في الحادي عشر من مايو/أيار 2023، وبعد نحو شهر واحد من اندلاع القتال في السودان، احتضنت مدينة جدة السعودية توقيع وثيقة “إعلان جدة لحماية المدنيين”، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وسط تطلعات بأن يسهم هذا الإعلان في تهدئة الصراع المحتدم.

جاءت هذه الوثيقة بعد مفاوضات عسيرة استمرت أيامًا، تحت رعاية سعودية أميركية، أثارت خلالها موجة من الآراء المتباينة. فقد كانت محلّ رفض العديد من القوى المناصرة للجيش السوداني الذين رأوا في التفاوض استجابة غير مبررة لضغوط خارجية، وأن الحسم العسكري هو السبيل الأمثل لإنهاء النزاع.

وفي مقابل ذلك، كان موقف قوات الدعم السريع مختلفًا تمامًا، حيث رحبوا بالمفاوضات وأبدوا استعدادهم للتعاون مع الوسطاء، وهو الموقف الذي انقلب لاحقًا إلى محاولة للتفلّت من التزامات هذا الإعلان

وبعد مرور أكثر من عام على ذلك الإعلان، لم يتوقف خلالها القتال، نعود للنظر في ذلك الإعلان الذي كان ولا يزال يقدم ركيزة جيدة لإنهاء الصراع.

تحفظات القوى المؤيدة للجيش

كانت واحدة من أبرز التحفظات التي أعرب عنها بعض مؤيدي الجيش السوداني، تتمثل في أن التفاوض جرى باسم “القوات المسلحة السودانية”، وليس باسم “الحكومة السودانية”، وهو ما رأوه تقليلًا من سيادة الدولة وتنازلًا غير مبرّر من قبل الجيش. ففي نظر هؤلاء، لا يجوز التفاوض مع قوات الدعم السريع على قدم المساواة مع القوات المسلحة السودانية، التي تُعتبر المؤسسة العسكرية الرسمية للدولة.

هذا الرأي استند إلى فكرة أن الحرب هي تمرّد ضد الدولة، وبالتالي فإن مساواة الجيش بقوات متمردة تُعتبر في نظرهم خطوة غير منطقية وتنتقص من هيبة المؤسسة العسكرية.

في المقابل، كانت هناك قوى سياسية أخرى تؤيد المفاوضات، وهي تنظر إلى الحرب منذ بدايتها على أنها نزاع بين طرفين متساويين. هذه القوى كانت جزءًا من الاتفاق الإطاري قبل اندلاع الحرب، ثم أسست لاحقًا “تنسيقية القوى المدنية” (تقدم)، وكانت ترى في التفاوض فرصة للحد من التصعيد العسكري، والبحث عن تسوية سياسية، تنقل السودان من حالة الحرب إلى السلام. من هذا المنطلق، كانت تلك القوى تؤيد التفاوض حتى في هذه المرحلة المبكرة، معتبرة أن الحل السياسي هو السبيل الأمثل لحل الأزمة.

رغم التحفظات والجدل الدائر، مضى الجيش السوداني في المفاوضات، وقبل أن يكون طرفًا مقابل قوات الدعم السريع. وقد لاقت هذه الخطوة تأييد بعض القوى السياسية السودانية، إلى جانب الحركات المسلحة التي دعمت الجيش منذ بداية النزاع، وعلى رأسها حركتا مني أركو مناوي، وجبريل إبراهيم. في النهاية، تم التوقيع على “إعلان جدة لحماية المدنيين” في الحادي عشر من مايو/أيار 2023، ليكون هذا الإعلان بداية مسار جديد في محاولات إنهاء النزاع المسلّح في السودان.

لكن هذا الإعلان، ورغم أهميته، لم يكن كافيًا لوقف الخلافات حول طريقة إدارة النزاع، إذ استمرت التحفظات السياسية والميدانية لدى الأطراف المتصارعة، بما يعكس تعقيد الوضع في السودان. ففي حين اعتبر الجيش أنه يمضي في الاتجاه الصحيح نحو تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية، ظلت قوات الدعم السريع تحتفظ بموقف مغاير، لا سيما فيما يتعلق بموقفها من التفاوض وآفاق الحلول السياسيّة.

الدعوة لمباحثات جنيف

في الرابع عشر من أغسطس/آب 2023، جاءت دعوة لمباحثات جديدة في جنيف برعاية وزارة الخارجية الأميركية، وبهذه الدعوة عادت مناقشات “إعلان جدة لحماية المدنيين” إلى السطح من جديد. أصبح الإعلان مركزًا في المواقف السياسية والعسكرية لجميع الأطراف.

فقد صرّح قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة السوداني في عدة خطابات عقب الدعوة إلى جنيف، بأن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في إعلان جدة يعد شرطًا أساسيًا للمضي قدمًا في أي تفاوض جديد. وكان الجيش السوداني واضحًا في مطالبه بخروج قوات الدعم السريع من بيوت المواطنين والأعيان المدنية، باعتبار ذلك أولوية قصوى لتحقيق أي تقدم في المفاوضات.

على الجانب الآخر، لم يظهر أي ذكر لإعلان جدة في خطابات الدعم السريع. بل، وفي بعض التصريحات التلفزيونية التي أدلى بها المستشارون السياسيون والإعلاميون الممثلون لقوات الدعم السريع، كان هناك تصريح واضح بأن الوقت قد فات لتنفيذ إعلان جدة، وأن الأوضاع الحالية تتطلب الانتقال إلى مفاوضات جديدة دون شروط مسبقة. وهذا الموقف يعكس رغبة قوات الدعم السريع في تجاوز الإعلان والانخراط في إطار تفاوضي جديد يتناسب مع ما تراه هذه القوات تطورات على الأرض.

الخلافات حول الإعلان

لم تكن الخلافات حول إعلان جدة مقتصرة على الجانبين العسكريين فقط، بل ظهرت كذلك انقسامات في الأوساط السياسية السودانية. فمن جهة، كانت هناك قوى سياسية تؤيد الجيش السوداني، وترى في إعلان جدة وثيقة مهمة يجب تنفيذها.

ومن جهة أخرى، ظهرت قوى سياسية أخرى لا ترى في الإعلان أهمية كبرى، بل وتتهم القوات المسلحة باستخدامه لتحقيق مكاسب سياسية. بعض تلك القوى السياسية ترى أن الإعلان قد تجاوز وقته، وأنه لم يعد مفيدًا في الوضع الحالي، مما يدعو إلى تجاوزه والتركيز على مسارات سياسية أخرى من شأنها تحقيق سلام شامل ودائم.

ورغم هذه الانقسامات الداخلية، لم تُبدِ الوساطة الأميركية ولا الأطراف الدولية موقفًا حاسمًا بخصوص إعلان جدة، ولم تظهر أي نية لتجاوزه، خاصة أن الإعلان يحظى بقبول دولي وأممي واسع. فقد تمت الإشارة إلى الإعلان في القرار الأممي رقْم 2736 الصادر في الثالث عشر من يونيو/حزيران 2023، الذي أكد ضرورة التنفيذ الكامل لإعلان جدة فيما يتعلق بالالتزام بحماية المدنيين. هذا القبول الدولي عزز من مكانة الإعلان كوثيقة حاكمة يصعب تجاوزها في أي مفاوضات مقبلة.

تحليل محتويات إعلان جدة

جاء إعلان جدة بعنوان “إعلان جدة لحماية المدنيين”، ويتألف من فقرتين رئيسيتين، هما: الشروط والالتزامات. وفيما يلي عرض مفصل لهما وفقًا لما ورد في الإعلان:

أولًا: الشروط

احتوى الإعلان على ثلاثة شروط أساسية، تُعد أسسًا لتنفيذ الالتزامات الإنسانية دون ربطها بأي سياق سياسيّ:

  1. الالتزام بالإعلان لن يؤثر على أي وضع قانوني أو أمني أو سياسي للأطراف الموقعة: هذا الشرط يهدف إلى ضمان أن الأطراف الموقعة على الإعلان، سواء كانت القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع، لن تستخدم الالتزامات الإنسانية كوسيلة لتغيير مواقفها السياسية أو القانونية. بمعنى آخر، يحمي هذا الشرط مواقف الأطراف من التغير القانوني أو السياسي بناءً على التزامها بتنفيذ ما ورد في الإعلان.
  2. الالتزام بالإعلان لن يرتبط بالانخراط في أي عملية سياسية: يهدف هذا الشرط إلى الفصل بين الالتزامات الإنسانية الواردة في الإعلان وبين العملية السياسية. فلا يمكن أن يُستخدم تنفيذ الالتزامات الإنسانية كورقة ضغط لإجبار أحد الأطراف على الدخول في عملية سياسية. وهذا الفصل يسهل تنفيذ الالتزامات الإنسانية دون ربطها بأي تفاهمات سياسية مستقبلية.
  3. لا تحلّ أي من النقاط الواردة في الإعلان محلَّ أي التزامات أو مبادئ بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان: هذا الشرط يؤكد أن الالتزامات الإنسانية التي وافقت عليها الأطراف في الإعلان لا تحلّ محلّ الالتزامات الدولية الأخرى. فالقانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان تبقى سارية المفعول، ويجب على الأطراف الالتزام بها إلى جانب ما ورد في الإعلان.

ثانيًا: الالتزامات

تضمن الإعلان سبعة التزامات رئيسية، يمكن تلخيصها على النحو التالي:

  • حماية المدنيين: يتفق الطرفان على أن حماية وسلامة الشعب السوداني تأتيان في المقام الأول، ويتعهدان بتأمين مرور آمن للمدنيين لمغادرة مناطق الأعمال العدائية على أساس طوعي. هذه النقطة تُعزز من أولوية حماية المدنيين، وتجعلهم خارج إطار الاستهداف العسكري.
  • احترام القانون الإنساني الدولي: يؤكد الطرفان التزامهما بالقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، بما في ذلك الالتزام بعدم استهداف المدنيين أو المرافق المدنية. هذه النقطة تُركز على ضرورة الفصل بين الأهداف العسكرية والمدنية، بما يحمي المدنيين والمرافق الحيوية من الهجمات.
  • السماح باستئناف العمليات الإنسانية: يتعهد الطرفان بالسماح بعودة واستئناف العمليات الإنسانية الأساسية، مع ضمان حماية العاملين في المجال الإنساني، وحماية الممرات الإنسانية. هذه الالتزامات تشمل أيضًا تقديم الدعم اللازم للمنظمات الإنسانية؛ لضمان توصيل المساعدات إلى المناطق المتضرّرة.
  • نشر الالتزامات بين الجنود: على الطرفين التأكد من نشر الالتزامات الواردة في إعلان جدة بين جنودهما، وضمان التزام الجنود بالتعليمات المنصوص عليها في الإعلان. كما يُطلب من كل طرف تعيين نقاط اتصال للتنسيق مع الجهات الإنسانية الفاعلة؛ لضمان تنفيذ الالتزامات بشكل فعّال. هذه النقطة تهدف إلى تعزيز الوعي بين الجنود بالمسؤوليات القانونية والإنسانية، وتقليل الانتهاكات من خلال تعزيز الرقابة والانضباط.
  • جمع ودفن الموتى: يتعين على الأطراف تمكين الجهات الإنسانية المسؤولة، مثل: الهلال الأحمر السوداني واللجنة الدولية للصليب الأحمر، من جمع جثث الموتى وتسجيل أسمائهم ودفنهم بالتنسيق مع السلطات المختصة. هذه الالتزامات تضع أولوية للتعامل الإنساني مع الموتى، وضمان توفير دفن كريم لهم بطريقة منظمة، مما يقلل من مخاطر انتشار الأمراض، ويساعد العائلات على معرفة مصير ذويهم.
  • ضمان الانضباط العسكري: يتعهد كل طرف باتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان التزام الجنود بالقوانين الدولية المتعلقة بحماية المدنيين والالتزامات الإنسانية. هذه النقطة تُعزز من مسؤولية القيادات العسكرية في ضمان انضباط الجنود وتطبيق الالتزامات الدوليّة الواردة في الإعلان.
  • التقدم نحو وقف إطلاق النار المؤقت: يشير الإعلان إلى أن الأولوية هي الوصول إلى اتفاق حول وقف إطلاق نار قصير المدى؛ لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، واستعادة الخدمات الأساسية في المناطق المتضررة. هذه المناقشات يمكن أن تؤدي إلى تحقيق وقف دائم للعدائيات. هذا الالتزام يمثل خطوة أولى نحو تحقيق السلام الدائم، من خلال تخفيف التوترات على الأرض، وتهيئة الظروف للتفاوض حول وقف إطلاق نار طويل الأمد.

خلاصة واستنتاجات

“إعلان جدة لحماية المدنيين” يُعد وثيقة هامة في مسار التوصل إلى حل سياسي للأزمة السودانية، حيث إنه يفْصل بشكل واضح بين الجوانب الإنسانية والجوانب السياسية. يضمن هذا الفصل أن تظل الالتزامات الإنسانية مستمرة وغير مرتبطة بتعقيدات التفاوض السياسي. كما أن الشروط والالتزامات الواردة في الإعلان توفر أساسًا قويًا لحماية المدنيين، واستئناف العمليات الإنسانية، وهي خطوات ضرورية في سبيل الحد من تأثير الحرب على المدنيين.

تُظهر الالتزامات السبعة في الإعلان تركيزًا كبيرًا على ضمان تنفيذ المبادئ الإنسانية الدولية، مع التأكيد على حماية المدنيين، وضمان تدفق المساعدات، والتعامل بشكل إنساني مع ضحايا النزاع. إذا تم تنفيذ هذه الالتزامات بجدية، فإنها قد تسهم في تحسين الوضع الإنساني في السودان، وتفتح الطريق أمام حلول سلمية طويلة الأمد.

وختامًا، فرغم التحديات الكثيرة التي تعترض طريق تنفيذ إعلان جدة، فإنه يظل وثيقة مهمة لحماية المدنيين وتخفيف معاناتهم في السودان. الدعم الدولي الواسع للإعلان، وخاصة من الأمم المتحدة، يُعزز من فرص تطبيقه.

يبقى التحدي الأكبر هو إرادة الأطراف المتنازعة في الالتزام الكامل بما ورد في الإعلان، بما يضمن إنقاذ المدنيين وتوفير ممرات آمنة للعمليات الإنسانية. وفي النهاية، يمثل إعلان جدة خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن نجاحه يعتمد على الالتزام الجادّ من قبل الأطراف السودانية والمجتمع الدولي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version