بغض النظر عن نجاح عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، فإنَّ الأهم في هذا النوع من الاغتيالات يكمن في مستوى الفارق الإستراتيجي الذي تحدثه في التحولات السياسية والعسكرية. فاغتيال قائد مركزي قد يكون حدثًا يقود لتغيرات إستراتيجية، وقد يكون حدثًا عملياتيًا تكتيكيًا، وهذا يرتبط بمستوى التحولات.

يوجد في مسيرة الثورات والدول من هذا وذاك. في إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية – وهما صاحبتا مدارس عريقة في الاغتيال السياسي – يعون تمامًا مستوى التحولات التي قد تحدثها اغتيالات معينة في لحظة زمنية فارقة. لكن عقدة إسرائيل في تعاملها مع الحركات العقائدية والأيديولوجية المتماسكة هي أن الاغتيال السياسي لم ينجح في صناعة الفارق الإستراتيجي الذي أحدثته مع غيرها من الحركات والدول عبر الاغتيالات.

تمثل حركة حماس إحدى العقد الأساسية في ذهنية الأمن الإسرائيلي، من حيث كثافة الاغتيالات للصف الأول، والتي لم تحدث أية تحولات إستراتيجية أو انحرافات تنتج تيارات داخلية في الحركة تقبل العلاقة مع إسرائيل. لكن مقابل ذلك، يوجد العديد من الأمثلة لنجاح إسرائيل في قيادة تحولات إستراتيجية من خلال الاغتيالات.

يبدو أنَّ رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو حين اعتبر وقادة أجهزته الأمنية أنَّ عملية الاغتيال في بيروت “إن نجحت سوف تغير شكل الشرق الأوسط” مطلقًا عليها اسم “نظام جديد” كان مسكونًا بما استطاعت أن تفعله إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال إعادة هندسة كينونتها عبر الاغتيال السياسي المنظم الذي حيَّد قيادات تاريخية وأحلَّ مكانها قيادات بمواصفات مطلوبة للمرحلة نقلتها من مربع إلى مربع آخر مختلف تمامًا عما نشأت عليه. لكنها مقارنة في غير مكانها.

في التاريخ المعاصر، حصلت عمليات اغتيال أدت لتحول جذري لصالح المحتل. فعند اغتيال روسيا الزعيمَ الشيشاني أصلان مسخادوف في (2005) كان ذلك إيذانًا بنهاية عهد التمرد الشيشاني، وتنصيب زعيم جديد موالٍ لروسيا، حوَّل الشيشان من عدو إلى حليف إستراتيجي يمثل الخزان البشري للجيش الروسي.

كذلك أبدعت إسرائيل في هندسة التحولات الداخلية في منظمة التحرير الفلسطينية عبر سلسلة اغتيالات منتقاة منذ سبعينيات القرن الماضي، أدت لتحييد نوعية معينة من القادة، وإفساح الطريق لسيطرة قادة آخرين سهلوا تمرير اتفاق أوسلو.

يُقاس على ذلك أيضًا الفارق الذي أحدثه اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، والانقلاب الجوهري في نهج السلطة بعد تولي الرئيس الحالي محمود عباس. إسرائيل لا تعتبر الاغتيال السياسي ناجحًا إلا إذا أدى لهكذا تحولات، وإلا بقي حدثًا عملياتيًا تكتيكيًا.

وبالعودة إلى عقدة حماس، فبالرغم من كثافة الاغتيالات عدديًا للصف الأول من قادتها من المؤسس الشيخ أحمد ياسين إلى رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري، وبينهم سلسلة طويلة من الصف الأول، فإنَّ ذلك لم يحدث تحولات منهجية في الحركة، وبالتالي كان تأثير الاغتيالات على حركة حماس إجراءً عملياتيًا محدودًا يرتبط بإعادة ترتيب أوراق تنظيمية لا أكثر، بينما كان عند غيرها سببًا في انقلاب داخلي وتغير جذري في المسارات.

لذلك لا يمكن إسقاط تجربة التحولات في منظمة التحرير الفلسطينية بفعل الاغتيالات على قوى، مثل حماس أو حزب الله. ويعود السبب الرئيسي لذلك إلى أنَّ التباينات الداخلية في هذه القوى، ليست على مستوى الأيديولوجيا أو النظرة للصراع أو المنهج، وإنما تقتصر على مستوى التكتيكات التي يمكن التعامل من خلالها في إطار المدرسة الواحدة، إضافة لعوامل تنظيمية أخرى، أهمها الارتباط بالفكرة وليس بالشخص مهما بلغ من كاريزما وتأثير.

عند اغتيال الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى (2001)، كانت الجبهة الشعبية على مفترق طرق بين نهجين في انتخاب أمينها العام الجديد، تجسَّد في قطبين مختلفين: الأول مثَّله الراحل عبد الرحيم ملوح، والذي كان يُصنَّف بأنه الأقرب لمسار السلطة الفلسطينية وعلى تناغم كبير معها، والثاني مثَّله أمينها العام الحالي الأسير أحمد سعدات.

كانت قواعد الجبهة الشعبية تعي أنها أمام نهجين مختلفين، فحُسم الاستقطاب الداخلي بانتخاب سعدات تغليبًا للاستمرار في خط المقاومة والثأر. وهو ما أعقبه بوقت قصير بعد انتخاب سعدات إشرافه على اغتيال الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي، وبقيت الجبهة على نهجها حتى اليوم. يتكرر الأمر أيضًا في حالة الأسير القيادي في حركة فتح مروان البرغوثي.

وبخلاف كل الأسرى، فإنَّ سبب رفض إسرائيل إدراجه في صفقات التبادل ومنها صفقة شاليط لم يكن سببًا أمنيًا بل سببًا سياسيًا، لأنَّ الإفراج عنه قد يحدث تغيرات جذرية في قيادة السلطة وحركة فتح تُحيِّد قيادات ترى الإدارتان الأميركية والإسرائيلية ضرورة استمرار وجودها في هذه المرحلة.

لكن هل هذا التباين موجود في قوى المقاومة حاليًا؟ إنَّ قراءة موضوعية لمستوى التوجهات في هذه القوى لا تشير إلى وجود هذه المساحات من الفوارق. فاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أعقبه انتخاب، وبالإجماع، يحيى السنوار، بما معناه أنَّه لا يوجد في حماس إلا مدرسة واحدة وهي المواجهة المسلحة التي بدأها السنوار.

في هذه الحالة، لا يصبح للاغتيال قيمة من الناحية الإستراتيجية. كذلك فإنَّ الجيش الإسرائيلي في تصريحه بأن “استهداف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله من شأنه أن يغير شكل الشرق الأوسط” استنتاج غير واقعي وقياس في غير مكانه.

يعتبر المحلل العسكري “ألون بن ديفيد”، المقرب من قيادة جيش الاحتلال، أنَّ “سياسة الاغتيال تقود إلى نتائج عكسية، فتعمل على توسيع دائرة العنف، ولن تقضي على من وصفهم بالإرهابيين الذين يتم استبدالهم بآخرين، وفي أحسن الحالات قد تدخل بعض المنظمات في حالة فوضى لمدة من الزمن إذا كان المستهدف شخصية مركزية في منظمة يعتمد وجودها على هذه الشخصية، قبل أن تستعيد عافيتها، وربما تصبح أكثر قوة وتنظيمًا”.

وأفضل مثال يضربه بن ديفيد على ذلك هو حزب الله، معلقًا: “عند اغتيال عباس موسوي، أمين عام حزب الله السابق، وتولي نصر الله، تحول الحزب من جماعة صغيرة إلى جيش منظم”. يشير أيضًا رونين بيرغمان، الصحفي الإسرائيلي، في كتابه الموسوعي “قم واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة” (Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations) إلى أنَّ “سياسة الاغتيالات نجحت في إزالة تهديدات مباشرة محددة، لكنها فشلت في توليد حل طويل الأمد لمعضلة الأمن الإسرائيلي”.

ينطبق ذلك على الدول ذات المؤسسات المستقرة أيضًا، فنجاح محاولة اغتيال ترامب مثلًا قبل أسابيع لم يكن ليحدث فارقًا في سياسات الولايات المتحدة الأميركية التي تحكمها دولة عميقة متجذرة تجعل الفارق بين أن يكون رئيسها ديمقراطيًا أو جمهوريًا، هو أن تشرب كوب الشاي بسكر أو بدون سكر.

بالعودة إلى حادثة اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، فإنَّ إسرائيل تراهن في منطق “تغيير وجه الشرق الأوسط” وبإطلاقها على عملية اغتياله اسم “نظام جديد” على أنَّ حزب الله وإن استطاع إعادة ترتيب أوراقه داخليًا فإنه سيكون من الصعب عليه السيطرة على السياق؛ نتيجة تغييب القائد الكاريزمي الذي كان لكاريزميته دورٌ مهم في إقناع قاعدته بخوض المعركة، وبالتالي فإنَّ استمراريته في المعركة ستكون أصعب.

يجعلنا ذلك نشير إلى أنَّ إسرائيل لا تنظر إلى النجاح العملياتي على أنه نجاح إستراتيجي ما لم يؤدِّ إلى تحقيق الفارق الإستراتيجي المطلوب، وبالتالي فإنَّ بيانًا واحدًا من حزب الله يشير إلى استمرار تمسك الحزب بذات المواقف التي تربط جبهة الشمال بجبهة غزة، سيعني مباشرة أنَّ الاغتيال – وإنْ كان فادحًا – سيبقى في نطاق العمل التكتيكي الموضعي رغم عدم التقليل من فداحته، ولم يتحوَّل لنجاح إستراتيجي لإسرائيل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version