تتحول بعض الأفلام إلى محطات رئيسية في حياة المشاهد، وخاصة تلك التي تبحث في الاختيار بين مواجهة الفساد والظلم ودفع الثمن أو الصمت ودفع الثمن أيضا. وقد تصبح مواجهة الفساد في المجتمعات الصغيرة والمهمشة أعلى تكلفة من التصدي له على المستوى العالم، إذ يصادف الأخير أضواء الإعلام وأقلام الصحفيين التي قد تلعب دورا في حماية الضعفاء. لكن السؤال الأهم: ما الثمن الذي يمكن أن يدفعه الشخص خلال مواجهته؟

ويتناول “ريبيل ريدج” (Rebel Ridge) للمخرج جيريمي سولينيه، الذي يعرض على منصة نتفليكس، فساد المنظومة الشرطية وعنصريتها في إحدى البلدات الأميركية المنعزلة، ويطرح الإجابة عن سؤال التضحية والفداء بحسم وصرامة، إذ يقدم البطل باعتباره فارسا نبيلا، ليس مستعدا فقط، للتضحية وإنما للفداء. ورغم بساطة القصة والعمل إجمالا، باعتباره فيلم حركة فإن الجديد الذي قدمه المخرج هو “الأكشن العقلي” إذ تكمن الحركة الحقيقية والقتال الأكثر عنفا في التخطيط للمعركة من قبل الطرفين، ورغم الدماء وطلقات الرصاص فإن معدل العنف في العمل أقل كثيرا من غيره.

وتدور الأحداث حول تيري ريتشموند (الممثل آرون بيير) الذي يقود دراجته إلى بلدة شيلبي سبرينغز الصغيرة في مهمة بسيطة ولكنها عاجلة، وهي دفع الكفالة لابن عمه وإنقاذه من خطر التعرض للقتل في السجن إذا تم ترحيله إليه، ولكن شرطيين يستوليان على مدخراته. ويضطر تيري إلى مواجهة رئيس الشرطة المحلية الفاسد ساندي بيرن وضباطه المستعدين للقتال حفاظا على شبكة الفساد التي تمول أنشطتهم. ويجد تيري حليفا غير متوقع في كاتبة المحكمة سمر ماكبرايد (الممثلة آنا صوفيا روب) ويصبح الاثنان في مواجهة عصابة ترتدي زي الشرطة وتملك صلاحياتها. ونظرا لحتمية المواجهة، يضطر تيري للاستعانة بمهاراته وعلاقاته كمحارب قديم، لكسر الفساد المسيطر على البلدة، وتحقيق العدالة لعائلته وحماية البلدة.

وتمتزج داخل الفيلم أصوات النقد الهادئة للعنصرية المتجذرة في المجتمع، وللفساد الممنهج الذي دفع بابن العم إلى السجن في مبالغة “قانونية” لجرم صغير لمجرد أنه من أصل افريقي، فضلا عن موقفه كشاهد ضد عصابات المخدرات، وأخيرا الصوت الأعلى لمحارب أميركي يتعرض للقتل المعنوي والنهب بسبب لونه من قبل منظومة كاملة من الشرطة التي تعمل كعصابة تحت حماية سلطة الدولة التي لا تعرف عنها شيئا.

وتشبه أحداث الفيلم ومكان وقوعها قضية حقيقية وقعت بالفعل في بلدة سولفور التابعة لولاية لويزيانا، والتي اشتهرت بعمليات مصادرة للأصول الشخصية والنقد، وعرضت بعض الحالات في برامج تلفزيونية لمجلات إخبارية وقصص صحفيين استقصائيين. وتم تقسيم عائدات هذه المصادرات بين الشرطة المحلية وممثلي الحكومة.

الاختيار الثاني

لم يكن بيير هو الاختيار الأول لبطولة العمل، وإنما جاء بعد أن تخلى الممثل جون بوبيغا (بطل “حرب النجوم” 2015) عن العمل، وترك الفريق بعد تصوير ما يقرب من نصف مشاهده، مما اضطر المنتج إلى وقف العمل واختيار بطل جديد. وجاءت تلك المصادفة لتدشن بطلا جديدا من أبطال أفلام الحركة الذين لا يميزهم بناء عضلي من أمثال أرنولد شوارزنيغر أو غيره، ولا تميزهم قدرات “السوبر هيرو” لكن يميزهم الأداء المتقن للدور.

وتبقى البطولة الكبري في ذلك التدشين للمخرج الذي قدم أسلوبا مختلفا للسرد يعتمد بالأساس على قراءة ردود الفعل على وجه بطله عبر لقطات مكبرة ومن ثم التعبير عنها بالحركة أو الحوار، ويبدأ الفيلم بمتابعة تيري ريتشموند (بيير) من الخلف وهو يركب دراجته على الطريق، وتبدأ الكاميرا في اللحاق به، ثم تتدخل كاميرا سولينيه لإظهار ردود فعله حين تقترب سيارة شرطة من الخلف وتدفعه عن دراجته. ويتحمل تيري المضايقات والاحتجاز من قبل رجال الشرطة، وتظهر القدرات التمثيلية لبيير الذي يحرص على عدم استفزاز رجال الشرطة ليمنعهم من التمادي في إهانته، ورغم ذلك يقاوم تجاوزاتهم، ويكتم غضبه المتصاعد.

وقد اقترب الممثل دون جونسون -الذي جسد دور رئيس الشرطة الفاسد ساندي بيرني- بأدائه من مستوى بطل العمل، ولكن باتجاه عكسي يدفع بمشاعر الخوف والنفور لدى المشاهد حين يظهر مدبرا مؤامرة جديدة أو دافعا باتجاه العثور على البطل لقتله.

وقدمت آنا صوفيا روب من خلال شخصية سمر ماكبرايد أداءً باهتًا، رغم أن الشخصية كانت تُعد حلًا دراميًا دُمج في النص لدعم البطل في معركته ضد الفساد. وعلى الرغم من التفاصيل الدرامية الإضافية التي طُرحت حول ماضيها مع الإدمان وصراعها مع زوجها السابق على حضانة طفلها، فإن تعابيرها وانفعالاتها لم تتماش مع حجم الأحداث الدرامية المحيطة بها.

خارج الأستوديو

لم تكن الإضاءة في الفيلم مجرد وظيفة، بل كانت جزءا لا يتجزأ من سرد القصة، فهي تبرز موضوعات الفيلم، وتعكس الحالة العاطفية للبطل، وتغمر الجمهور في عالم مليء بالتوتر والإحساس بالخطر. ويضيف هذا النهج المدروس للإضاءة عمقًا إلى التجربة البصرية، مما يجعلها عنصرًا حيويًا في التأثير الكلي للفيلم.

وقد لعبت الإضاءة الطبيعية دورا مهما في جماليات العمل الذي صورت نسبة كبيرة من مشاهده خارج الأستوديو، ولعبت الإضاءة بوجه عام دورًا حاسمًا في تحديد النغمة وتعزيز العمق العاطفي للفيلم، حيث استخدم سولينيه الإضاءة لتعكس موضوعات القصة المتمثلة في الفساد والانحلال والغموض الأخلاقي.

وقد لعب المخرج على التناقضات بين الظل والضوء، واستخدم إضاءة عالية التباين لتسليط الضوء على ثنائية رحلة “تيري” والفساد المستشري بالمدينة فسيطرت الظلال على المشاهد التي تنطوي على الصراع والسرية، وهو ما يخلف شعورًا بالخطر والقلق. وعلى العكس من ذلك، غالبا ما كانت لحظات التأمل الشخصي أو الأمل مغمورة بضوء أكثر نعومة وطبيعية، مما وفر راحة بصرية وأكد على إنسانية الشخصية.

وحرص سولينيه على تصوير لحظات اليأس والذكريات بإضاءة خافتة لتمييزها، واتخاذ منحى غير مؤكد تجاه المستقبل والماضي معا، ولكن الألوان الدافئة كانت القاسم المشترك في المشاهد الشخصية، وفي المقابل كانت الألوان الباردة غير المشبعة في مشاهد الصراع أو المواجهة، مما يؤكد على الانفصال والكآبة.

“ريبيل ريدج” واحد من الأفلام التي تبقى بالذاكرة بعد مشاهدتها فترات طويلة، ليس لجمالياته البصرية وبساطة السرد وسلاسته، ولكن لقضيته التي تبقى رغم ارتباطها بشخص البطل ولونه قضية تشغل كل إنسان حول حدود التضحية والفداء والاستعداد لمواجهة الفساد، خاصة حين تصل آثاره إلى العائلة.

شاركها.
Exit mobile version