كابل- في شوارع كابل وولايات مثل ننغرهار (شرقي أفغانستان)، يعيش الأفغان حالة من القلق المتصاعد تجاه البنوك، إذ تتآكل ثقتهم يوما بعد يوم في ظل أزمة اقتصادية خانقة. فبعد مرور 4 سنوات على عودة طالبان إلى السلطة في أغسطس/آب 2021، لا يزال النظام المصرفي يواجه اختلالات بنيوية، أبرزها نقص السيولة، وقيود السحب، وغياب رؤية اقتصادية واضحة.

ووفقا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، تراجع الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان بنسبة 26% بين عامي 2021 و2022، بينما لا تزال أصول البنك المركزي الأفغاني البالغة 7 مليارات دولار مجمدة في الخارج.

هذا الوضع المتأزم دفع كثيرين إلى العودة إلى الصرافة التقليدية أو الاحتفاظ بالنقد داخل منازلهم رغم ما في ذلك من مخاطر أمنية. وفي ظل هذا المناخ، يبقى السؤال المطروح: هل تستطيع حكومة طالبان استعادة الثقة في القطاع المصرفي من دون إصلاحات جذرية؟

خوف وتردد

في العاصمة كابل، يروي عزيز ملكيار، معلم سابق فقد وظيفته، للجزيرة نت: “لم نعد نثق بالبنوك. في 2021، انتظرنا أياما لسحب مبالغ زهيدة، والآن، مع ارتفاع الأسعار ونقص السيولة، نفضل الاحتفاظ بما لدينا في المنزل”.

أما في ولاية ننغرهار، فيقول حيدر رجب، وهو صاحب شركة تجارية صغيرة: “المعاملات مع البنوك أصبحت مقتصرة على موظفي الحكومة. أما نحن، فنتعامل عبر الصرافة لأنها أسرع وأضمن”. وتشاركهم الرأي ربة منزل في كابل، فضّلت عدم الكشف عن اسمها، قائلة: “لا أستطيع إيداع أموالي في بنك قد لا يسمح لي بسحبها عند الحاجة”.

ثقة المواطنين في المؤسسات المالية تراجعت بشكل غير مسبوق منذ 2021 (الجزيرة)

تطمينات وسط تحديات

في محاولة لاحتواء الأزمة واستعادة الثقة، أعلن البنك المركزي الأفغاني عن رفع تدريجي لسقوف السحب. وفي تصريح للجزيرة نت، قال رئيس البنك نور أحمد آغا ” إن القطاع المصرفي يعمل بشكل طبيعي، وقد رفعنا سقف السحب الأسبوعي إلى 350 ألف أفغاني (5 آلاف دولار)، والمبلغ الشهري إلى مليون أفغاني (15 ألف دولار) لحسابات الأفراد بالعملة المحلية، كما حُدد سقف السحب بالدولار بـ5 آلاف أسبوعيا و15 ألفا شهريا، هذه الإجراءات تهدف إلى ضمان الاستقرار النقدي”.

غير أن مراقبين يرون أن التحديات تتجاوز هذه التطمينات، إذ لا يزال نقص السيولة فعليا أحد أكبر العقبات، حيث شهدت البنوك تدافعا جماعيا لسحب المدخرات عند سيطرة طالبان في 2021، وهو ما لم تتم معالجته بالكامل حتى اليوم.

محاولات لاستعادة الثقة

في العاصمة كابل، يواجه بنك “أفغان يونايتد”، أحد أبرز البنوك التجارية في البلاد، واقعا ماليا صعبا في ظل الأزمة الاقتصادية المتواصلة.

وفي مقابلة مع الجزيرة نت، قال مسؤول رفيع في البنك -فضّل عدم الكشف عن اسمه- إن “القطاع المصرفي يواجه تحديات كبيرة بسبب انخفاض السيولة وعدم الاستقرار المالي، لكننا نعمل على تعزيز الثقة بين عملائنا من خلال تحسين الخدمات المصرفية وتقديم خيارات مرنة للسحب والإيداع”.

وأكد أن البنك رفع سقوف السحب تدريجيا، مما أتاح للمواطنين الوصول إلى مبالغ أكبر، كجزء من جهود تسهيل الوصول إلى الأموال. لكنه أقر في الوقت نفسه بأن “السيولة الحقيقية ما زالت مفقودة في العديد من البنوك، ومعظم الأموال التي أودعها المواطنون في السابق تم سحبها بالفعل”.

وأشار إلى أن البنك يعمل على توفير حلول بديلة، مثل الحسابات الجارية التي تتيح للعملاء مرونة في الوصول إلى أموالهم، كما يسعى إلى التحول إلى نموذج مصرفي متوافق مع الشريعة الإسلامية ضمن إستراتيجية لتعزيز الشفافية واستعادة الثقة.

وفي هذا السياق، أكد محمد عظيم، مستشار الشؤون الشرعية في بنك “إسلامي أفغانستان”، في مقابلة مع الجزيرة نت، أن “المصرفية الإسلامية تسير في الاتجاه الصحيح رغم التحديات. نعمل على استبدال الفوائد الربوية بآليات مثل القرض الحسن والمضاربة، لتعزيز الشفافية، لكن نقص السيولة وغياب الثقة يتطلبان وقتا ودعما حكوميا لنجاح الإصلاحات”.

صرّاف أفغاني يتعامل مع أحد العملاء في أحد أسواق كابل حركة يومية تعكس اعتماد المواطنين المتزايد على الصرافة التقليدية وسط أزمة ثقة بالبنوك
الكفاءات المؤهلة في القطاع المالي غادرت البلاد بعد سيطرة طالبان (الجزيرة)

الشريعة والاقتصاد الحديث

ومنذ عودتها إلى الحكم، تسعى حكومة طالبان إلى تحويل النظام المصرفي تدريجيا إلى نموذج إسلامي يتماشى مع الشريعة. وقد أصدر البنك المركزي تعليمات بإلغاء الفوائد الربوية، واستبدالها بآليات شرعية مثل القرض الحسن والمضاربة، ومنح البنوك التجارية مهلة ثلاث سنوات للتحول الكامل إلى هذا النموذج. ووفقًا لتصريحات رسمية، فإن هذه المهلة بدأت منتصف عام 2022، ما يعني أنها تنتهي في منتصف العام الجاري، وسط تساؤلات حول مدى جاهزية البنوك لتطبيق النظام الجديد بالكامل.

كما شكّل البنك لجنة شرعية لمراجعة العقود، وأخرى مكوّنة من 7 أعضاء لإعادة صياغة قانون البنوك الذي يعود إلى 6 عقود مضت.

وأكد رئيس البنك المركزي نور أحمد آغا، أن “النظام المصرفي يعمل بشكل طبيعي، وننسق مع هيئات فقهية لضمان التوافق الشرعي”. غير أن خبراء اقتصاديين حذروا من أن غياب دستور مدني ونقص الكفاءات المؤهلة في المجالين الشرعي والمصرفي يعيقان توحيد المعايير، مما يزيد من تحفظ المواطنين تجاه البنوك.

وفي يونيو/حزيران 2025، جددت الحكومة الأفغانية، عبر تصريحات لوزير الاقتصاد دين محمد حنيف ومسؤولين آخرين، برفع التجميد عن احتياطيات البنك المركزي البالغة 7 مليارات دولار، محذّرة من أن استمرار العقوبات الغربية يُفاقم معدلات الفقر والبطالة.

وتحتجز الولايات المتحدة هذه الأموال منذ أغسطس/آب 2021 (عندما سيطرت طالبان على الحكم)، حيث تم نقل جزء منها لاحقًا إلى “صندوق أفغانستان” الذي تديره سويسرا بالتعاون مع واشنطن.

أزمة ثقة مستمرة

يرى الخبير الاقتصادي الأفغاني بشر دوديال أن الأزمة المصرفية في البلاد تتجاوز مسألة نقص السيولة، وتمثل انعكاسا لتحديات هيكلية عميقة. وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح أن “انهيار الثقة بين المواطنين والنظام المصرفي ليس مجرد نتيجة لقيود السحب أو نقص السيولة في 2021، بل هو أزمة شاملة ناتجة عن تجميد أصول البنك المركزي البالغة 7 مليارات دولار بفعل العقوبات الدولية، وهو ما شلّ قدرة البنوك على تلبية احتياجات العملاء، ودفع التجار والأفراد إلى الاعتماد المتزايد على الصرافة التقليدية”.

وأشار دوديال إلى أن غياب الكوادر المؤهلة في القطاع المصرفي، خاصة بعد هجرة العديد من المصرفيين المهرة عقب عودة طالبان، يعرقل تطبيق إصلاحات طموحة مثل التحول إلى المصرفية الإسلامية، والتي تتطلب كفاءات فنية وشرعية عالية لتصميم منتجات مالية متوافقة مع الشريعة.

كما لفت إلى أن الأزمة المصرفية ألقت بظلالها على قطاعات أخرى، أبرزها التجارة والزراعة، حيث يعاني التجار من صعوبة في الحصول على التمويل، مما فاقم معدلات البطالة والفقر، خصوصا في ظل تقارير الأمم المتحدة التي توقعت في 2022 أن 97% من السكان قد يعيشون تحت خط الفقر، وهي النسبة التي لا تزال مرتفعة في 2025.

ودعا دوديال إلى حزمة من الإصلاحات العاجلة، تشمل إنشاء صندوق ضمان ودائع لتشجيع المواطنين على الإيداع، وتطوير البنية التحتية الرقمية للمصارف لتسهيل المعاملات، فضلا عن السعي الجاد لرفع العقوبات الدولية.

وأوضح أن “من دون إعادة تفعيل البنك المركزي كجهة مستقلة قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية وإقامة شراكات دولية، سيظل النظام المصرفي الأفغاني عاجزا عن دعم الاقتصاد الوطني.” كما حذّر من أن استمرار العزلة الدولية وعدم الاعتراف بحكومة طالبان قد يطيل أمد الأزمة، ما يهدد بتفاقم الفقر ويعيق التعافي الاقتصادي طويل الأمد.

وفي السياق ذاته، أشارت مجلة “إيكونوميست” في تحليل نُشر مؤخرا إلى أن حركة طالبان تقف أمام معضلة حقيقية: إما التمسك برؤية إسلامية صارمة قد تؤدي إلى تفكك القطاع المصرفي، أو تبنّي إصلاحات براغماتية قد تُواجَه برفض داخلي.

سوق الصرافة في سراي شهزاده بوسط كابل الذي يعتبر نبض الاقتصاد الموازي الذي يعتمد عليه كثير من الأفغان (الجزيرة)

اختبار الثقة والإصلاح

وسط أزمة اقتصادية ممتدة، يجد المواطن الأفغاني نفسه عالقا بين الحاجة الملحة إلى خدمات مصرفية موثوقة والخوف العميق من فقدان مدخراته.

ورغم محاولات طالبان والبنوك التجارية إرسال تطمينات وتطوير نظام مصرفي يتماشى مع الشريعة الإسلامية، فإن غياب قوانين واضحة، واستمرار شح السيولة، والعزلة الدولية، كلها عوامل تعيق استعادة الثقة.

ويبقى السؤال مطروحا: هل ستتمكن الحكومة الأفغانية من بناء نظام مالي قادر على الموازنة بين الشريعة والاقتصاد الحديث؟ أم أن أزمة الثقة ستبقى الحاجز الأكبر أمام أي تعافٍ اقتصادي مرتقب؟ الإجابة ستظل رهنا بخطوات واقعية تتجاوز التصريحات الرسمية.

شاركها.
Exit mobile version