عاشت سوريا أزمنة عِجافًا، على مرحلتين:

  • الأولى: منذ العام 1971، حين استلم حافظ الأسد رئاسة سوريا، فمكّن للطائفية “العلوية” على حساب مكونات الشعب السوري العريق، وعمقه الحضاري العظيم، فعاش السوريون تحت ظلم الاستبداد، أمنيًا وثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وتوارث آل الأسد، وتوابعهم من النصيريين والبعثيين، الحكم والمناصب والنفوذ، وبقي للشعب السوري القهر، والعنت، والشح، وعالم من السجون والظلم والطغيان.
  • الثانية: بعد أن نفد صبر الشعب السوري “وقال طال واستطال”، وتزامنًا مع شرارة الثورات الشعبية العربية (في تونس وليبيا ومصر واليمن)، انطلقت الثورة الشعبية السورية (منتصف مارس/ آذار 2011م) “وقد ظن الناس قبلها أن السوريين وصلوا إلى مرحلة التدجين”، فخرجت مظاهرات في عدة مدن سورية مطالبة بـ (الحريات وإخراج المعتقلين السياسيين من السجون ورفع حالة الطوارئ).

ثم ازداد سقف المطالب تدريجيًا حتى وصل إلى المطالبة بإسقاط نظام بشار الأسد، وبحلول شهر يوليو/ تموز من عام 2011 تطورت مظاهر الاحتجاجات إلى اعتصاماتٍ مفتوحة في الميادين الكبرى ببعض المدن، إلا أنَّ هذه المظاهرات السلمية تعرَّضت للقمع العنيف على أيدي قوات النظام، مما تسبَّب في هجرة آلاف السكان المحليين ولجوئهم إلى الدول المجاورة، وأهمُّها (تركيا، والسعودية، ولبنان، والأردن).

ومع تطور الأزمة، بدأت الانشقاقات في جيش النظام، وفي مطلع شهر أغسطس/ آب، أُعلن عن تأسيس الجيش السوري الحر، وبدأت المواجهات العسكرية على نطاقٍ صغيرٍ ومحدودٍ بين قوات النظام وقوات المعارضة، ثم أخذت بالتوسُّع تدريجيًا حتى بدأت تصل إلى مستوى المعارك المباشرة بحلول نهاية العام وبداية عام 2012.

وازدادت المأساة بدخول قوى إقليمية أعجمية على خط المواجهات؛ إيران من خلال (نشر مليشيات الحشد الشعبي الشيعية الطائفية)، وإسرائيل من خلال تأسيس (قوات سوريا الديمقراطية/قسد)، وتركيا من خلال دعم قوى المعارضة السنية.

ومن وراء هذه القوى الإقليمية، حضر كل من (أميركا وروسيا) في حراك عسكري متناقض، طال كافة جغرافيا سوريا، وتسبب في دمار شامل، وقتل وتهجير ولجوء، حتى فقدت الساحة السورية بوصلتها، وظن الناس ألا مخرج، لا سيما مع بوادر عودة اندماج النظام السوري في المنظومة العربية، “وكأن شيئًا لم يكن”، في سعي للإبقاء على ما تبقى، ومعالجة العوالق وفق متغيرات الأحداث.

وفجأة، وفي ظل الخيارات القليلة المتاحة، وجميعها خيارات مشوهة لا يستقيم أي منها للوقوف عليها، أصبح الموقف العربي في حالة (صمت محرج وفق رهانات يحيطها مشهد إقليمي متأزم).

وكأن الفرج قد نزل من السماء، ففي “عشرة أيام” غلبت مسيرة “أكثر من عشر سنوات من النضال”، تحركت “هيئة تحرير الشام” من الشمال إلى العمق وصولًا إلى دمشق؛ لتعلن انتهاء المرحلتين، (النظام البائد، والثورة الشعبية)، وكأنها تقول للسوريين: دمشق بين أيديكم، فافعلوا ما شئتم.

هنا انتهت الحكاية في جانبها الشكلي، ولكنها بدأت للتو في عمقها الموضوعي؛ لتبدأ المناقشات:

وأول التناولات التأكيد على مسألة، حررتها كقاعدة للنظر في الأحداث والتعامل مع مجرياتها، تم نشرها على حسابي في منصة إكس في 13 مارس/ آذار 2022م:

  • ألا ننشغل بالأحداث، فهي أسرع من قدرتنا على ملاحقتها، فالأحداث ظواهر لحقائق.
  • علينا أن نفتش عن الحقيقة بعناية.
  • وسنجدها في زوايا المتناقضات، وبين خفايا المتوافقات.
  • استحضارنا للمقدمات مفتاح لفهم الوقائع.

وبناءً عليه، وللنظر في ذات السياق، فإن الأحداث التي قادتها “المعارضة السورية” تمت بسرعة “وسلاسة” وحققت مكتسبات عالية ضحى الشعب السوري كثيرًا لتحقيقها، وبدت ملامحها للعيان. وبكل تأكيد، فإن هذه الأحداث مجرد ظواهر، من ورائها “حقائق مخفية” تحتاج إلى نبش وتحقق، لفهم ما يجري.

يمكن أن نلحظ شيئًا من ذلك في المتناقضات التي صاحبت مجريات أحداث “غلبة الثورة على النظام”، ومن هذه التناقضات:

  • التوافق الأميركي/الروسي على ما جرى، فلم يقع تصعيد بينهما، بل استجابت روسيا، وتحدثت بهدوء مركزة على مصالحها في قواعدها “طرطوس، وحميميم”، وأميركا تعجلت لتعلن عن إمكانية رفع “هيئة تحرير الشام” من قائمة الإرهاب!
  • التوافق الإسرائيلي/الإيراني “شكليًا” على الأحداث، وانصراف كل منهما للعناية بمصالحه دون الخوض بعمق في مجريات الحدث الأهم “سقوط النظام” و”انتصار الثورة”، رغم أن الطرفين خصمان للثورة وراعيان للنظام بأشكال مختلفة، بل لم يستخدم مسؤولو النظام الإيراني مسميات تنظيم إرهابي، وأشاروا إلى ما جرى باعتباره “الثورة السورية”؟!
  • الانسجام التركي مع بيان المجموعة الوزارية العربية في “العقبة”: رغم ما كان بينهم من متناقضات وقت الأزمة.
  • إعلاميًا: تبدلت المسميات في مختلف القنوات الفضائية، وتم استخدام مصطلح “الثورة السورية” بدلًا من مسميات التنظيمات الإرهابية، حتى لدى أعتى القنوات الإعلامية العربية ضراوة ضد التنظيمات ذات الطابع الإسلامي/الجهادي، بل شهدنا التماهي معها، والتقاط الصور مع رمزها “أحمد الشرع”؟!

ولو عدنا إلى مقدمات الأزمة السورية، لوجدنا أنها تنامت في ظل مسارات رئيسية؛ إيرانية وإسرائيلية وتركية، ومن ورائها دعم روسي لمسار “النظام وإيران”، ودعم أميركي لمسار المصالح الإسرائيلية من خلال “قسد”، ودعم تركي للثورة في تشكلاتها السنية، ثم موقف خليجي متأرجحٌ بين دعم الرغبة الشعبية في ثورتهم، ومحاربة التنظيمات الإرهابية الناشئة.

والتوازن بين الهدفين كان مجسًا دقيقًا، ومتغيرًا بحسب الأحداث وتقاطعات الأطراف.

من هنا: وفي ضوء المستجدات، نلحظ أن الحلقة قد اقترن طرفاها، وعادت نهاية الأزمة إلى بداياتها؛ “إرادة شعبية لتغيير النظام الطائفي الفاسد”، وهذا ما تحقق على أرض الواقع. ويبقى الملف السوري رهينًا لثلاثة مسارات، قد تُشكل “جغرافيا وسياسة” مزدوجة (سورية/عراقية). والمسارات الثلاثة هي:

  • المسار العربي السوري، المتمثل في قيادة الثورة والحكومة الانتقالية، وتحولاتها المستقبلية لتشكيل النظام السوري الجديد.
  • المسار التركي، الذي يسعى لاستعادة حضوره في شمال الجزيرة العربية من خلال مناطق الشمال السوري.
  • المسار الإسرائيلي، الذي يعمل على مدّ نفوذه في العمق السوري لتغيير معالم الأرض، ورسم حدود فاصلة “مؤقتة” بدلًا من الحدّ الفاصل في الجولان، والتحرك من خلال الطائفة الدرزية لشرعنة حضوره في العمق “الجنوبي/الغربي” لدمشق.

ضابط الإيقاع لهذه المسارات يتمثل في المصالح المزدوجة “الروسية/الأميركية” للموارد في سوريا (النفط والغاز، والفوسفات، والقمح). والقاعدتان الروسيتان “طرطوس، وحميميم” لن تسمحا بالمساس بهذه المصالح، وقد يقود ذلك سوريا إلى دوامة جديدة من المواجهات، وإعادة التنظيمات المسلحة للفاعلية في المشهد، وبقايا أذرع إيران لخلق بلبلة “ضاغطة”. لطالما كانت “التنظيمات المسلحة خارج القانون” هي الأذرع الفاعلة للقوى الدولية والإقليمية للعبث في مناطق الصراع المماثلة (ليبيا، العراق).

الدور الخليجي المطلوب

لعبت دول الخليج أدوارًا فاعلة في مسيرة “الثورة السورية” رغم تقلبات الأحداث وجسامة وقعها، وتحملت أعباء “سياسية واقتصادية”. إلا أن المرحلة الحالية وما قد يتمخض عنها، جدير بأن يكون للدبلوماسية الخليجية، مزيد من الفاعلية في مسارات:

  1. التفاهم مع الجانب الروسي لتحييد “بشار الأسد” وتغييبه عن المشهد كليًا، فمن غير المستبعد أن “فلول النظام”، التي تمثل بشكل ما “الدولة السورية العميقة”، قد تتحرك لمصلحة طرف ما لإرباك المشهد السياسي والأمني.
  2. التفاهم مع الجانب الأميركي لضبط الجموح الإسرائيلي، ومنعها من تجاوز القرارات الدولية، والحد من تحركها في العمق السوري.
  3. مراقبة التحركات الإيرانية، والعمل على تصفية العمق السوري من بقايا مليشيات النظام، ودعم إجراءات “الحكومة الانتقالية” لضبط الديمغرافيا، وإزالة النتوءات التي حدثت في ظل الأزمة.

أخيرًا

من السابق لأوانه الحكم القطعي على مجريات الأحداث ومآلاتها، ومن المتعذر الاستباق إلى قراءات يقينية لما قد تنتهي إليه، رغم المؤشرات الإيجابية التي تلتقي مع “أمنياتنا ورغائبنا”، والمحاذير الأمنية التي تتماثل مع التجارب السابقة. ويبقى الأمل في حصافة الشعب السوري، ووعيه بمخاطر المرحلة، وإيماننا بالله ومشيئته العادلة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version