بعد أقل من 20 عاما، يعود المخرج البريطاني ريدلي سكوت إلى فيلم “غلادياتور” (Gladiator) الفائز بـ5 جوائز أوسكار لعام 2021، ليعيد تشكيل ملامح قصة جديدة في الجزء الثاني “غلادياتور 2” (Gladiator 2)، لكن المخرج البريطاني المخضرم بدا وكأنه لم يتجاوز إعجابه بالجزء الأول، فحاول صنع نسخة منه، إلا أنه أكد على المقولة الحائرة بين الأدب والتاريخ والفلسفة والتي تقترح أن التاريخ يعيد نفسه. قد لا يعترف سكوت بمحاولته تقليد نفسه، لكن القصة التي تحكي عن شاب نبيل تُقتل زوجته، ويُستعبد ويتم ضمه للمصارعين في ساحة الكالسيوم في روما، مع وجود حاكم عابث ودموي، تكاد تكون قصة “غلادياتور” في جزئيه.

وريث البطولة

ترتبط بداية الجزء الثاني، الذي يعرض حاليا في دور العرض الأميركية، بسلاسة مع نهاية الفيلم الأول من خلال البناء على إرث بطل العمل وقائد الجيوش السابق مكسيموس ديسيموس ميريديوس، والذي جسد دوره الممثل الأسترالي راسل كرو.

وبينما ينتهي الجزء الأول بموت مكسيموس، يبدأ الجزء الثاني بعد ما يقرب من 20 عاما، مع التركيز على لوسيوس، ابن أخ الإمبراطور الشاب كومودوس. يحمل لوسيوس، الذي أصبح بالغا الآن، صدمة الفساد الإمبراطوري في روما وذكريات تضحية مكسيموس التي ألهمته في سعيه لتحقيق العدالة واستعادة شرف روما.

يفقد لوسيوس منزله وعائلته على يد أباطرة روما المستبدين، كما حدث مع والده الحقيقي مكسيموس، ويتم استعباده وإجباره على خوض معارك المصارعة (كما حدث مع والده أيضا). يرسم لوسيوس مع حلفائه خطة للإطاحة بالحكام الفاسدين. وتبلغ الرواية ذروتها في معارك الولاء والخيانة والفداء، حيث يحارب لوسيوس لاستعادة السلام للإمبراطورية.

قدم ريدلي سكوت بعد 20 عاما فيلما يبدو حديثا، لكن تاريخ أحداثه يعود إلى مئات السنين (مواقع التواصل الاجتماعي)

انتقل راسل كرو إلى خلف الكاميرا في الفيلم الجديد كمنتج تنفيذي، وقدم دور لوسيوس الممثل باول ميسكال الذي يشي أداؤه بجهد كبير لتجنب المقارنة مع كرو، لكن واقع الحال يشير إلى أنه رغم مرونة أداء باسكال، يبقى يحوم طيف راسل كرو مبتسما في الفيلم بحضوره الطاغي، والطاقة المدهشة، ورصيد النجاح السابق.

شارك الممثل الكبير دينزل واشنطن بدور ماكرينوس، المصارع القديم الذي تحول إلى عراب حلبة الكالسيوم والمورد الرئيسي للمصارعين، ولم يكن دور سيد المصارعين بهذه الأهمية في الجزء الأول لكن تم تطويره عبر تعقيدات درامية جديدة وأداء واشنطن المميز جعله يقف على قدم المساواة، إن لم يكن أكثر تميزا، مع بطل العمل باول ميسكال.

الحزن قدر النساء

وقدمت الممثلة كوني نيلسون دور لوسيليا بالكثير من الأسى والحزن الذي قدمت به الدور في الجزء الأول، فقد كانت في البداية ابنة الإمبراطور الأب الذي قتله ابنه، والأم التي يهددها شقيقها بقتل ابنها إذا اتخذت موقفا مضادا له، أما في الجزء الثاني، فقد كانت زوجة لقائد الجيوش الذي يحقق الانتصارات لروما، لكنه يسعى للإطاحة بالإمبراطورين الدمويين العابثين، فيكشف أمره ويستعبد.

يقف دينزل واشنطن الفائز بجائزتي أوسكار وحيدا على قمة الأداء في الفيلم، يليه باول ميسكال، ومن ثم بيدرو باسكال، فقد أدى دور المقاتل المضحي والزوج المخلص بشكل رائع، ومن المحتمل أن يجد واحد من الثلاثة واحدة من جوائز الأوسكار في انتظاره عام 2025.

20 عاما من التقدم التكنولوجي

رغم بلوغه العام السابع والثمانين، فإن ريدلي سكوت لم تنقصه الحيوية والحركة، بل والعنف الدموي الذي أغرق ساحة الكالسيوم الرومانية الشهيرة، وقد صممت الساحة بالذكاء الاصطناعي لتصبح أكثر دقة وأجمل من سابقتها في الفيلم الأول، لكن تجاهل المخرج ريدلي سكوت لقوانين الفيزياء اضطر المشاهد الجاد إلى التوقف قليلا أمام مشهد السفن التي خاضت حربا ضروسًا في مياه ساحة الكالسيوم التي لا يمكن أن تتسع لها، وإذا اتسعت، فمن المستحيل أن يصل الصوت أو الصورة للجمهور بسبب المساحة الهائلة بينه وبين ما يحدث على أرض الساحة.

وقد جاءت المعارك، بشكل عام، ملحمية وحماسية ورائعة، وإن صنع المونتاج مفارقة تكرار الجزء الأول في الثاني عبر تصوير قتل زوجة لوسيوس في مشهد ما قبل البداية (أفان تتر) في محاولة لتذكير الجمهور بالمشهد الأكثر إيلاما في الجزء الأول حين قتلت زوجة وابن مكسيموس. جاء (الأفان تتر) ليصنع سوء فهم ظل حتى ما يقرب من ثلث الفيلم قائما لمعرفة الصلة بينه وبين أحداث العمل، لنصل إلى أضعف أجزاء الفيلم، وهي الحكاية الرئيسية التي تسببت فيما بعدها من أحداث.

كانت الأم لوسيليا قد أرسلت ابنها بعيدا فيما بقي من مستعمرات رومانية في أفريقيا لحمايته باعتباره الوريث القادم لعرش الإمبراطورية، لكن زوجة لوسيوس الذي كبر هناك وتزوج تواجه معه هجوم أتباع الإمبراطورين العابثين “غيتا” و”كركلا” أو (فريد هيستنغر وجوزيف كوين) اللذين يسيطران على روما العاصمة ومستعمراتها، وتقتل. لم يتم إشباع الحكاية ولم يرد منها سوى مشهد قتل الزوجة في حرب، وأسر الزوج الذي تحول إلى مصارع.

gladiator 2 منصة اكس - @DiscussingFilm
معارك الفيلم جاءت ملحمية وحماسية ورائعة (مواقع التواصل الاجتماعي)

دروس أخلاقية

اتخذ الحوار بين ماكرينوس (دينزل واشنطن) ولوسيوس (باول ميسكال) في البداية الأسلوب نفسه من حيث النص المكتوب والأداء في الجزئين، فثمة مصارع مستعبد يتزعم زملاءه ويحقق الانتصارات ويبدو صاحب ماض مختلف، ومصارع سابق وصل إلى قمة نجاحه بالقتال في الحلبة والتسلق خارجها. يتحدثان عن السلطة والإمبراطورية ومستقبل روما، وبينما ينطلق لوسيوس من هدفه الأساسي وهو قتل ماركوس أكاسيوس الذي حل مكان والده قائدا للجيوش وزوجا لأمه أيضا، وهو سوء الفهم الذي استوعبه لوسيوس حين ضحى أكاسيوس بحياته من أجله وألقى سلاحه في مواجهته.

كان ماكرينوس في عالم آخر إذ سمح لطموحه أن يتجاوز مقعد التابع أو الخادم الذي يقوم بإعداد ألعاب الترفيه عن الأباطرة وإلهاء الشعب، لقد سعى للسيطرة على الإمبراطورية بكاملها عبر الإبلاغ عن خطة انقلاب أكاسيوس على الإمبراطورين وبالتالي قتله وقتل زوجته والدة الوريث الشرعي للحكم وأخيرا السيطرة على الإمبراطورية بالقوة التي يملكها من عبيد ومصارعين.

ماكرينوس القادم من قاع المجتمع بلونه الأسود وأصوله الأفريقية الواضحة هو شيطان العمل و صاحب الأعمال غير الأخلاقية التي تمتد من النفاق إلى التآمر، والخيانة والتجسس، ومن ثم السعي لتجاوز قدرته وقدره، وهنا يتأكد حضور ريدلي سكوت المخرج الأسطوري صاحب التاريخ الطويل من الأفلام التي تقسم العالم إلى شمال راق و جنوب متوحش، ويتأكد أيضا حضور اللون الأسود في ساحة الكالسيوم بين المصارعين أو لدى ماكرينوس الخائن الذي ساقه الطمع إلى الخيانة وغرّه التحرر إلى الطموح للسيطرة على الأحرار، ويلقى الخائن ماكرينوس مصيره في مواجهة شرسة مع لوسيوس الذي ينتقم للقيمة الأخلاقية منه بقطع ذراعيه قبل القضاء عليه تماما.

قدم ريدلي سكوت بعد 20 عاما فيلما يبدو جديدا في التقنية، لكن تاريخ أحداثه يعود إلى مئات السنين رغم أن ظلال أبطاله تظهر على شاشات التلفاز وفي النشرات يوميا، وقدم أيضا عملا ترفيهيا لا يخلو من الرسائل الميكيافيلية التي أشار إليها أحد الساسة في الفيلم في معرض حديثه للبطل الطامح لوسيوس، قائلا “السياسة في خدمة القوة.. استعد ما تعتقد أنه حق لك، وسنكون معك”.

شاركها.
Exit mobile version