من الأمور اللافتة في تاريخ غزة الحديث أنها واجهت منذ الحرب العالمية الأولى وإلى اليوم كل الأشكال المختلفة للاحتلال والتهجير والإبادة.
مرّ أكثر من 100 عام ولا تزال المدينة صامدة صمودا لافتا رغم التدمير والخراب الواسع الذي قامت به القوات الإسرائيلية في حربها الأخيرة على القطاع، فضلا عن العدد الضخم من القتلى والجرحى، الأمر الذي جعل محكمة العدل الدولية تصف ما وقع بالإبادة الجماعية!
معارك غزة أمام الإنجليز
في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) تداخلت الأحداث واشتعل الصراع بين القوى الدولية التي كانت تتصارع على تركة الدولة العثمانية.
وحين كانت مصر تمثل محور التوازن في الشرق الأوسط، ونكاية بالعثمانيين الذين تحالفوا مع الألمان أعداء بريطانيا، فإنها فرضت الحماية على مصر وأطاحت بالخديوي عباس حلمي الثاني الموالي للدولة العثمانية.
ولم تكتف بريطانيا بذلك، بل أجبرت رئيس الوزراء المصري آنذاك، حسين رشدي باشا، على إعلان دعم الحكومة المصرية لبريطانيا في الحرب ضد العثمانيين، وذلك في أغسطس/آب 1914.
وقد مثلت هذه الخطوة البريطانية إلغاء فعليا للسيادة العثمانية القانونية على مصر التي استمرت قرونا، وهو ما دفع العثمانيين إلى السعي لاستعادتها عبر تحالفهم مع الألمان، ولتحقيق ذلك جهّز العثمانيون وحلفاؤهم حملة عسكرية كبيرة انطلقت من سوريا وفلسطين في عام 1915م، لكنها مُنيت بهزيمة على يد الجيشين المصري والبريطاني.
وفي العام التالي، 1916م، جرت محاولة أخرى، إلا أنها انتهت بهزيمة قاسية جديدة أجبرت العثمانيين على التراجع إلى فلسطين، تاركين سيناء ساحة مفتوحة أمام التقدم البريطاني.
في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، وصلت القوات البريطانية إلى العريش لتجدها خالية من أي وجود عثماني، إذ انسحب العثمانيون عمدا لإيقاع قوات الحلفاء في كمين قد أعدّوه مسبقًا، حيث تمركزوا بالقرب من مصدر مياه حيوي، وعندما تحركت القوات البريطانية نحو المياه تعرضت لهجوم مفاجئ أدى إلى خسائر فادحة استمرت على مدى يومين.
وكادت المعركة أن تُحسم لمصلحة العثمانيين، غير أن وصول تعزيزات بريطانية قلب الموازين وأجبر العثمانيين على التراجع نحو غزة وبئر السبع، مما مهد الطريق أمام السيطرة البريطانية الكاملة على سيناء التي كانت لا تزال تحت الحكم العثماني.
معركة غزة الأولى
يقول عمر الديراوي في كتابه “الحرب العالمية الأولى” تابعَ البريطانيون تقدّمهم نحو رفح على الحدود مع غزة في 9 يناير/كانون الثاني 1917، وخلال الأشهر الثلاثة التالية قام الجنرال أرشيبالد موراي بحشد قوة ضخمة على مشارف غزة قوامها 200 ألف مقاتل.
وفي مارس/آذار من العام نفسه، أطلق هجومه على غزة في ما عُرف لاحقًا “بمعركة غزة الأولى” التي مُني فيها بهزيمة ثقيلة.
ورغم محاولته تبرير الهزيمة، طلب الجنرال موراي تعزيزات كبيرة استعدادا لمعركة جديدة، إذ لم تبتعد القوات البريطانية كثيرا عن وادي غزة.
وبعد 3 أسابيع، اكتملت هذه التعزيزات لتنطلق مواجهة جديدة شاركت فيها القوات البريطانية من البر والبحر.
غير أن العثمانيين وحلفاءهم الألمان كانوا متمركزين في غزة بتحصينات قوية، مدركين أهميتها الإستراتيجية في مجرى الحرب؛ فبعد خسارتهم سيناء بالكامل إثر هزيمتهم مرتين في قناة السويس أيقنوا أن سقوط غزة سيجعل الطريق إلى القدس مفتوحا، مما يعني فقدان فلسطين بأكملها.
![Officers of the regiment that successfully defended Gaza during the first battle.](https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2025/02/1st_GazaOfficers00115v-1739270663.jpg?w=770&resize=770%2C533)
معركة غزة الثانية
يرصد المؤرخ الأميركي كريستيان كوتس في كتابه “الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط” أنه في 17 أبريل/نيسان 1917 بدأت معركة غزة الثانية مع تقدم القوات البريطانية والفرنسية وحلفائهما نحو وادي غزة.
ورغم التفوق العددي الكبير للبريطانيين، فإن العثمانيين تمركزوا بمهارة في مواقع إستراتيجية منحتهم سيطرة قوية على مصادر المياه التي دافعوا عنها بشراسة.
وكما يرصد عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة” فقد لعب السكان العرب في غزة دورا مهما في دعم العثمانيين، إذ قدموا لهم الغذاء والملابس لمساعدتهم على تحمل الظروف القاسية كالعواصف الرملية. وفي المقابل، ألحقت المدفعية والرشاشات العثمانية خسائر فادحة بالقوات المهاجمة، مما جعل التقدم البريطاني مكلفا للغاية.
وعلى مدار 3 أيام من القتال، كانت كل محاولة اختراق بريطانية تقابلها مقاومة شرسة وسقوط مزيد من القتلى. ومع تزايد الخسائر، اضطر الجنرال موراي إلى إصدار أوامر بالانسحاب مساء 20 أبريل/نيسان، متراجعا إلى مواقع بعيدة عن غزة وتضاريسها التي استخدمها العثمانيون بذكاء لتعزيز دفاعاتهم.
معركة غزة الثالثة
يرى ديفيد فرومكين في كتابه “سلام ما بعده سلام” أن هذه الهزيمة أدّت إلى صدمة في القيادة البريطانية دفعت الحكومة إلى إعفاء موراي من منصبه بسبب فشله في تحقيق أي تقدم حاسم.
وفي تلك الفترة، كان رئيس الوزراء البريطاني الجديد لويد جورج من أشد المؤيدين لاتفاقية سايكس-بيكو التي أُبرمت العام السابق، وكان من أبرز الداعمين لفكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ومع هذا التغير في القيادة السياسية، أعادت بريطانيا تقييم إستراتيجيتها العسكرية، وقررت استبدال موراي بقائد أكثر قدرة على تحقيق أهدافها، حيث وقع الاختيار على الجنرال إدموند اللنبي، أحد أبرز قادة سلاح الفرسان، الذي أظهر براعة قيادية في الجبهة الفرنسية.
اعتمدت خطة اللنبي لاحتلال غزة على عنصر الخداع بشكل أساسي، إذ لجأ إلى حيلة تكتيكية أوحت للعثمانيين بأنه يهاجم غزة، بينما نفذت قواته مناورة التفاف حولها. وبشكل سريع، قطعت القوات البريطانية الصحراء باتجاه بئر السبع بهدف السيطرة عليها أولا، مما سمح لهم بفرض حصار غير مباشر على غزة وقطع خطوط إمداد العثمانيين.
وقد جاءت هذه الخطة بنتائج فورية، إذ فاجأت القوات العثمانية التي وجدت نفسها في حالة ارتباك وفوضى أجبرتها على التراجع.
أخيرا استطاع البريطانيون احتلال فلسطين ودخول القدس بحلول عيد الميلاد في ديسمبر/كانون الأول 1917 الأمر الذي اضطر العثمانيين معه إلى الانسحاب نحو سوريا ثم إلى الأناضول فيما بعد، وتم تقسيم تركة الدولة العثمانية في هذه المنطقة بين البريطانيين والفرنسيين.
وقد سمح الاحتلال البريطاني بتسريع هجرة اليهود خاصة بعد وعد بلفور إلى فلسطين، وطوال مدة الانتداب البريطاني تمكن اليهود من ترهيب الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم بالقتل والاختطاف وإجبارهم على النزوح.
معارك النكبة
شكّل قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في أواخر عام 1947م صدمة عميقة في المنطقة، لا سيما أنه جاء بدعم القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، ليكرّس واقعا جديدا ضد تطلعات الفلسطينيين، وليفرض بحكم القوة الجبرية قيام دولة إسرائيل واستمرارها.
وقد تزامن هذا القرار مع تصاعد النشاط الصهيوني المسلح من خلال منظمات مثل الإرغون والهاغاناه وغيرها التي نفذت عمليات قتل وتهجير بحق الفلسطينيين وارتكبت العديد من المجازر، أشهرها مذبحة دير ياسين، ولم يكن أمام الفلسطينيين سوى تشكيل مجموعات مقاومة بمشاركة متطوعين من مصر وسوريا والأردن وغيرها للدفاع عن أرضهم.
ومع إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين في مايو/أيار 1948، قررت جيوش 7 دول عربية، هي مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية واليمن، التدخل لدعم الفلسطينيين في معارك النكبة.
في تلك الأثناء شهدت غزة -التي نزح إليها آلاف من أبناء فلسطين الهاربين من بطش العصابات الصهيونية- محاولات مستميتة من هذه العصابات لاحتلالها وتهجير أهلها منها إلى مصر، الأمر الذي اضطر الجيش المصري إلى الدخول لغزة ومحاولة الحفاظ عليها من السقوط في أيدي الصهاينة فضلا عن مناطق قريبة منها مثل بئر سبع والمجدل وغيرها.
وكما يرصد المؤرخ المصري عبد الوهاب بكر في كتابه “الجيش المصري وحرب فلسطين”، فإن الجيش المصري كان يعاني في تلك الفترة ضعفا شديدا نتيجة للإهمال الممنهج الذي مارسه الاحتلال البريطاني في مصر على مدى سنوات، إضافة إلى تجاهل الحكومات المتعاقبة لتطويره وتحديث معداته.
ونتيجة لذلك دخلت القوات المصرية معارك فلسطين في 15 مايو/أيار 1948 بعتاد محدود وقدرات متواضعة، في ظل غياب أي إمدادات كافية من الداخل أو الخارج لتعويض ما يُستهلك في القتال.
وقد انعكس ذلك بشكل واضح على سير العمليات العسكرية، إذ تقدمت القوات بقيادة اللواء أحمد علي المواوي دون دعم مدرع كافٍ، ووسط غياب خطة إستراتيجية واضحة لإدارة الحرب والمعارك.
اللواء أحمد فؤاد صادق وإنقاذ غزة
مع هذه الهزائم قررت القيادة السياسية والعسكرية في مصر أن تُقيل اللواء المواوي لتعين مكانه اللواء أحمد فؤاد صادق، وهو رجل كان يملك خبرة كبيرة عسكرية في مصر والسودان وأعالي النيل، وكان كارها للاحتلال البريطاني حتى إنه سُجن عامين بسبب تحريضه عليه، وكان مؤمنا بضرورة الاتحاد والتعاون مع المتطوعين وأهالي غزة في مواجهة هجمات العصابات الصهيونية.
عند وصول اللواء صادق إلى غزة، تمكن من ترسيخ الثقة بين القوات المصرية وسكان المدينة، كما عزز علاقته بالمتطوعين من الإخوان المسلمين الذين لعبوا دورا بارزا في القتال تحت قيادة الصاغ محمود لبيب وكامل الشريف وآخرين.
ومع اقتراب نهاية العام، وتحديدًا في 22 ديسمبر/كانون الأول 1948، أطلق الصهاينة عملية سموها “حوريب” أي العين، بهدف القضاء نهائيا على الوجود العسكري المصري في فلسطين، مستغلين حالة الجمود التي أصابت باقي الجيوش العربية.
خطّط الصهاينة لتطويق القوات المصرية من الشرق إلى الغرب وصولا إلى ساحل البحر بين رفح والعريش، بهدف عزلها عن غزة وتقسيمها إلى مجموعات صغيرة يسهل القضاء عليها؛ فقد نفذوا هجوما مخادعا على دير البلح والتبة 86، وهي نقطة إستراتيجية تُشرف على الطرق بين غزة وخان يونس والعريش، مما دفع القوات المصرية بقيادة اللواء صادق إلى الدفاع المستميت عنها.
بلغت القوات المهاجمة للتبة 86 في غزة نحو 3 آلاف جندي بقيادة ضابط روسي مخضرم، لكن المصريين والمتطوعين بقيادة كامل الشريف تمكنوا من إحباط الهجوم وإيقاع خسائر فادحة بالصهاينة، وفقا لخطة اللواء صادق.
ورغم ذلك يرى المؤرخ عبد الوهاب بكر أن الهجوم على التبة 86 كان مجرد خدعة لإشغال المصريين، بينما وقع الهجوم الحقيقي في ليلة 25-26 ديسمبر/كانون الأول 1948 عبر حركة تطويق واسعة باتجاه العسلوج والعوجة قرب بئر سبع.
وقد انهارت الدفاعات المصرية في هذه المعركة، وسيطر اليهود على كامل أراضي النقب، مما فتح الطريق إلى سيناء. ووفقا للمؤرخ الفلسطيني عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة”، فقد أباد الصهاينة الحاميات المصرية وأسروا من تبقى، بينما فرّت بعض القوات في الصحراء تحت نيران الطائرات الصهيونية.
في تلك الأثناء تلقى اللواء صادق أوامر من وزير الحربية المصري حيدر باشا بالانسحاب من غزة قبل بدء الهجوم الصهيوني على التبة 86 في 23 ديسمبر/كانون الأول.
وكما يعترف اللواء صادق لمؤرخ فلسطين عارف العارف في لقاء جمعهما معا عقب الحرب، فإنه رفض تلك الأوامر وأرسل إليه قائلا: “ازاي (كيف) أنسحب وأسيب (أترك) ربع مليون من إخواني أهل غزة كالفراخ (الدجاج) يذبحهم اليهود وينتهكون أعراضهم؟ أتريدني أن آخذهم معي إلى العريش؟ أم أدافع عن رفح؟ كلا لن أنسحب مهما كانت النتيجة”.
وكان لهذا الصمود من القائد المصري والمقاومة الباسلة للمتطوعين المصريين والفلسطينيين الدور الكبير في منع سقوط قطاع غزة طوال سنوات حتى العدوان الثلاثي عام 1956 ثم النكسة والاحتلال الإسرائيلي للقطاع، قبل أن يضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون إلى الانسحاب من غزة في عام 2005.
طوفان الأقصى والصمود الكبير
شهد القطاع منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا 7 حروب إسرائيلية 5 منها كانت بأمر رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو.
وقد أدت معركة طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى إعلان نتنياهو وقادته عن عملية السيوف الحديدية بهدف تدمير حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وأخيرا تحقيق مشروع التهجير مع التدمير الواسع الذي شهده القطاع طوال 15 شهرا كاملا.
وقد تحول الهجوم الإسرائيلي إلى واحدة من أكثر حملات القصف دموية وتدميرا في التاريخ الحديث، ففي أثناء الغزو نفذت القوات الإسرائيلية مجموعة حملات عسكرية، أبرزها هجوم رفح منذ مايو/أيار 2024، و3 معارك حول خان يونس، وحصار شمال غزة المستمر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وأسفرت الهجمات الإسرائيلية عن مقتل ما لا يقل عن 47 ألف فلسطيني، أغلبهم من النساء والأطفال، وتدمير واسع في القطاع.
ورغم ذلك صمدت المقاومة في غزة ولعبت دورا كبيرا في تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة، فوفقا لتقرير نشرته الجزيرة نت وبثته القناة 12 الإسرائيلية نقلت فيه تصريحات اللواء إيال زامير رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد بأن 5942 عائلة إسرائيلية جديدة انضمت إلى قائمة الأسر الثكلى خلال عام 2024، بينما تم استيعاب أكثر من 15 ألف مصاب في نظام إعادة التأهيل.
تلك أبرز محطات غزة طوال أكثر من قرن وصمودها أمام المحتل البريطاني ثم الإسرائيلي، وهو قرن طويل عانت فيه غزة من الحروب تلو الأخرى، ورغم ذلك صمد الغزّيون على مرّ أجيالهم المختلفة أمام مخططات التهجير والاحتلال والإبادة، بكل أشكال المقاومة رغم قلّتها وضعفها مقارنة بالعدد والعتاد الذي امتلكه الخصوم.