تقول الحكاية، التي تمتلك جذورا ضاربة في التاريخ القديم للجزيرة العربية، إن سعد كان أحد أمراء البادية، وقد قرر السفر مع جمع من رجاله خلال منتصف إلى أواخر فصل الشتاء. قبل السفر نصحه والده بأنه إذا هبت الرياح الجنوبية واضطرب الجو وحل البرد الشديد والمطر الغزير فليذبح سعد ناقته وليتخذ من جلود النياق مأوى من لحمها طعامًا هو ورفاقه.

وبعد أن قطع بطل القصة نصف الطريق، تغير الجو بشكل مفاجئ وأصبح باردًا جدًا وهطلت الأمطار بغزارة، هنا تذكر سعد أن يذبح ناقته، ثم يحتمي بأحشائها من شدة البرد ومن هنا جاء اسم “سعد الذابح”. بعد أيام، شعر سعد بالجوع ولم يكن أمامه إلا أن يأكل من لحم الناقة، وبذلك أصبح “سعد بُلع”.

وبعد أن انتهت البرودة والمطر وأشرقت الشمس فرح سعد واحتفل بنجاته فأصبح “سعد السعود”، بعد ذلك قام سعد بصناعة معطف من وبر الناقة ووضع من لحم الناقة المتبقي في جعبته، خوفًا من أن تأتي موجة الطقس القاسي مرة أخرى، وسمي بذلك “سعد الخبايا”.

السعود الأربعة التي سبق ذكرها هي الأشهر بين الناس، وهي تمثل طريقة استخدموها قديمًا لتلخيص حوالي 50 يومًا من الطقس المتقلب بين الشتاء والربيع، وكانت تلك الحكايات وسيلة لنقل المعارف بين الناس، في وقت لم تكن فيه نشرات الأخبار وقسم الطقس بها شيئًا طبيعيا.

لكن هل تعرف أن هناك منطقة في سماء الليل تمتلك 10 نجوم تحمل في علم الفلك المعاصر ومراجعه وأطالسه اسم سعد، بشكل يتوافق تماما مع تلك القصة العربية القديمة؟

ربط الناس قديما حياتهم بالنجوم، وبشكل خاص في الصحراء، فاستخدموها للتعرف إلى الطرق أثناء السفر ولاستطلاع حالة الطقس، وربطوها كذلك بالثقافة الدارجة (بيكسابي)

مواسم العرب

ربطت العرب قديما بين المواسم المناخية ومجموعات النجوم، فكان ظهور نجوم الثريا في السماء على سبيل المثال إشارة إلى الحر القريب، ونجم سهيل كان إشارة إلى اقتراب الطقس البارد، وهكذا كانت هناك نجوم تحمل اسم سعد في ذلك الزمن القديم، وتشير إلى المواسم الواقعة من الشتاء للربيع.

والواقع أن العرب قديما عرفت عشرة سعود، 4 منها لها علاقة بالمواسم المناخية تحدثنا عنها، و6 ليست كذلك، هي سعد ملك وسعد مطر وسعد الهمام وسعد البهام وسعد بارع وسعد ناشرة.

وحاليًا، إذا كنت طالبا في علم الفلك في إحدى الجامعات الأوروبية أو الأمريكية مثلا، وكان عليك ان تفتح أحد أطالس النجوم في مكتبة الجامعة لتستذكر تلك المنطقة من سماء الليل لإعداد بحث ما، ستجد نجوما باسم: سعد الهمام (Homam) وسعد البارع (Sadalbari) وسعد البهام (Biham) وسعد مطر (Matar) (في كوكبة الفرس الأعظم)، وسعد الذابح (Dabih)، وسعد ناشرة (Nashira) (في كوكبة الدلو) وسعد بلع (Albali) وسعد السعود (Sadalsuud) وسعد ملك (Sadalmelik) وسعد الأخبية (Sadachbia) (في كوكبة الدلو).

ما سبق من أسماء موثق من قبل الاتحاد الدولي لعلم الفلك لأسماء النجوم، وهو الجهة العلمية الوحيدة المخولة بتسمية النجوم، وتستخدمه كتب الفلك والأطالس المعاصرة.

ميدان - العرب قديما
ربطت العرب قديما بين المواسم المناخية ومجموعات النجوم (مواقع التواصل الاجتماعي)

تاريخ قصير للنجوم

هناك ملايين النجوم التي يعرفها العلماء، والتي تسمى عادة بأحرف أو أرقام غير مفهومة للعامة، لكن عدة مئات من هذه النجوم تتخذ اسما طبيعيا مثل النجوم السابقة لأن لها علاقة بالتراث القديم.

والواقع أن الأمر لا يتوقف فقط على نجوم سعد، ولكن أكثر من ثلثي النجوم التقليدية المعروفة تمتلك اسمًا عربيا (ما يزيد عن مئتي نجم)، يرتبط بحكايات قديمة من جزيرة العرب، فكيف انتقلت هذه الأسماء التي ابتكرت قبل آلاف السنوات من هناك إلى أطالس النجوم المعاصرة؟.

حسنًا، لفهم الأمر نحتاج أن نرجع إلى الماضي قليلا، بدأ الأمر من اليونان القدماء الذين قدموا أول فهارس للنجوم (وهي قوائم بأسماء النجوم وإحداثياتها وكوكباتها)، وأشهرهم هو كلوديوس بطليموس، والذي عاش قبل نحو ألفي عام قرب مدينة الإسكندرية المصرية.

في كتابه “المجسطي” قسم بطليموس السماء ليلا في 48 مجموعة نجمية (كوكبة) واضحة المعالم، مع 1022 نجما موزعة عليها، لكن النجوم في كتابه كانت تسمى بجمل كاملة مثل “النجم الذي يقع إلى شمال كذا”، أو “النجم الذي عند الذيل”.

أحد أهم من درسوا هذا الكتاب كان الصوفي، قبل نحو ألف سنة، فعمل على ترجمته وتعديل أخطائه، ولكنه بينما كان يعمل وجد أن بطليموس يتحدث عن نجوم يعرفها العرب القدماء، فقرر إضافة هذه الأسماء إلى هذا الفهرس الجديد، والذي نعرفه الآن باسم صور الكواكب الثمانية والأربعين أو صُوَرُ الكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ.

صور الكواكب لأبي الحسين عبد الرحمن بن عمر الرازي المعروف بالصوفي (الجزيرة)

كتاب الصوفي

ولد عبد الرحمن بن عمر الرازي المعروف بالصوفي في مدينة الري (أضحت اليوم جزءا من الجنوب الشرقي لمدينة طهران في إيران) سنة 903 ميلادية وتوفى 986 ميلادية. حيث كان البويهيون يتمتعون بنفوذ قوي في الدولة العباسية. حظي الصوفي بثقة الملك عضد الدولة بن بويه وصار من العلماء المعتمدين لدى البلاط، حتى أنشأ له الملك مرصدا خاصا به في شيراز لمراقبة السماء وإنجاز اكتشافاته العلمية، وقد قضى الكثير من الوقت في هذا المرصد.

قام الصوفي بدراسة كتاب المجسطي بعناية ثم أخرج كتابه الشهير “صور الكواكب الثابتة”، وقسَّمه إلى 3 أقسام، يضم القسم الأول تعليقات على فهرس بطليموس مع تصحيحات متفرقة لأحجام النجوم، بينما يتناول القسم الثاني المواد المستمدة من التراث الفلكي العربي ويحدد أسماء النجوم باللغة العربية. أما القسم الثالث فيتضمن فهرس النجوم، وقد أضاف الصوفي نجوما جديدة لم تكن موجودة فيما سبق من فهارس.

هذا الكتاب يجعل من الصوفي واحدا من علامات تاريخ علم الفلك، وأظهر هانز شيلدروب، الفلكى الدانماركي الشهير الذي درس النجوم في القرن الـ19 الميلادي أهمية وعظمة كتاب الصوفي حيث بين كيف نقد وصحح أرصاد بطليموس السابقة للنجوم.

وثبت أن المجلد الأول من جداول طليطلة التي كتبت بناء على طلب ألفونسو العاشر ملك قشتالة في القرن الـ13 كانت تحريرا لكتاب الصوفي ومن بعدها ترجمة إيطالية، وكان كتابه منتشرا في العالم اللاتيني بشكل ملحوظ، وإلى الآن تظل هناك العشرات من المخطوطات لكتاب الصوفي المنتشرة في مناطق متفرقة من العالم الأوروبي.

حينما انتعشت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية في عصر النهضة (حوالي 1500 ميلادية)، قام فلكيون مثل بيتروس أبيانوس بترجمة كتاب الصوفي، والذي عد في تلك العصور واحدًا من العلامات الرئيسية الغاية في الشهرة.

ومن تلك النقطة انتقل ذلك التراث إلى العالمية، ولأن أسماء النجوم العربية أبسط وأسهل في الاستخدام، حيث تكونت من كلمة واحدة غالبا، مثل “الفرد” ويمثل أحد نجوم كوكبة الشجاع أو “يد الجوزاء” وهو في كوكبة الجبار، ولأنه كانت هناك ثقة واسعة في أعمال الصوفي الفلكية خلال تلك الفترة، فقد استخدمت مع رسوم المجسطي التي كانت أوضح في تداخل مميز، ضم أسماء النجوم في التراث العربي، وصورة الكوكبة اليونانية.

لكن هل يعرف أحد أي شيء عن جذور أسماء هذه النجوم ومعناها؟ الإجابة عن هذا السؤال هي للأسف “لا”. وبينما تنتشر حكايات الكوكبات اليونانية بين متخصصي وهواة علم الفلك، لا نجد الكثير من حكايات النجوم العربية.

جانب من كتاب الصوفي (ويكيميديا)

تراث يستحق ما هو أكثر

والأمر يمتد بالطبع لما هو أعمق من التمظهر الثقافي لأسماء النجوم في الكتب، حيث تصوّر بعض كتب تاريخ علم الفلك ما حدث بين بطليموس من جهة، وكوبرنيكوس من جهة أخرى، وبينهما العصور المظلمة الأوروبية، وكأنه قفزة فكرية شاسعة، إلا أن المتأمل لتاريخ تطوير هذا العلم في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية سيعرف أن الأمر لم يكن كذلك!.

في كتابه “العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية” يشرح الدكتور جورج صليبا، وهو مفكر لبناني الأصل مقيم بالولايات المتحدة الأميركية يعمل أستاذا للعلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا، كيف أن العرب لم يقوموا فقط بترجمة العلوم من المناطق المحيطة بهم ومنها كتاب بطليموس، بل تفاعلوا معها وأضافوا لها، سواء بالتعمّق أو التصحيح أو ابتكار الأدوات، وأن ذلك يظهر، أكثر ما يظهر، في علوم الفلك.

يمكن أن نلاحظ ذلك بوضوح في مساهمات العرب في انتقال الفلك من التنجيم ليصبح علمًا يشبه صورته الآن، والانتقال الجوهري من عالم التنظير إلى التجريب، والأدوات التي طورها العرب أو ابتكروها كانت خير مثال على ذلك، وأهمها لا شك الاسطرلاب.

يظهر ذلك أيضا في قياسات محيط الأرض ومواقع النجوم وعلوم المواقيت، والواقع أن حاجة الدولة الإسلامية في ذلك الوقت لهذه العلوم مفهومة، سواء من ناحية إدارية واقتصادية (الحاجة لقياس مساحات الأراضي وكم المزروعات مثلا) أو شرعية (حساب مواقيت الصلاة وهو الأمر الذي بات معقدًا بعد توسع العالم الإسلامي لخطوط عرض وطول مختلفة).

ما يحدث إذن في حالة أسماء النجوم العربية ليس إلا جزءا بسيطا من حكاية كبيرة تتطلب إعادة الصياغة، كي يوضع أبطالها الحقيقيون في أماكنهم التي يستحقونها، سواء كانوا من سكان الأساطير مثل سعد، أو العالم الواقعي على حدٍ سواء!.

شاركها.
Exit mobile version