تشن إسرائيل منذ 21 يناير/كانون الثاني الماضي عملية عسكرية تحت عنوان “السور الحديدي” استهدفت خلالها مدن ومخيمات الضفة الغربية، وفي بؤرة هذا التصعيد ضد الفلسطينيين يظهر المستوطنون كأداة بيد جيش الاحتلال لتنفيذ جرائمه.
تطورت العلاقة بين جيش الاحتلال والمستوطنين من التغطية الأمنية إلى تبادل السلاح، مما جعل الجيش شريكا مباشرا في الجرائم التي يقوم بها المستوطنون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وفي ظل تصاعد هجماتهم، يبرز سؤال مركزي عن الكيفية التي يحوّل الاحتلال بها المستوطنين إلى “مليشيات نظامية” تنفذ جرائم حرب بإشراف الجيش.
العقيدة العسكرية
رغم أن تنسيق الجيش مع المستوطنين لا يعتبر جزءا من العقيدة العسكرية الإسرائيلية، إلا أنه مع زيادة سيطرة اليمين القومي والديني على مفاصل الحكم في إسرائيل، قد أدى ذلك لتعزيز العلاقة بين الجانبين.
ويؤكد تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” أن دولة الاحتلال استخدمت “جيشًا شرطيا” شبه رسمي في الضفة الغربية، يضم وحدات مشاة وشرطة حدود ومليشيات استيطانية مسلحة ومدربة من الجيش.
وقال التقرير الذي نشر تحت عنوان “كيف تخدم أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون في الضفة الغربية مصالح إسرائيل؟”: إن هذا الكيان يعمل بشكل غير رسمي على دفع مشروع هدفه فرض السيطرة على الأرض وحرمان السكان من أجل تنفيذ ضم فعلي غير معلن عبر أدوات أمنية وسياسية.
وتكشف صحيفة “نيويوركر” في تقرير لها أن نسبة كبيرة من المستوطنين الذكور في الضفة الغربية هم جنود احتياط، حيث “تشكل هذه الفئة حوالي 70% من القوات القتالية في بعض المناطق”.
وقالت إنهم يخضعون لتدريبات متكررة مع وحدات الجيش النظامي، مما يعزز التكامل الوظيفي بين المستوطنين والمؤسسة العسكرية، كما أظهر تقرير “معهد أبحاث الأمن القومي” الإسرائيلي أن 20% من ميزانية الجيش تخصَّص لحماية المستوطنات غير القانونية.
ويشرح الباحث إيغال هاروفني -في إطار تحليل طويل نشر موقع الجزيرة الإنجليزية مقتطفات منه- كيف أن “قوات أمن تعينها المجتمعات الاستيطانية يشرف عليها الجيش الإسرائيلي، وتستخدم سلطة أمنية ضد الفلسطينيين، بهدف التوسع وتغيير طبيعة المناطق المستولى عليها، ويقول إن ذلك يمثل إجراء يحمل طابعا إستراتيجيًا أكثر من كونه أمنيا صرفا.

تسليح المستوطنين
وخلال العامين الماضيين تصاعدت عمليات تسليح المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية بدعم حكومي مباشر من وزيري المالية والأمن القومي المتطرفًين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ووثقت منظمة متطوعين لحقوق الإنسان (يش دين) تسليم الجيش أسلحة وبنادق آلية للمستوطنين.
وأدى هذا التسليح إلى تشكيل “مليشيات إرهابية” مسلحة تمارس القتل والتدمير ضد السكان الفلسطينيين وتسببت في تهجير 10 تجمعات فلسطينية.
ووفق أرقام لجنة الأمن الوطني بإسرائيل تقدَّم 250 ألف إسرائيلي بطلب من أجل الحصول على رخص حمل السلاح بعد عملية طوفان الأقصى، في حين تزايد الإقبال على مراكز التدريب على استخدام السلاح، وحصل الآلاف من الإسرائيليين على سلاح لأول مرة.
وتوثق منظمة “بتسيلم” عشرات الاعتداءات التي ينفذها المستوطنون بمشاركة مباشرة مع جيش الاحتلال، كما تشير وثائق الأمم المتحدة إلى استخدام المستوطنين أسلحة حكومية في 70% من الهجمات.
كما كشف تقرير نشرته شبكة العودة الفلسطينية العام الماضي أن 80% من المستوطنين المسلحين خضعوا لتدريبات عسكرية في وحدات الجيش الإسرائيلي، مما يؤكد طبيعة هذه العلاقة التكاملية.
وفي السياق، قال تقرير لجمعية “ذاكرات” ومقرها مدينة اللد إن 85% من هجمات المستوطنين في الخليل استُخدمت فيها قنابل غاز من مخازن الجيش.
من جهتها، سجلت منظمة “هيومن رايتس ووتش” حالات نقل أنظمة مراقبة عسكرية متطورة إلى بؤر استيطانية غير قانونية، في انتهاك واضح للمادة 8 من نظام روما الأساسي.
تواطؤ الجيش
يقول الكاتب في صحيفة “هآرتس”، زيف ستهيل: إن سياسة التغاضي عن الجرائم ضد الفلسطينيين في الضفة، والتي استمرت أعواما طويلة، تحوّلت مع الحكومة الحالية إلى رسالة واضحة وصريحة تدعم وتؤيد الإجرام الأيديولوجي.
وتكشف وثائق للحكومة الإسرائيلية عن أوامر غير رسمية بـ”التغاضي” عن العنف الاستيطاني ما لم يُوثق إعلاميا.
وصرّحت قيادة لواء الضفة الغربية، المقرّبة من إيتمار بن غفير، بأن تطبيق القانون فيما يخص عنف المستوطنين ليس على رأس أولويات الشرطة، وكشفت أنه تم إغلاق 94% من ملفات التحقيق من دون تقديم لوائح اتهام ضد المعتدين.
ووثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن جيش الاحتلال حقق في أقل من 2% من هجمات المستوطنين، بينما صنفت المحكمة الجنائية الدولية 10 حالاتٍ جرائمَ حرب في تقرير لها منذ بداية العام 2025.
ويشير تقرير لمنظمة “القانون من أجل فلسطين” أن 92% من الضحايا الفلسطينيين لم يحصلوا على تعويضات بسبب سياسة “التعتيم الأمني”، كما أن 65% من القضايا المرفوعة أُغلقت بدعوى “نقص الأدلة” رغم وجود أدلة مصورة دامغة.
غيض من فيض
كشفت جلسة الهيئة العامة للكنيست قبل أيام أنه تم تسجيل 414 حادثة عُنف قومي ارتكبها مستوطنون يهود في الضفة الغربية خلال النصف الأول من سنة 2025.
ويقول ستهيل إن عنف المستوطنين أصبح أكثر خطورةً، ونتائجه أكثر فتكا، ففي العامين الأخيرَين، جرى تهجير عشرات التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية من بيوتها، وارتُكبت عشرات المذابح التي أودت بحياة فلسطينيين نتيجة عنف المستوطنين، أو نيران الجيش.
وشدد على أن كل هذه الحوادث تجري بدعم من سلطات تطبيق القانون، “فالواقع أن هناك جنودا يحمون المهاجمين وفي المقابل يهملون الفلسطينيين”.
وفي السياق، سجلت منظمة “بتسيلم” الحقوقية تأخر الجيش أكثر من 50 دقيقة عن التدخل في 95% من الهجمات، بينما يظهر تحليل فيديوهات نشرته وكالة الصحافة الفلسطينية “وفا” منع الجنود لوصول سيارات الإسعاف.
الأبعاد القانونية
تؤكد التقارير الحقوقية أن مواقف جيش الاحتلال الداعمة للمستوطنين مجرمة بنص القانون الدولي، ويُعرِّف تقرير الأمم المتحدة لعام 2023 التنسيق العسكري-الاستيطاني بأنه “تعاون منهجي بين القوات المسلحة والمجموعات المدنية المسلحة لتنفيذ انتهاكات في الأراضي المحتلة”.
وينتهك هذا التنسيق اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تنظم سلوك دولة الاحتلال تجاه السكان المدنيين في الأراضي المحتلة.
ولا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءًا من سكانها (المستوطنين) إلى الأراضي التي تحتلها، وبالتالي، فإن وجود المستوطنين نفسه مخالف للقانون الدولي، وأي تعاون بين جيش الاحتلال والمستوطنين يُنظر إليه كتعزيز لهذا الوجود غير القانوني.
كما يصنفه مركز القانون الدولي في لاهاي كجريمة حرب عندما يستهدف المدنيين بشكل ممنهج، خاصة في سياق التطهير العرقي بالضفة الغربية.
ومن ذلك ما أكدته محكمة العدل الدولية في قرارها الصادر يوليو/تموز 2024 أن التنسيق العسكري-الاستيطاني يشكل انتهاكًا جسيمًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة.
ويصنف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الاستيطان كجريمة ضد الإنسانية، في حين كشف تقرير الأمم المتحدة أن 90% من الاعتداءات تتم تحت حماية الجيش في المناطق المصنفة “ج”.
وبناءً على التقرير فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق 3 ضباط إسرائيليين لمسؤوليتهم عن جرائم حرب في الضفة الغربية، وفق نظام روما الأساسي المادة 8.
لكن في المقابل، فإن الولايات المتحدة دأبت على استخدام حق النقض الفيتو ضد أي قرارات أممية تتعلق بالمستوطنين والاستيطان داخل الضفة الغربية، في حين تظهر وثائق الاتحاد الأوروبي أن 70% من العقوبات المقترحة على إسرائيل هي إجراءات رمزية غير مؤثرة.
وتواجه المحكمة الجنائية الدولية ضغوطا سياسية متزايدة لتأجيل قضايا الاستيطان، كما حدث في قضية “مستوطنة عوفرا” التي أجلت 4 مرات.
إستراتيجيات المقاومة
مع اشتداد وطأة الهجمات التي يقوم بها المستوطنون، كان لازما على الفلسطينيين القيام بفعاليات مقاومة لهذه الممارسات التي تهدد حياتهم بشكل مباشر، سواء كان ذلك من خلال فعل مقاوم شعبي أم عبر المقاومة المسلحة.
وانتهج المواطنون عددا من الإستراتيجيات من أجل كسر حلقة العنف الممنهج التي يقوم بها الاحتلال عبر المستوطنين.
- المقاومة الشعبية:
أسست القرى الفلسطينية 750 “لجنة حماية شعبية” خلال العامين 2024-2025، وفق “هيومن رايتس ووتش”، كما نجحت حملات حركة مقاطعة إسرائيل “بي دي إس” (BDS) في إجبار 20 شركة أوروبية على الانسحاب من المستوطنات.
وطورت منظمات حقوقية نظام “المراقبة الذكية” الذي وثق ألفيْ انتهاك عبر طائرات مسيرة، رغم مصادرة 100 جهاز تصوير.
- المقاومة المسلحة:
بين الشرعية الدولية والتصنيف الإسرائيلي سجلت وثائق الجيش الإسرائيلي ارتفاع العمليات المسلحة بنسبة 60% في مناطق التماس مع المستوطنين.
ورغم تصنيف إسرائيل لها كأعمال إرهابية، يؤكد خبراء القانون الدولي أن المقاومة في الأراضي المحتلة حق شرعي وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
- تعزيز التوثيق الدولي:
تطالب منظمات حقوقية بتشكيل لجنة تحقيق دولية دائمة للانتهاكات في الأراضي المحتلة، على غرار لجنة “غولدستون”.
وتوصي بإنشاء منصة دولية موحدة لتجميع الأدلة بشكل منهجي قابل للاستخدام قضائيا، كما تدعو لتفعيل آلية “البند السابع” في مجلس الأمن لفرض عقوبات على المسؤولين عن التنسيق العسكري-الاستيطاني.
- حصار إسرائيل دوليا:
تدعو التوصيات إلى تصعيد حملات المقاطعة “بي دي إس” لاستهداف الشركات المتورطة في الاستيطان.
وتقترح تشكيل تحالف دولي من الدول الرافضة للاستيطان لفرض حظر أسلحة على إسرائيل، مع التركيز على كشف التناقض الغربي عبر فضح الشركات الأوروبية المتورطة في بناء المستوطنات.
سيناريوهات المستقبل
مع تصاعد العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، وعمليات جيش الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية، من المرجح أن يتجه الصراع نحو 3 سيناريوهات:
- الضم الشامل والتهجير الجماعي
تكشف وثائق “معهد أبحاث القدس” عن خطة إسرائيلية لضم 70% من الضفة الغربية بحلول 2030، مع تهجير 150 ألف فلسطيني.
وتحذر “الأونروا” من أن هذا السيناريو قد يدفع 600 ألف فلسطيني إلى النزوح الداخلي.
وتظهر خرائط التوسع الاستيطاني لهذا العام مشاريع لبناء 15 ألف وحدة استيطانية جديدة على طريق التقسيم.
- المقاومة الشاملة
يتوقع “المركز الفلسطيني للبحوث” أن 85% من الشباب يدعمون المقاومة المسلحة إذا استمر التمدد الاستيطاني.
وكشفت استطلاعات الرأي حديثًا أن 65% من الفلسطينيين يعتقدون أن المواجهة المسلحة هي الحل الوحيد لوقف التهجير، بينما يحذر محللون عسكريون من موجة عنف غير مسبوقة قد تشمل كامل الأراضي المحتلة.
- الضغط الدولي
رغم تصاعد الحملات الدولية لمقاطعة إسرائيل، تشير وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى أن 75% من العقوبات الأوروبية غير فعالة.
لكن بعض الخبراء يرون أن تراكم القضايا في المحكمة الجنائية، مع تصويت 140 دولة لصالح قرارات الأمم المتحدة ضد الاستيطان، قد يغير المعادلة.