رصدت صحيفة كالكاليست الإسرائيلية المختصة بالاقتصاد ما وصفته بـ”تسونامي دبلوماسي” يهدد الاقتصاد الإسرائيلي في صميمه، ويُنذر بتداعيات جسيمة على قطاعي الصناعة والتكنولوجيا، لا سيما في الأسواق الأوروبية.
وبحسب الصحيفة، فإن الحرب المستمرة على غزة منذ 22 شهرا، والأزمة الإنسانية العميقة الناتجة عنها، دفعت بإسرائيل إلى حافة “النبذ الدولي”، وسط مؤشرات ملموسة على خسائر تجارية فعلية ومقاطعة متزايدة في ميادين التمويل، والبحث، والتسليح.
وأكدت كالكاليست أن الصورة تتغير بسرعة مقلقة، وأن تحذيرات أوروبية من فرض عقوبات على إسرائيل باتت أكثر جدية، مشيرة إلى أن تل أبيب تقترب من دخول “نادي الدول المنبوذة”، وهو ما بدأ ينعكس فعليا على شركاتها الكبرى من خلال رفض العقود، وإقصاء العروض، وتزايد العداء العلني في مراكز القرار.
عقود تلغى.. وهوية إسرائيل تُخفى
ويقول مدير عام إحدى الشركات الصناعية الكبرى في إسرائيل للصحيفة إنه خسر مؤخرا مناقصة بملايين الدولارات مع دولة أوروبية رغم وصوله إلى المرحلة النهائية.
ورأى أن “الرفض لم يكن مهنيا بقدر ما كان سياسيا”، وقال: “الرفض جاء مباشرة بعد إعلان تلك الدولة نيتها تقييد تجارتها مع إسرائيل، وهذا يثير الريبة”.
وفي حالة أخرى، تمكنت شركته من إنقاذ صفقة في دولة أوروبية ثانية فقط بعد الالتزام بـ”السرية التامة” وإخفاء الهوية الإسرائيلية للمنتج.
وأضاف: “أعطيت المشروع اسما مشفرا وسننتج من دون أن يُعرف أن مصدره إسرائيل”، بحسب ما نقله تقرير كالكاليست.
تراجع حاد في الحضور والطلب
وتصف الصحيفة الوضع بأنه غير مسبوق حتى بمعايير الأزمات السابقة التي مرت بها إسرائيل. فوفقا لمدير شركة سلاح إسرائيلية تعمل في أوروبا منذ سنوات طويلة، فإن “الاتفاقيات تتأجل، والقرارات تُؤجل عمدا، والزبائن يفضلون الانتظار حتى نهاية القصة في غزة”، مضيفا: “الكل يتهرب، ويؤجل، ويتفادى اتخاذ قرارات توقيع العقود معنا، خشية ردود فعل الرأي العام الداخلي”.
وبحسب المصدر ذاته فإن الحضور الإسرائيلي في المعارض الدفاعية الدولية بات خافتا، وتراجعت زيارات الوفود الأجنبية المهتمة بالشراء، وقال للصحيفة: “حتى المعارض صارت فارغة مقارنة بالسنوات الماضية”.
نجاح إسرائيلي عسكري يُمحى بغطاء صور غزة
ورغم أن صادرات السلاح الإسرائيلية بلغت عام 2024 رقما قياسيا وصل 14.8 مليار دولار، منها 54% نحو السوق الأوروبي، إلا أن هذا الزخم مهدد بالتآكل.
ويشير مصدر أمني إسرائيلي إلى أن الأوروبيين يتعاملون بازدواجية واضحة، قائلا لـ”كالكاليست”: عندما يتعلق الأمر بأنظمة دفاع جوي، حيث نتميز، تُخفف الحساسية تجاه معاناة غزة. أما في المجالات ذات التنافس العالي، فيُفضلون إظهار الضمير”.
ويضيف مسؤول دفاعي آخر في حديثه للصحيفة أنه بعد العملية في إيران “انهالت علينا الطلبات من أوروبا، لكن بعد صور الجوع والدمار في غزة، تراجع كل شيء. الكل يقول لنا: ننتظر، لسنا مستعدين الآن”.
ترامب يضغط… وماكرون يناور
وفي موازاة ذلك، يشهد السوق الأمني الأوروبي سباق نفوذ شرس. ففي قمة حلف شمال الأطلسي في لاهاي نهاية يونيو/حزيران الماضي، فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب على قادة الدول الأعضاء رفع ميزانيات الدفاع إلى 5% من الناتج المحلي خلال العقد المقبل.
وتؤكد كالكاليست أن ترامب يأمل أن يذهب القسم الأكبر من مئات المليارات المتوقعة إلى الصناعات الأميركية.
في المقابل، يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتقوية الصناعات الدفاعية الفرنسية، ومن بين أدواته -كما توضح كالكاليست- منع مشاركة الشركات الإسرائيلية في معارض السلاح في فرنسا خلال العامين الأخيرين.
الحكومة الإسرائيلية “منفصلة عن الواقع”
وفيما تتسارع الأحداث، لا يبدو أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، تُولي اهتماما جديا لما يجري. فالصحيفة تنتقد بشدة انشغاله بمحاولات إقالة المستشارة القضائية للحكومة، وترتيب إعفاء المتدينين من التجنيد، في وقت “ماتت فيه الحرب عسكريا لكنها تُبقي ائتلافه السياسي على قيد الحياة”، بحسب التعبير الحرفي لتقرير كالكاليست.
وتضيف الصحيفة أن إسرائيل، تحت حكم نتنياهو، أصبحت قريبة من “تطبيع التسونامي الدبلوماسي”، معتبرة أن الحكومة تتعامل مع الانهيار السياسي المتسارع ببرود مريب، بينما “تصريحات وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش -من الدعوة إلى محو غزة، إلى أحلام التوسع الاستيطاني فيها- تُعقد وضع إسرائيل أمام القانون الدولي أكثر فأكثر”.
حتى ألمانيا بدأت تنفض يدها
وحتى برلين -الحليف الأوثق تاريخيا- لم تسلم من التوتر، بعدما وصف بن غفير موقف ألمانيا بأنه “عودة لدعم النازية بعد 80 عاما من المحرقة”، وذلك ردا على نية ألمانيا الانضمام لمجموعة الدول الأوروبية التي تعتزم الاعتراف بدولة فلسطين، وفق ما نقلته كالكاليست.
وتشير الصحيفة إلى أن الانتقادات الأوروبية لا تقتصر على السياسة فقط، بل تمتد إلى طريقة تعامل إسرائيل مع الإعلام. فقد منع الجيش الإسرائيلي دخول صحفيين أجانب إلى غزة، وطلب من طواقم التصوير الغربية، المرافقة للطائرات التي تلقي مساعدات إنسانية، “عدم توثيق حجم الدمار الواسع في القطاع”، وفق ما أفادت به كالكاليست.
الصناعيون.. الأزمة تتضخم يوميا
رئيس اتحاد الصناعيين في إسرائيل، رون تومر، يلخص الأزمة قائلا للصحيفة: “نواجه موجة عداء مضاعفة ضد إسرائيل، مضاعفة بمفعول الستيرويد. إذا كنت أتلقى مكالمتين أسبوعيا من مصدرين يشتكون من أوروبا، الآن تصلني 3 يوميا، والعدد بازدياد”.
وانتقد تومر الوزراء الذين يطلقون تصريحات نارية من دون إدراك لتبعاتها، قائلا: “بعدما أعلنوا أنه لن يدخل حبة قمح إلى غزة، اضطررنا لإلقاء المساعدات من الجو، فجمعنا الخزي مرتين: لم نمنع الجوع، وخسرنا صورتنا الإنسانية”.
عزلة في آسيا.. الفلبين نموذجا
الضرر لا يقتصر على أوروبا، ففي آسيا، ورغم زيارة وزير الاقتصاد نير بركات للفلبين مؤخرا، تشير كالكاليست إلى استمرار أزمة ثقة مع مانيلا.
فقد سبق أن كشفت الصحيفة عن تعليق عقود تسليح جديدة بسبب تأخر في تسليم معدات إسرائيلية، نتيجة أولوية احتياجات الجيش الإسرائيلي في غزة، ما أغضب الفلبينيين الذين ربطوا استئناف العلاقات بإعلان إسرائيل دعمها لسيادة الفلبين في بحر جنوب الصين .
وفي صفقة دفاعية كبرى تتنافس فيها شركة إسرائيلية، تؤكد كالكاليست أن “شركة فرنسية باتت الأقرب للفوز بها”، بينما لم تُطرح الأزمة حتى على طاولة النقاش خلال زيارة بركات، بحسب تأكيد مكتبه للصحيفة.
وفي ختام التقرير، تنقل كالكاليست تحذيرا واضحا: الأسواق التي تفقدها إسرائيل اليوم، قد لا تستعيدها حتى بعد وقف الحرب. فالتآكل لا يضرب فقط الصفقات والمؤتمرات، بل الثقة نفسها، والعودة إلى “روتين الأعمال” بعد هذه العاصفة قد تكون مستحيلة.