شكّلت وسائط الاتصال الحديثة طفرةً في أنماط التواصل ونقلةً نوعية في مجال الإعلام، مما انعكس على الحياة الإنسانية برمتها من خلال التقريب بين مختلف الشعوب والثقافات، ومدّ الجسور بين المجتمعات داخل الكوكب. وكان التحوّل الحاصل تعبيرًا عن ثورة ثقافية عارمة انهدمت معها أسوار وحواجز ليس فقط في عالم الاتصال والتواصل، بل في منحنيات الوعي والفكر أيضًا.
هذا ما دفع عددًا من الباحثين والمختصّين للتعبير بإعجاب كبير عن المساحات الجديدة لحرية التعبير والرأي التي انفتحت أمام شرائح واسعة ظلّ صوتها مهمّشًا ومبعدًا. لكن من جانب آخر، لا تنفكّ الوقائع تؤكد أن حرية التعبير في وسائط التواصل مجرد وهْم، وأن شبكات التواصل الاجتماعي في عمومها لا تنفصل عن نزعة الهيمنة، بل هي أداة من أدوات الضبط وإعادة صياغة التمثلات والآراء لتنساق مع خيارات مراكز القوّة والهيمنة على العالم.
وقد ظهر ذلك بوضوح في العدوان الحالي على غزة وفلسطين، والحرب الروسية الأوكرانية، كما جسّد اعتقال مؤسّس تليغرام في باريس – قبل أن يُفرج عنه بكفالة – مثالًا حيًّا لزيف حرية التعبير ورفض حياد مواقع التواصل الاجتماعي.
الانحياز لسرديات مراكز القوة
ظلت وسائط التواصل تحمل الكثير من الإغراء لما يمكن أن تتيحه من أفق للحرية في النقد والتعبير، إلى أن جاءت الأحداث الأخيرة في فلسطين والصّراع الدائر في أوكرانيا لتصبح أداة مباشرة في التضييق على الآراء المعبرة عنهما والتي تعبّر عن تضامنها مع الفلسطينيين ضد الإبادة الجماعية والتقتيل والتشريد، أو تلك التي ترفض الانسياق خلف السرديات السائدة في عددٍ من مناطق النزاع.
لكن آليات الرقابة قد اشتدت بكثافة على المناهضين للحرب، وبدل أن تكون هذه الوسائط فضاءات للتّضامن الإنساني الحر، وكشف الحقائق التي تدور وقائعها على الأرض، من أجل وضع حدّ للمأساة، تحوّلت إلى أداة ووعاء يعبّران عن رؤية وموقف واحد، وهو موقف لا ينفصل عن المواقف السياسية المنحازة لإسرائيل والسردية الإسرائيلية على حساب الحق الفلسطيني.
لم يقف الأمر عند حدود الانحياز وممارسة الرقابة على المنشورات، ما يعد انتهاكًا لحرية الرأي والتعبير، سواء في العالم الافتراضي أو الواقعي؛ إذ برز فيه توظيف السلطات الحكومية للمعلومات المتحصلة في التضييق على النشطاء والفاعلين، بل تجاوز ذلك إلى فرض رؤية بعينها في عددٍ من الدول، ورفض الحياد الذي مارسته بعض تلك الوسائط، كما حدث مع مالك تطبيق “تليغرام” من طرف السّلطات الفرنسية قبل أسبوع.
وعلى الرغم من إضفاء بُعد قانوني على الاحتجاز، فإن الأمر ينطوي على هواجس سياسية ترتبط بالخوف من الحياد الذي ينهجه التطبيق وسياسة الخصوصية التي تضمن حدًا أدنى من الحرية في التواصل بين مستخدميه، مما يسمح بسرديات وروايات معينة بالانتشار. وفي الآن ذاته، يمثل عدم ممارسة الرقابة الفجّة التي ينتهجها عدد من شركات الاتصال، قلقًا لأنساق سياسية بات هاجسها الرئيسي خاضعًا للبعد الأمني وآليات الضبط والإخضاع الناعم.
ثورة ثقافية مناهضة لحرية الرأي
لفهم الأدوار التي تضطلع بها وسائط التواصل في المنظومة الحديثة، ينبغي الوعي بأن الانخراط في الزمن الحديث لا يعني بالضرورة الالتزام بالمفاهيم والقيم المتداولة في الفضاء العمومي، وفي الأوساط الأكاديمية والثقافية.
فقد أبدع العقل الإنساني في صياغة النظريات حول المنطلقات المركزية التي شكلت وعاء الحداثة والتقدم، لكن تمثلات تلك الأسس والتطور الذي وقع في المجالات التقنية والبيروقراطية، أفرغت مضامينها الخطابية من الأثر العملي في الواقع الإنساني. ومن ثم فإن التقدم في التقنية ووسائط الاتصال لم يكن منذرًا بعصر وردي للحرية والمساواة ورقيًّا في مدارج الإنسانية، وإنما شكل هدرًا للحرية وتبديدًا لعذرية القيم والمبادئ التي انشغل بها فلاسفة التنوير، وكانت أملهم في تحقيق فردوس أرضي يخدم الإنسان ولا ينتهك حرمته.
أي أن الجهاز البيروقراطي مع الدولة الحديثة بقدر ما أسهم في التنظيم الاجتماعي وعقلنة ممارسة السلطة، فإنه في الآن ذاته قد فرض هيمنته على الإنسان والمجتمع، وانتهك خصوصيته وأفقده قدسيّته.
وبالمثل؛ كانت التقنية أداة في ممارسة الضّبط وتطويع الإنسان وانتهاك حرمة الطبيعة، مما وَلّد أزمة إنسانية كبرى، وجينات هذه الأزمة بنيوية ترتبط بالنموذج وأسسه المعرفيّة، وليست عرضية متعلّقة بممارسات بعينها.
أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مع الثورة الثقافية الراهنة ذات وظائف مزدوجة تخدم الدولة والسوق على السواء، مما يجعلها أداة لضبط وتحكم ناعم في اختيارات الإنسان
فالنموذج الحديث بطبيعته، وبالرغم من بعض إيجابياته، يحمل في ذاته عناصر تدمير للحياة الإنسانية، سواء بالوسائل الخشنة التي تستعمل في الحروب التقليدية، أو الناعمة، والتي من ضمنها وسائط التواصل والإعلام الخاضع لمركب الهيمنة الاقتصادي والسياسي والثقافي.
وفي طليعة هذا المركب الولايات المتحدة الأميركية والدول المرتبطة بها، أو الشّركات العابرة للحدود والتي يحكمها منطق السوق، وترتبط ارتباطًا عضويًّا بالاقتصاد والمصالح الأميركية، ولا تنفصل عن أدوات الهيمنة الثقافية السياسية والأمنية على العالم.
أي أن هذه الوسائط ليست جسور تواصل وحسب، وإنما هي من صميم شبكة تسيّج الإنسان والعالم، تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والأمنية. ومن ثم فإن جانبًا من الصراع مع الصين – وغيرها – هو صراع من أجل مستقبل الإنسان والهيمنة على العالم، ورسم خياراته في مناحي الوعي، والجغرافيا السياسية والثقافية والاقتصادية.
إذ إنه ما دام التحول قد حصل خارج عقال الأخلاق ومن منطلق الأخلاق الوضعية، فإنها لم تعد هناك محرمات أو خصوصية إنسانية أو مقدسات، ولن يكون هناك مجال لهذا الجانب في صراعات المستقبل التي تدور رحاها في المنظومة المعلوماتية.
كما أن الآدمي المكرم لم يعد يحمل أي معنى للتكريم في ظل صيرورة النسبية المطلقة، وإغراق العالم بالأشياء التي تغذي في الإنسان نزعة الاستهلاك وتجعله هدفًا للسوق. ووسائط الاتصال لها ارتباط وثيق بمراكز القوة، وإن كان لها دور فعّال بشكل معاكس في تعبئة الرأي العام، وكشف تناقضات النسق المهيمن، كما هو حال القضايا العادلة.
لقد كان هناك وعي فلسفي مبكّر بخطر وسائط الاتصال الحديثة قبل أن تظهر شبكات التواصل الاجتماعي، وقد اتجه هذا الوعي النقدي إلى الأسس التي انبنى عليها النموذج الحديث، من خلال التمييز بين العقل النقدي والعقل الأداتي.
الصراع بين الحرية والرقابة
إن وسائط الاتصال الجماهيري كما عند هربرت ماركيوز (ينظر كتابه: الإنسان ذو البعد الواحد) تعمل على ترسيخ العقل الأداتي.
ومن ثم فإن سيكولوجيا الجمهور وتوجيه الرأي العام من خلال المؤسسات والشركات الإعلامية الكبرى لا تقدم خدمة للعقل والفكر واستقلالية الإنسان وحريته، وإنما تجعله أداة بيد النظم والمؤسسات، أي في يد الدولة الحديثة ومؤسساتها بتمرير أيديولوجيا الدولة في مرحلة معينة، كون وسائط الاتصال الجماهيري تندرج ضمن أدوات الضبط وتوجيه الوعي، أي الوعي الأيديولوجي للدولة الحديثة، والتي تحتاج إلى أيديولوجية تمارس من خلالها التنشئة والتحكم في الوعي والتمثلات واختيارات الناس، بقدر حاجتها إلى أدوات الإكراه المادي تحت مقولة: “العنف المشروع”.
لقد تطوّرت نظم الاتصال ووسائط التواصل في الأزمنة اللاحقة، إلى أن شهدنا ما أشرنا له سابقًا بالثورة الثقافية، وقد أسفر تطوّر شبكة المعلوميّات ووسائط الاتصال الشبكي عن تأثير ممتد على الاقتصاد والثقافة والسياسة.
فنحن لسنا أمام وسائط اتّصال تقرّب المسافات وتجسّر العلاقات، وتكشف الاختلالات وحسب، بل نحن كذلك أمام صناعة لوعي جديدٍ مسلوب الإرادة وفاقدٍ للحرية وخالٍ من الحسّ النقدي. فالوعي المراد إنتاجه ليس من اختيار الإنسان وإرادته الحرة، وإنما من صميم إستراتيجيات الهيمنة والتحكم في السرديات الخطابية السائدة، ومن ذلك ما يجري في نقاط الاشتباك من أجل العدالة والحرية والحقّ في فلسطين، وغيرها من بقاع الدنيا.
ختامًا:
لقد كانت وسائط الاتصال الجماهيري أداة أيديولوجية في يد الدولة توجّه الجمهور من خلالها باستخدام البروباغندا في أزمنة سابقة. وبفعل التطور التقني والثورة المعلوماتية وانعكاساتها على الحياة الإنسانية برمتها، مع التحولات التي عرفها الاقتصاد العالمي، والعلوم والمعارف، تجاوز دورها البعد الوظيفي، وأصبحت تُستخدم في خلق وضع جديد على مستوى الواقع الإنساني في أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية.
بل إنها أضحت تتحكم في تطلعات واختيارات الإنسان. وبصيغة أخرى، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مع الثورة الثقافية الراهنة ذات وظائف مزدوجة تخدم الدولة والسوق على السواء. ومن ثم، نجد طبيعة الصراع الدائر في الآونة الأخيرة حول مدى حيادية شركات الاتصال.
التقدم وما جلبه من وسائل التقنية ووسائط الاتصال لم يحقق بالضرورة وضعًا مثاليًا للحرية، وإنما يمكن القول إن التقدم في التقنية ووسائط الاتصال يواكبه تخلّف في مسار الحريات. بمعنى آخر، أصبحت هذه الشّبكات والوسائط أدوات ضبط وتحكم ناعم في اختيارات الإنسان، تساهم في تشكيل الوعي، وتوجيه الرأي العام بما يتماشى مع مصالح القوى المهيمنة على الساحة العالميّة، مما يؤكد أن وهْم حرية التعبير في شبكات التواصل الاجتماعي هو جزء من لعبة أكبر للتحكّم في الفكر والمجتمع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.