قال ترامب: “حققنا نصرا سياسيا لا مثيل له، سيسمح بجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، مؤكدا أن “أميركا ستدخل عصرا ذهبيا”.
على وقع تقدمه في التصويت الشعبي واقترابه من حسم أصوات المجمع الانتخابي لصالحه، مع حصده 267 صوتا مقابل 224 لمنافسته الديمقراطية كامالا هاريس قبل إقفال جميع الصناديق رسميا، خاطب المرشح الجمهوري دونالد ترامب أنصاره من مقر حملته في فلوريدا، معلنا فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
خاض ترامب معركته الرئاسية الثالثة في ظل عالم يعيش توتراته السياسية والأمنية، بعدما اعتمدت إدارة الرئيس السابق جو بايدن على سياسة “الاحتواء” لكل من الصين وروسيا، وتبنيها مساندة إسرائيل في حربها مع إيران ومن معها في المحور في الشرق الأوسط.
اعتبرت كل من روسيا والصين أن قرار بناء العالم الجديد اتُخذ ولا رجعة عنه، وأن ما نتج عن قمة مجموعة الـ”بريكس” التي عقدت في قازان الروسية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، من قرارات، منها إيجاد عملة تجارية بديلة عن الدولار، بات في حكم التنفيذ.
لهذا، يتساءل البعض عن أي طريق للعودة إلى “أميركا العظيمة” سيسلكها ترامب؟ وماذا عن “العصر الذهبي الأميركي” الذي نطق به في زمن بات على أعتاب ما بعد “الأمركة”؟
“فاز ترامب”، نعم، ولكن فوزه لولاية ثانية يختلف عن فوزه في ولايته الأولى، حيث إن الرجل لم يكن معروفا في الساحة السياسية العالمية، هو الآتي من عالم المال والتجارة، لكن عالم اليوم بات يدرك كيف يفكر، وما الخطوات التي سيتخذها في البيت الأبيض، لا سيما فيما يتعلق بالمواضيع الساخنة التي تدور على أكثر من ساحة دولية. لهذا، استعد لها، وعُقدت على ترامب تحقيق أمنياته.
عالم اليوم مختلف عن عالم عام 2020 عندما غادر البيت الأبيض. كما أن الأصوات التي حصل عليها ترامب في انتخابات عام 2016 لم يحصل عليها جميعا في انتخابات عام 2020، فخسر المعركة أمام بايدن.
واليوم، مع إعلانه الفوز، فعلى مستشاريه أن يدركوا أن نسبة الأصوات التي أتت به رئيسا لا تعني أنها تؤيد سياساته، ولا تعني أنها تصدق كل الوعود التي أطلقها في حملته الانتخابية. بل تعني أنها ستكون عائقا أمام سياساته الداخلية كما الخارجية إن تنصل مما وعد به، وعلى رأس هذه الأصوات هناك أصوات الجالية العربية والإسلامية في الداخل الأميركي.
تشكل شخصية ترامب على مستوى الدبلوماسية الخارجية لأميركا مصدر قلق، تحديدا في علاقات بلاده مع حلف شمال الأطلسي وروسيا. ففي الوقت الذي يعتبر فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن وصول ترامب إلى سدة الرئاسة سيعطي أملا أفضل لإنهاء الصراع الحاصل في شرق أوروبا، يعتبر الحلف أنه مستعد لكل السيناريوهات، لا سيما تلك التي حملت تهديدات مباشرة من ترامب بوجوب تسديد الدول الأعضاء التزاماتها المالية، وإلا فما على واشنطن إلا الانسحاب.
هنأ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب بفوزه في الانتخابات، مؤكدا أنه سيُبقي الحلف قويا، قائلا: “إننا نتطلع للعمل مع ترامب لتعزيز السلام”.
لا خيار أمام ترامب من الذهاب بعيدا في “فك الارتباط” بحلف الناتو، لا سيما بعدما وقفت روسيا أمام أميركا العظمى التي يحلم بعودتها ترامب إلى عصرها الذهبي. فالانعزالية الأميركية عن أوروبا لن تضعفها بقدر ما ستجعل من روسيا أقوى، وهنا يكمن التهديد الحقيقي للولايات المتحدة.
لهذا، خطت الدول الأوروبية خطوات استباقية وزادت حوالي 2% من ناتجها القومي لتمويل موازنة الدفاع في أغسطس/ آب الماضي، كما أن الدول الأوروبية تتجه نحو تنشيط ترسانتها العسكرية بشكل يحاكي التحديات على الساحة الدولية.
الوضع اليوم في ولاية ترامب الثانية بات أكثر تعقيدا على واشنطن مع روسيا، وما صرح به ترامب سابقا وأعطى حافزا روسياً نحو تنمية فوزه وضع الأخير أمام معضلة على الساحة الدولية، فهو في مكان لا يستطيع فيه محاكاة روسيا بالتفاهمات، وفي الوقت نفسه يعلن الحرب على الصين وإيران. لأن حرب أوكرانيا سرعت التلاقي بين الدول الثلاث، وجعلت من حلفها مقدسا، وأرست شراكة لا مثيل لها على الساحة الدولية.
لهذا، لن يستطيع ترامب التخلي عن عضوية بلاده في حلف الناتو، لأنه رفع سقف التحدي عاليا مع إيران كما الصين. فإعلانه أن إيران كانت وراء محاولة اغتياله هو لغة لمحاكاة حرب مع النظام القائم في طهران، كما أنه من فتح باب المواجهة مع الصين قبل بايدن، وما فرض العقوبات على الشركة الصينية للاتصالات “هواوي” إلا نموذج على عمق الخلاف بين العملاقين الصيني والأميركي.
وعود انتخابية حفزت بعض الناخبين العرب والمسلمين لانتخابه، على اعتقاد أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط يعود سببه إلى سياسة بايدن الداعمة لإسرائيل. لكن في الواقع، هناك مغالطة واضحة، ترتكز على أن ما يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليس إلا تنفيذا لما وقع عليه ترامب في ولايته الأولى، وما “صفقة القرن” و”نقل السفارة الأميركية إلى القدس” إلا دليل على ذلك.
لم يكن عبثيا من نتنياهو أن يقيل وزير الدفاع يوآف غالانت ليلة الانتخابات الأميركية، الثلاثاء الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. فموضوع الإقالة، ورغم أنها شكلت صفعة لأهالي المحتجزين الذين طالبوا بعصيان مدني لعزل نتنياهو، فإنها حملت في طياتها رسالة واضحة إلى الجانب الأميركي، مفادها أن إقالة غالانت وقبله وزير الدفاع السابق بيني غانتس المقربين من الديمقراطيين، هي بمثابة “فك الارتباط” بين نتنياهو والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى، فإن تعيين يسرائيل كاتس اليميني المتطرف مكان غالانت أيضا دلالة واضحة على أن حكومة نتنياهو المتطرفة تتلاقى مع اليمين الصاعد في أميركا بشخص ترامب، وأنها تستعد لتطبيق ما وافق عليه ترامب سابقا في الشرق الأوسط، وهي “الدولة الإسرائيلية القومية وعاصمتها القدس”.
أحلام كثيرة يحملها ترامب إلى البيت الأبيض، لكن العقبات في تحقيقها باتت أصعب، وما كان يهدد به في ولايته الأولى، قد يصبح مجرد أمنيات في الولاية الثانية. لهذا، يتوقف الأمر عند حكمة ورؤية من سيدير القرار في البيت الأبيض.
فعلى ما يبدو، ترامب 2016 ليس ترامب 2024، فللمراحل العمرية دور في اتخاذ القرار، فهل سنجد بايدن آخر لإدارة القوى العظمى في العالم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.