية، لكن إسرائيل تغلق هذا الشريان متى أرادت؛ لتقطع على الناس حتى الهواء الذي يتنفسونه. ومع كل يومٍ يمر، يتفاقم نقص التمويل، ليزيد من تعقيد الوضع، ويجعل المنظمات عاجزة عن تلبية الاحتياجات الهائلة لسكان القطاع.

لم يتغير شيء في القطاع منذ عام، على العكس زاد تدهور الأوضاع الإنسانية، وضعفت القدرة الشرائية عند جميع فئات الشعب الفلسطيني رافقه ارتفاع فاحش في أسعار البضائع، إلا أن هناك من قد اعتاد المشهد او استُنزف وبدأ ينصرف عن غزة واحتياجاتها!

اليوم، تأتي الصحة على رأس الأولويات في غزة، فالمستشفيات بحاجة إلى أدوية ومعدات طبية فورية، وإلا سيستمر عدد الضحايا في الارتفاع بشكل مأساوي. الماء والغذاء، وهما أساس البقاء، باتا أيضًا شحيحين. الأطفال الذين كانوا يضحكون ويلعبون في الشوارع، باتوا اليوم يعانون من سوء التغذية، ويواجهون خطر المجاعة، بينما يُمنع عنهم حتى الماء النظيف.

وعليه يجب ضمان دخول الأدوية والمعدات الطبية بشكل عاجل ومستمر عبر ممرات إنسانية محمية من القصف. لا يمكن أن تتوقف الحياة؛ لأن المحتل يريد ذلك. وتوفير المستشفيات الميدانية، حيث يجب أن تكون الأولوية القصوى لتوفير الرعاية الفورية للجرحى والمرضى، في ظل النقص الحاد في البنية التحتية الصحية.

ويجب العمل على تأمين الغذاء والمياه النظيفة وأن يكون على ذلك رأس الأولويات، فكلما تأخر دخول هذه الإمدادات، ازدادت الأزمة الإنسانية سوءًا. يجب أن تعمل المنظمات الدولية على الضغط لإدخال المواد الغذائية بشكل مستمر ودون انقطاع.وعلى جهات إنفاذ القانون في قطاع غزة والعشائر القضاء على عصابات الجريمة المنظمة التي تعترض الشاحنات مهما تطلب الأمر، فلا يمكن الصمت على من يسرق قوت الأطفال، ودواء المرضى، ويحظى برعاية وتأمين الاحتلال.

ختامًا؛ غزة، تلك الأرض الصغيرة التي باتت رمزًا للعالم بأسره، تُعيد كتابة تاريخ الأمة. صمودها في وجه الحصار، تمسكها بالحياة رغم كل الظروف، هي شهادة حية على أن العزة لا تُشترى، وأن المقاومة لا تنكسر. غزة بشعبها الحر الشعلة التي تضيء عتمة العالم، فهم الصوت الذي لا يخبو، وهم الأمل الذي يُبقي الجميع في انتظار الفجر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version