تعدّدت الأقلام التي تمثل اتفاقًا بين متناقضين حول هجاء العرب والمسلمين، أو الشعوب العربية والإسلامية، أو الأمة العربية والإسلامية، وسقوطهم المزري أمام امتحان غزة. وقد خرجوا من الامتحان مهزومين، ضعفاء عاجزين، متخاذلين، غثاءً تافهًا. بل خانوا دينهم وثوابتهم الوطنية والقومية، وتنكروا لأخلاقهم وقِيَمهم العليا.
بعض تلك الأقلام تصفهم بالسقوط الدائم، والانحطاط المقيم، والتخلف والجهالة. واعتبار كل ذلك في الجينات، أو في العقلية العربية والإسلامية الموروثة منذ القدم. وهؤلاء، عمومًا، من الحداثيين المتغربين المتطرفين.
وبعض ممن شاركوا في الهجاء، ولكن انطلاقًا من أنهم خانوا إسلامهم، وعروبتهم، وتقاليد أمتهم التاريخية التي صنعت يومًا مجدًا، وحضارة وأستاذية عالمية.
الحكم بالإعدام
والسؤال ما الذي أثار كل هذا الهجاء. وصعد به إلى الأقصى؟ الجواب بالنسبة إلى البعض الأول، هو غضبهم من المقاومة، وما وصلته من تجرّؤ، وتحدٍ، ونديّة، وإنجازات عسكرية. ومن ثم يُراد تهميشها، وتهيئة الشرط الفكري لإنزال الهزيمة بها، فلا أفضل من هجاء الأمة العربية ككل، أو الأمة الإسلامية؛ لأن المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، عربية وإسلامية ووطنية.
فإذا أغرقنا الأمة، وحكمنا عليها بالإعدام، انطلاقًا من جيناتها، وتاريخها وعقلها وأخلاقها، انسحب كل ذلك على المقاومة، لكونها جزءًا من الشعوب العربية والإسلامية. وهدف هذا البعض قديم يرجع لأيام الترويج للتحديث والعولمة، والتبعية للحضارة الغربية.
أما بالنسبة إلى البعض الثاني، فينبع الغضب من غيرته على المقاومة التي لم تجد نُصرة ومناصرة، كما يجب، من العرب والمسلمين؛ لحمايتها وتأمين انتصارها. مما راح يُعرّضها للوقوف الآن، بين انتصار وهزيمة. مصير المقاومة انتصار، وربما مع ميلان ظاهر أو مبطن بتغليب الهزيمة. هذا تقدير خاطئ، ولكنه واسع الانتشار.
وهنا يبرز السؤال الثاني: ما هي أسباب ما قيل عن كل تلك السمات المنحطة والمريضة، والمزروعة في العقل العربي والمسلم، ومجتمعاتنا وعقلياتنا في الوراثة وفي الجينات، وفي هذا تناقض مع الوقوف في خط المقاومة. لأن من يتبنون الموضوعات التي تنظر إلى الشعب والأمة وإلى مجتمعاتنا بهذه السمات، عليهم أن يفسروا كيف انبثقت المقاومة قيادة وكوادر ومقاومين، من هذه الشعوب والأمة والمجتمعات؟ وكيف نأمل بتغيير ونهضة إذا لم تكن عندنا أرض صالحة للزراعة فيها؟
أضعف التفسيرات التي يقدمها الغيارى هي تلك التي تركز على “العقل” العربي والإسلامي، أو على “الوعي الزائف” الذي استمرأ الخنوع والخضوع والهزيمة، وهجر روح المقاومة والثورة والنهوض. وهذا التفسير لا يبحث عن الأسباب في موازين القوى، وفي الواقع، والبنى التحتية التي فرضت على العرب والمسلمين، بعد أن احتُلت بلادهم في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لقد فرض الاستعمار الغربي سيطرته بإغراق المقاومين والمدافعين، في مواجهته، بالدم، بل أغرق، الشعب كله بالدم. ومن ثم كان تسليط أنظمة استعمارية شديدة القسوة، قتلًا وتعذيبًا وتنكيلًا ، في مواجهة كل مقاومة مسلحة أو انتفاضة، أو ثورة، أو حتى تظاهرة.
الأمر الذي كان يؤدي إلى المعارضة السلمية، أو المهادنة والسكوت، ولكن ليس إلى زرع الخضوع والخنوع والاستسلام المقيم. بدليل ما عرفته كل البلاد العربية والإسلامية من ثورات مسلحة، وانتفاضات، بمراحل متقطعة، فاقت ما فعلته الأمم الأخرى.
ثمة مخزون عقدي مقاوم، وحامل للقِيَم العليا الوطنية والقومية والإسلامية، تتوارثها أجيالنا العربية والإسلامية، جيلًا بعد جيل. وقد حفظت الكثير من السيرة النبوية الغنية بالجهاد والتغيير. وتشبعت بالقرآن، وبما مرّ من حروب ومعارك، وسير لعلماء وقادة شعبيين وحكام، توخوا العدل. بل كان العالم أو الداعية أو السياسي يعلو إذا استقام، وابتعد عن السلطان، وكان يتحجّم ويُعزل في الذاكرة الشعبية إن فسدت سمعته، أو ترامى على أعتاب الحاكم.
وحتى في حياتنا اليومية يتحدّد موقف الرأي العام بالنسبة إلى السياسي أو العالم، أو المثقف بناء على مسلكه، سلبًا أو إيجابًا. ثم أضف ما تكرس في تاريخنا من أحداث وثورات ومقاومة، وتكريس القِيَم العليا والأخلاق، وقد اختزن كل هذا في العقل الجمعي المتوارث.
طبعًا لا يعني هذا نفي ما عرفه تاريخنا من استبداد وفئات ونخب منحرفة، أو خائفة، أو حكام ظلمة أو متقاعسين. أو مراحل كمون عام. ولكنه لا يمثل الصورة العامة التي ترسمها الهجائيات، سابقة الذكر التي تمحو كل إيجابية، ولا ترى التغيير إلا بإدخال الجماهير والأمة إلى المدارس لتعلم الوعي المطلوب، وتشرب ثقافة الثورة والاحتجاج والمقاومة. ومن ثم لا يلحظ أن هذا التعلم، يحتاج إلى الأرض الصالحة التي تنبت ما يزرع فيها.
أما الحالات التي تتبع فيها الجماهير الزعيم أو الحاكم تبعية خاضعة عمياء، بغض النظر عن مسلكه، أو حتى إذا كان مسلكه مدانًا، فهي في الحالات الطائفية، أو القائمة على عصبية من أي نوع.
شعوب محصنة
ولكن هذه الحالات يجب ألا تعمّم على الشعوب العربية والإسلامية التي يجب أن تُقرأ وَفقًا لواقعها وتاريخها ومخزونها الأخلاقي الجمعي. أما الدليل فتجاوب جماهير العرب والمسلمين، مثلًا مع كل مقاومة أو ثورة ضد الاستعمار. كما إجلالها للمخلصين والصادقين غير الملوثين.
إن منبع هذه المواقف حتى بالنسبة إلى الأفراد، يأتي من العقل الجمعي والسلوك الشعبي العربي. وهذا يفسّر أيضًا لماذا لم تستطع ثقافة الغرب والاستشراق واحتكار المعرفة، اختراق شعوبنا وجماهيرها العريضة، عدا نخب الحداثة، وبعض النخب التقليدية التي بُهرت بالغرب وثقافته وحضارته، وتمكنت الجامعات الغربية من كيّ وعيها.
فلذلك، فإن تدقيقًا معمقًا واسعًا لمواقف الجماهير أو الرأي العام، بالنسبة إلى المقاومة، ودماء المدنيين الذين تعرضوا للقتل الجماعي في قطاع غزة، سيخرج بنتائج مذهلة من جهة، التأثر والتعاطف والتأييد، للمقاومة وقيادتها والشعب في قطاع غزة، كما بالنسبة إلى الغضب ضد أميركا والغرب مع التركيز على جرائم الكيان الصهيوني، وحتى على جريمة وجوده من حيث أتى.
هذا ما يجب أن يُقرأ عندما تُقوّم مواقف الشعوب العربية والإسلامية، أو الأمة العربية والإسلامية، وذلك من دون اعتبار الأولوية في التقويم أن يُقاس بمدى نزول الجماهير إلى الشوارع أو الثورة على كل حكومة، وكل رئيس إذا ما قصّر، أو تراخى في نصرة المقاومة. ولم يضغط ضغطًا كافيًا لوقف العدوان.
إن عدم النزول إلى الشوارع، أو عدم ترجمة مشاعر الجماهير ووعيها إلى فعل مادي يجب أن يفسّر من خلال البحث عن الأسباب القاهرة، وليس الانتقال إلى الهجاء، وإصدار الأحكام القاسية على الجماهير والأمة. فثمة أسباب لها علاقة بالتجزئة العربية والدولة القُطرية. وأسباب لها علاقة بحدّة القمع، لسنوات وعقود. وأسباب تتعلق بالشروط التي تسمح للجماهير، بأن تنزل إلى الشوارع وتثور. وربما هنالك أسباب تتعلق بإفشال ثورة مصر الشعبية لعام 2011.
قوى القمع
فعلًا، كيف يفسّر هذا التناقض بين الوعي والموقف والمشاعر من جهة، وبين عدم النزول إلى الشوارع، أو ما يظهر من هدوء وعدم تحرك قوي. والبعض يحمل الموقف الشعبي حتى ممارسة بعض القطاعات من الناس المشاركة في الحفلات الغنائية أو اللهو.
طبعًا ما من شعب أو أمة إلا وفيه، وفيها، قطاعات لا تهتم بالسياسة، وتندفع إلى السلوك الترفيهي أو اللامبالي. وهذه القطاعات لا تؤثر في الثورات الشعبية، أو التغييرية الكبرى. لهذا يجب ألا تستخدم لتقديم صورة شوهاء أو جزئية لوضعِ الجماهير وتقويمِه، أو تفسير لماذا لا ثورة شعبية هناك.
إن ما يجري في قطاع غزة- سواء أكان من ناحية المقاومة وإنجازاتها، أم من ناحية مشاهد القتل والأشلاء والإصابات المروعة في الأجساد الممزقة، لا سيما، للأطفال، وقد بلغ عدد الشهداء والجرحى أكثر من مائة ألف، وشمل الدمار ما يقارب 80% من العمار والمساكن، بما يمزق القلوب ويثخن في الضمائر- يستدعي أن تثور الشعوب العربية والإسلامية. وهي التي تعيش يومها ومشاعرها في حالة غضب وثورة. ولكن مع بقاء الشارع هادئًا، إلا من بعض الحالات (البلدان) الاستثنائية كالأردن والمغرب، ولا سيما اليمن العظيم بموقف الشعب والقيادة والقوات المسلحة.
إن نزول الجماهير إلى حد فرض إرادتها، والإطاحة بالحكومات، كما حدث في تونس ومصر مثلًا في 2011 أو الأردن 1956 (إسقاط الدخول في حلف بغداد)، وأمثلة أخرى في عهود الاستعمار، أو مرحلة التحرر العربي، أو ثورة إيران 1979، كان الدافع الأول محليًا ومباشرًا، وثانيًا كان النظام، أو الحكومة في حالة تآكل وارتباك، بما يسمح للجماهير أن تتغلب في ميدان المواجهة على قوات الأمن أو الجيش، بعد بذل الدم وكسر إرادة القمع.
أما إذا شعرت الجماهير أن قوى القمع متماسكة والقيادة السياسية للدولة غير متناقضة فيما بينها، وما زالت فتية، لم تشخ، ومن ثم يؤدي النزول إلى شوارع إلى عدم القدرة على كسر إرادة قوى القمع، أو هز عزيمة قيادة السلطة، فالجماهير قد تجرّب ثم تتراجع تجنبًا لمعركة فاشلة. وهو ما لا يواجه الشعب والنخب في الغرب، مثلًا عند النزول إلى الشوارع. حتى لو وُوجه بقمع بحدود.
ثمة فارق مهم بالنسبة إلى معنويات المقاومة بين التقويم الإيجابي والمنصف، لوضع الجماهير، وقياس وعيها وشجاعتها إيجابيًا، وبين ما أشيرَ إليه من هجاء وحكم إعدام على موقف الأمة بالجملة، إذا لم تنزل إلى الشارع، وتعلنها ثورة جبارة.
مخزون ديني وثقافي
والسؤال: لماذا يتّسم الوضع في أغلب الدول العربية بأعلى درجات القمع وأقوى أجهزة القمع وأشدها قسوة، وتطوّرًا تقانيًا. وما هذا كله لأن الشعوب العربية والإسلامية، خانعة خاضعة، أو لأن عقلها (الجمعي بالخصوص) مستكين، وجامد، أو لأن إرادتها بليدة وجبانة، أو لأنها بحاجة إلى إعطائها دروسًا في المقاومة والمعارضة، بل العكس، وبسبب هذا العكس، ارتفع القمع، ووصل أعلى مستوياته، في كثير من البلدان. فلو كانت، كما يسرد الهجّاء، لما احتاجت إلى القمع.
بكلمة، لا مقاومة ولا ثورة أو انتفاضة يمكن أن تنجح بلا بنية حاضنة، ومخزون ديني وثقافي وتراثي. وهذا مكانه في الشعوب والأمة.
ودليل آخر: كيف نفسّر التأثر الواسع مصريًا وعربيًا وإسلاميًا، مثلًا عندما أطلق جمال عبد الناصر خطبته في تأميم قناة السويس، أو ضد بريطانيا، أو الكيان الصهيوني وأميركا، أو ضد التخاذل والتبعية؟ الجواب يكمن في تجاوب الخطب مع المخزون الشعبي العربي والإسلامي. وليس العكس، أو فلنقل تلاقي الأمرَين.
وكيف نفسّر ارتفاع صور السيد حسن نصر الله بعد حرب 2006، فوق جدران أغلبية البيوت العربية من المحيط إلى الخليج، أكان استجابة لما في القلوب والعقول من مخزون حب للمقاومة، أم جاء مَن أعاد تثقيفها لتفعل ما فعلت؟
وأخيرًا كيف أصبح أبو عبيدة أُقْنُومًا في العالمَين العربي والإسلامي، ألم يكن استجابة فورية لما فعله “طوفان الأقصى” من قِبَل المخزون الشعبي في الأمة.
هذا يلخص كل الموقف في فهم أو تفهم موقف الشعوب العربية والإسلامية.. موقف الأمة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.