في خطابه الأخير، شدد حسن نصر الله على أن المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التصعيد الإسرائيلي في غزة، مؤكدًا أن كل اعتداء سيقابل برد قوي يرفع من احتمالات انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة. في ظل هذه التوترات المتصاعدة، بات من الواضح أن المنطقة تسير على حافة الهاوية، حيث تحذر كل الأطراف من أن أي خطأ في الحسابات قد يقود إلى صراع مدمر. ومع تصاعد الغضب الشعبي واستمرار الهجمات المتبادلة، تبدو الجهود الدبلوماسية عاجزة عن تهدئة الأوضاع، مما يعزز المخاوف من أن الحرب قد تكون أقرب مما يُعتقد.

لا تزال الحملةُ التي تشنُّها إسرائيلُ في غزة تُلقي بظلالها على سياسات الشرق الأوسط، مع وجود شبح حربٍ أوسع نطاقًا أو غيرها من عدم الاستقرار الإقليمي، حتى مع محادثات وقف إطلاق النار “المتعثرة” حتى الآن.

ولعل ذلك يعود ـ في الأساس ـ إلى السياسات المُضللة التي تعتمدها الإدارةُ الأميركية، والتي تحمي ـ بخطابها المراوغ والتحايلي والمتبجح أحيانًا ـ تأجيجَ مصدر الصراع، وهو العدوان الإسرائيلي على غزة، بينما تحاولُ مكافحة الحرائق في أماكن أخرى من المنطقة بالقوة العسكرية.

فالغضبُ الشعبي يتصاعد، وتخشى دول الطوق ـ مصر والأردن ـ التهجير القسري للفلسطينيين إلى أراضيها، فيما نفذت جهات نشطة وفاعلة غير حكومية في “محور المقاومة” ـ الذي يحظى بمظلة دعم سياسي ولوجيستي من إيران ـ هجمات “إسناد” دعمًا للمقاومة والقضية الفلسطينية، وذلك على نطاقٍ واسع، حيث ضربت أهدافًا عسكرية إسرائيلية وأميركية، وكذلك سفنَ الشحنِ في البحر الأحمر وخليج عدن بالصواريخ والطائرات بدون طيار، وردت إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة على هذه الجماعات.

بيدَ أن العمليات العسكرية ظلت عند حدود “قواعد الاشتباك” التي تحول دون التوسع إلى حرب إقليمية أشمل، لا تتمناها جميع الأطراف، بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، فضلًا عن “محور المقاومة” ذاته.

غير أن اغتيال أحد أهم القادة العسكريين الميدانيين لحزب الله “فؤاد شُكر”، وبعدها بيوم أرفع مسؤول سياسي ودبلوماسي فلسطيني “إسماعيل هنية” في 30 يوليو/تموز الماضي، رفع مستوى التوقعات بأن قواعدَ اللعبة في المنطقة قد تتغير إلى الأسوأ من خلال اتساع الحرب، على نحوٍ قد يصعبُ معه السيطرة عليها من خلال القنوات الدبلوماسية، والضغط على هذا الطرف أو ذاك، إذ سيكون الجميع قد تورط بشكل أو بآخرَ في هذا الحريق الإقليمي الذي يتجنبه الجميع حتى الآن.

ولذا قام دبلوماسيون من الولايات المتحدة والدول الأوروبية في الأسابيع الأخيرة بموجة من الزيارات إلى إسرائيل ولبنان؛ بحثًا عما “يُقلِّص” مساحة الخريطة المرشحة لإضافة المزيد من “البنزين” إلى أجوائها الملتهبة، وذلك بالتزامن مع استعراض قوة الردع الأميركية في المناطق المتاخمة للجغرافيا المعادية لتل أبيب، حيث نقل البنتاغون طائرات “إف- 22 رابتور” ومجموعة حاملة الطائرات “يو إس إس أبراهام لينكولن” – المتمركزة حول طائرات “إف- 35 القتالية – والغواصة “يو إس إس جورجيا” الصاروخية الموجهة، وما يقرب من 40 ألف جندي أميركي إلى المنطقة.

وجاءت محاولات “ترطيب” الأجواء بالدبلوماسية، وكذلك بالردع العسكري الأميركي الاستعراضي والخشن في المنطقة، بعد الغموض الذي أحاط بالأسباب التي أدت إلى “تأخير” ـ أو “تعليق” ـ حزب الله من جهة وإيران من جهة أخرى إعلانهما الثأر لاغتيال شُكر وهنية، وما إذا كان ذلك لحسابات سياسية تتعلق بتكلفة الحرب وفاتورتها المتوقعة، أم لتوظيف “الثأر” كورقةِ ضغط على صانع القرار الإسرائيلي المتعنت من أجل النزول عند شروط المقاومة التي يرفضها حتى الآن.

وأيًا كان الأمر، فإن تأخير الرد/الثأر وضع كلًا من حزب الله وإيران أمام سؤال استحقاقات “فضائلِهما المعلنة” ومشروعِهما “القتالي” و”الإسنادي” للمقاومة في قطاع غزة.

وفي صباح اليوم ـ 25 أغسطس/آب 2024 ـ أحدث حزبُ الله انعطافًا كبيرًا وجريئًا في اتجاهات الرأي العام المتشككة في الوفاء بوعوده، حيث استهدفَ بـ 320 صاروخ كاتيوشا، بالإضافة إلى عدد كبير وغير مسبوق من الطائرات بدون طيار، مواقع متعددة في إسرائيل، من بينها ثكنات الجيش الإسرائيلي ومقار الاستخبارات ومنصات القبة الحديدية (الدفاع الصاروخي)، ومن بينها أيضًا “هدف عسكري نوعي” قال إنه سيتم الإعلان عنه لاحقًا.

بعد مفاجأة حزب الله اليوم، تزايدت المخاوفُ من أن يكون هجومُه الواسع مقدمةً لحريق أوسع، وأنه بلغ النقطة التي قد تتفلت عندها القدرة على ضبط النفس، وبلْع إسرائيل “الإهانة” أو تمريرها، ولعل سؤال “الحرب الإقليمية” بات ـ بعد اليوم ـ هو الأكثر إلحاحًا على صُنَّاع القرارات السيادية الكبرى إقليميًا ودوليًا.

واللافت هنا أنه قبلَ أسبوعٍ من عملية حزب الله الكبيرة، كتب وزيرُ الخارجية البريطاني ديفيد لامي ونظيره الفرنسي ستيفان سيغورني مقالًا مشتركًا لصحيفة “الأوبزرفر”، ذكرا فيه أنَّ العالمَ يشهدُ “دوامة عنف مدمرة” يجب تجنبها. وقالا إن “القتال بين إسرائيل وحزب الله اللبناني اشتد”، وإن التهديدات الإيرانية بمزيد من التصعيد تعني أن مخاطر نشوب حرب إقليمية واسعة النطاق آخذة في الارتفاع.

وحذرا من أنه “إذا حدث خطأ واحد في الحسابات، فإن الوضع قد يتصاعد إلى صراع أعمق وأكثر استعصاءً على الحل، وهذه الدورة، مع ميلها نحو التصعيد، تجعل التقدم نحو الحل السياسي أكثر صعوبة”.

غير أن هجوم حزب الله جاء بالتزامن مع استضافة “القاهرة” جولة جديدة من المحادثات، وفي تقديري، هو تزامنٌ “محسوب” ـ أو “مقصود” ـ يجعل الهجومَ عند سقف “الضغط” لتليين الموقف الإسرائيلي المتعنت وكسر أنفه المتعالي، وإذعانه إلى التوقيع على صفقة “عادلة”، وليس استهلالًا لحربٍ أوسع مقصودة.

فإذا كان حزبُ الله لا يريد الدخول في حرب أكبر من حدود الاستنزاف اليومي، لتجربته السابقة عام 2006، عندما اختطفت إسرائيل المدنيين والمدن اللبنانية ودمرت بنيتها التحتية، فإن إسرائيل ـ كذلك ومن جانبها ـ تعلمُ أن حزبَ الله في نسختِه عام 2024 غير طبعته التي قاتلها بها في صيف عام 2006، فهو الآن ـ أي الحزب ـ أقوى بكثيرٍ مما كان عليه خلالَ ذلك الصراع، وتُقدر الولاياتُ المتحدة وإسرائيل أن لدى الحزب نحو 150 ألف صاروخ، وهي قادرة على ضرب أيّ مكان داخل إسرائيل.

كما طور طائرات بدون طيار قادرة على التهرب من الدفاعات الإسرائيلية، بالإضافة إلى ذخائر دقيقة التوجيه. ولذا فمن المرجح أن هجوم 25 أغسطس/آب جاء في سياق إظهار التضامن مع المقاومة من ناحية، ومعاقبة إسرائيل على اغتيال “شُكر” من ناحية أخرى، وليس بنية شن صراع أوسع نطاقًا، فيما جاء الردُ العسكري الإسرائيلي عليه عند حدود هذا السقف تقريبًا: لا حربَ تقفزُ على قواعد الاشتباك التي يتبعُها الطرفان إلى اليوم.

الأمرُ ذاته ينسحبُ على إيران، فإذا كانت الأخيرة تمتلك جيشًا هائلًا، مع مخزون هائلٍ من الطائرات بدون طيار والصواريخ القادرة على ضرب أهداف في جميع أنحاء إسرائيل، فإنها معرضةٌ أيضًا للخطر أمام رد الفعل الجوي الأميركي أو الإسرائيلي.

وفي السياق، كانت إحدى مفاجآت ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، ظهور لاعبٍ جديد في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، يتمثل في الحوثيين باليمن. فمنذ ذلك الحين هاجم الحوثيون السفن في مضيق باب المندب بالصواريخ والمسيرات، ما دفع شركات الشحن الكبرى إلى تجنب المنطقة، مما زاد من تكاليف الشحن الإجمالية في جميع أنحاء العالم.

وشكلت الولايات المتحدة قوةَ عملٍ دولية مع كندا وفرنسا والنرويج وإسبانيا والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى استخدام سفن البحرية الأميركية لمواجهة هجمات الحوثيين، مما أضاف المزيدَ من الإرهاق على اليمن من جهة، وعلى القوى الدولية المشاركة في تأمين المجرى الملاحي الدولي من جهة أخرى.

الكلُّ ـ إذن ـ سيخسر وليس لديه الاستعداد لسداد فاتورة الفوضى المتوقعة، حال تضافرت النزعاتُ المتطرفة نحو المزيد من التصعيد والتورط في حرب واسعة النطاق.

ولذا عمد الطرفان ـ حزبُ الله وإسرائيل ـ إلى إرسال رسائلَ بهذا المعنى ضمنيًا. فمع حلول منتصف صباح اليوم، بدا أن تبادل الهجمات قد انتهى، حيث ذكر الجانبان أنهما ركزا ضرباتِهما على أهدافٍ عسكرية وحسب. واستُشهِدَ ثلاثةُ أشخاصٍ على الأقل في الغارات على لبنان، فيما لم تَرِد أنباءٌ عن سقوط ضحايا في إسرائيل، ما عزز الآراء التي تتوقع أن ما حدث صباح الأحد لا يزال ضمن قواعد الاشتباك، ومن غير المرجح ـ في هذه المرحلة- أن يؤدّي إلى حرب شاملة.

ومع ذلك، ستظلُ كلُّ الطرق إلى “حربٍ إقليمية” ممهدةً مادامت آلةُ الحرب الإسرائيلية العمياء تحصدُ أرواحَ الآلاف من الفلسطينيين، وتتعمد التخلص من “العِرق الفلسطيني” بحرية كاملة تحت مظلة حماية عسكرية وسياسية ودبلوماسية من سيّد البيت الأبيض.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version