قد يبدو إعلان وزارة الخارجية الكازاخية تحديد يومي 11 و12 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري موعدا لانعقاد الجولة 22 من مؤتمر أستانا بشأن سوريا عاديًّا، ويأتي استكمالًا للجولات السابقة التي بدأت منذ عام 2017 بين وفدي المعارضة والحكومة السورية، إلا أن احتدام الوضع الإقليمي بعد التصعيد الإسرائيلي على جبهتي غزة ولبنان، والتحذيرات المستمرة من حرب إقليمية، وتحول سوريا إلى ساحة لمحاربة النفوذ الإيراني وقطع خطوط الإمداد عن حزب الله، فضلا عن المتغيرات المتوقعة على الساحة الدولية بعد فوز ترامب بالانتخابات الأميركية؛ كل ذلك قد يجعل من هذه الجولة مختلفة عما سبقها من حيث التوقعات والنتائج.
وكانت الخارجية الكازاخية أوضحت يوم الجمعة الماضي 8 نوفمبر/تشرين الثاني أن جدول أعمال المؤتمر سيضم اجتماعات تشاورية ثنائية وثلاثية بين الوفود، يليه عقد جلسة عامة ومؤتمر صحفي عقب انتهاء اليوم الثاني، وسيتطرق إلى مناقشة تطورات الملف السوري والجهود الرامية إلى التوصل لحل سياسي شامل في سوريا، وتدابير الثقة وملف المفقودين، إضافة إلى الوضع الإنساني وملف إعادة الإعمار وعودة اللاجئين السوريين.
وبعيدًا عن جدول الأعمال الذي يتشابه كثيرا مع جداول أعمال الجولات السابقة، يبرز السؤال التالي: هل ستدفع المتغيرات الإقليمية والدولية التي ذكرناها إلى تحقيق تقدّم واضح في هذا المسار؟
الواقع الميداني وجهود الدول الضامنة
تبدو كل من الأطراف الضامنة لمسار أستانا (تركيا وروسيا وإيران) بحاجة إلى تنسيق الجهود في ما بينها، على وقع التهديد بحرب إقليمية بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل وما تبعه من رد إسرائيلي، إضافة إلى عدم وجود أفق لحل أو تسوية لإنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أو الجنوب اللبناني.
المحافظة على الوضع الميداني القائم دفعت الدول الضامنة إلى عقد اجتماع لها ضمن إطار مسار أستانا حول سوريا في مدينة نيويورك الأميركية، وذلك على هامش أعمال الدورة 79 لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث ناقشت الدول الثلاث -إضافة إلى العراق- الوضع الأمني والسياسي والإنساني في سوريا، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة الأناضول.
ولدى الحديث عن توقيت عقد هذه الجولة، يبدو واضحًا أن استئناف المؤتمر يأتي في ظل عوامل جيوسياسية مهمة، منها الهجمات الإسرائيلية المتكررة على مواقع تابعة لإيران وحزب الله في سوريا ولبنان، والتي تضيف ضغطًا متزايدًا على طهران ونظام الأسد، قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع وتغيير حدود السيطرة العسكرية، وهو ما يجعل التنسيق بين تركيا وروسيا وإيران أكثر ضرورة، وذلك بحسب سمير العبد الله مدير قسم تحليل السياسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
يضاف إلى ذلك -بحسب الباحث- التوترات في إدلب التي تزيد من حاجة الدول الضامنة لضمان استقرار الهدنة، مع الحفاظ على التفاهمات السابقة، إذ إن انهيار الهدنة في هذه المحافظة السورية قد يؤدي إلى موجة نزوح جديدة وتصعيد عسكري كبير.
وشهدت الأيام الأخيرة كثيرا من الأخبار والتحركات العسكرية على حدود التماس بين قوات الجيش السوري والمعارضة في شمال غربي سوريا، بعد الحديث عن نية المعارضة استغلال التوتر الإقليمي للقيام بعملية عسكرية تجاه مدينة حلب أو المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والتي سيطر عليها بعد اتفاق سوتشي -بين روسيا وتركيا- عام 2020، مثل مناطق مورك وخان شيخون.
وكانت صحيفة الوطن الموالية للحكومة السورية ذكرت -أمس الاثنين- أن تركيا أجرت ترتيبات مع المعارضة السورية للحفاظ على الاستقرار في شمال غربي سوريا قبيل انعقاد محادثات أستانا 22، وأضافت أن الاستخبارات التركية أجرت خلال اليومين الماضيين مفاوضات مع “هيئة تحرير الشام” لأخذ تعهد منها بإلغاء عمليتها العسكرية ضد قوات النظام في حلب.
حديث صحيفة الوطن فهمه متابعون للوضع السوري على أنه يعكس رغبة الحكومة وحلفائها بإبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع الأطراف المعنية من خلال لقاءات أستانا، والمحافظة على الوضع الراهن بما يضمن عدم الانجرار إلى أي خيار آخر قد يؤدي إلى تفجّر الأوضاع على خطوط التماس بين النظام والمعارضة.
الواقع الجديد والعملية السياسية
شكلت العملية السياسية وما تمخّض عنها، من “لجنة دستورية” تضمّ المعارضة والنظام ومنظمات المجتمع المدني، أساسا يسعى مسار أستانا لتفعيله منذ انطلاقته عام 2017، لكن اللجنة لم تستطع تحقيق أي تقدم في هذا المجال، مما أدخل القضية السورية حالة من الجمود والاستعصاء، إلا أن ما تشهده الساحة الإقليمية من تصعيد، وانعكاس ذلك على الأسد وحلفائه، جعل المعارضة السورية تتفاءل بتحقيق بعض التقدم في هذا الملف.
هذا التفاؤل عبَّر عنه أحمد طعمة رئيس وفد المعارضة المشارك في مؤتمر أستانا -في تصريح للجزيرة نت- قائلا إن حالة الضعف التي يعاني منها النظام وحلفاؤه -وبالأخص إيران و”حزب الله”- نتيجة التصعيد الإسرائيلي، قد تدفع النظام السوري إلى الانخراط في العملية السياسية بجدية، وإلى إظهار بعض الليونة في ملف “اللجنة الدستورية” مثلا.
ولكن طعمة يرى بالمقابل أيضا أن حلفاء النظام رغم الأزمات التي يمرون بها من قبيل التصعيد الإسرائيلي ضد إيران وحزب الله، وانشغال روسيا بالملف الأوكراني؛ قد لا يرغبون الآن في الانخراط بالعملية السياسية، لكي لا يظهروا أنهم في موقف ضعف، وبهذه الحالة ستبقى إيران على وجه الخصوص عاملا مهما لا يمكن تجاوزه في أي تسوية سياسية قادمة.
من ناحيته، لا يرى الباحث سمير العبد الله أن النظام وحلفاءه في حالة ضعف، فهو في هذه المرحلة يشعر بأنه قوي، خاصة أنه وُعد بمكافأة في نهاية الحرب لالتزامه حالة الحياد بعد عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على الجنوب اللبناني.
ويُدلل العبد الله على كلامه بنقطتين: الأولى أن النظام السوري لم يقدم أي تنازلات في مسار “جنيف” عندما كان فعلا في حالة ضعف بين 2012 و2015 تاريخ التدخل الروسي. والثانية، أنه رفض كل المبادرات التركية للتطبيع معه على الرغم من الدفع الروسي بهذا الاتجاه، لذا فقد تم تفعيل مسار أستانا كونه الذي يرتب الأوضاع على الأرض أكثر من اللجنة الدستورية التي يكون التفاوض فيها على دستور لمستقبل سوريا.
يذكر أن “اللجنة الدستورية” التي انطلقت عام 2019 ومقرها جنيف لم تحرز أي تقدم يذكر على الرغم من انعقادها 8 مرات، بينما لم تعقد الجولة التاسعة في جنيف حتى الآن لأن روسيا لم تعد تعتبر سويسرا “مكانًا محايدًا”، ولأن الحكومة السورية لم تقبل عقد تلك الجولة في جنيف نتيجة لذلك.
ترامب وسياساته في المنطقة
إلى جانب ما ذكر من العوامل المرتبطة بالتصعيد الإقليمي وتأثيره على محادثات “أستانا 22″، يأتي فوز الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في مقدمة العوامل المؤثرة في هذه الجولة من المفاوضات، إذ يرى مراقبون أن تفعيل مسار أستانا حاليا يعتبر جزءًا من جهود إعادة ترتيب الأوراق في سوريا بين الدول الضامنة، استعدادا لأي تغييرات قد تحدث على مستوى الإقليم مع قدوم الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة ترامب.
أبرز هذه التغييرات قد يكون انسحاب القوات الأميركية من مناطق شمال شرقي سوريا الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ولا سيما أن الرئيس المنتخب سبق أن اتخذ قرارًا بهذا الشأن في ولايته الأولى، مما يثير سؤالًا عمن سيملأ هذا الفراغ؛ هل ستكون تركيا عن طريق عملية عسكرية، أم هي الحكومة السورية بعد أن تقدم لها “قسد” كثيرا من التنازلات وأوراق الاعتماد، أم سيكون هناك سيناريو ثالث يتمثل بسيطرة تركيا على المناطق الحدودية، بينما تسيطر الحكومة السورية على بقية المناطق؟
وكانت هذه المسألة حاضرة على طاولة “أستانا 22″، إذ أوضح رئيس وفد المعارضة أحمد طعمة، تعليقًا على هذا الموضوع، أن ترامب كان يعلن دائما أنه سينسحب من شرق سوريا، وتساءل: هل سينفذ هذا الانسحاب؟ وهل سيتم بشكل منظم وضمن تفاهمات دولية، أم إن طبيعة المستجدات في المنطقة ستجعل الأميركيين يؤخرونه؟
من ناحيته، يرى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان أن وصول ترامب للرئاسة سيعطي فرصة مناسبة لكل من تركيا وروسيا للضغط على إيران في الملف السوري، مستغلين تخوف طهران من عودة الرئيس الأميركي من جهة، وتصاعد الضغط والتهديد الإسرائيلي عليها من جهة أخرى.
وفي سياق الضغط الروسي على إيران في سوريا، يُرجّح علوان -في حديثه للجزيرة نت- أن يعود التنسيق الروسي الإسرائيلي بشكل أفضل مما كان عليه قبل “طوفان الأقصى”.
وعن التغييرات المحتملة في السياسة الأميركية تجاه سوريا في عهد ترامب، قال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف إن ترامب يبدو عازما على تعديل السياسات الخارجية الأميركية وعكس موقفها بشأن الصراعات.
وتعليقًا على إمكانية الانسحاب من سوريا، قال لافرينتيف قبيل انعقاد جولة أستانا “سنرى، ولكن يبدو أن ترامب مستعد لتغيير موقفه وتعديل مسار السياسة الخارجية للإدارة الأميركية، وستظهر الأفعال والمقترحات المحددة التي سيصوغها”.
لذلك لا يتوقع علوان أن تخرج الجولة 22 الجديدة من مسار أستانا بتقدم غير روتيني قياسًا على الجولات السابقة، إذ من الواضح أن هناك تحفظا من تركيا وروسيا من إيجاد أي شيء جديد من التفاهمات إلى أن تتوضح معالم السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة.