صعود الهند على الساحة الدوليّة كخامس أكبر اقتصاد في العالم، ورابع أكبر مستورد للنفط، يثير عددًا من التساؤلات حول مستقبلها ودورها على الساحة الدولية.
حقيقة الأمر، أن للهند موقعها ونظرتها إلى العالم، وهي تمتلك رؤية خاصة للمنطقة العربية، التي يُطلق الغرب عليها “الشرق الأوسط”، وهو مصطلح ترتبط دلالاته بحقبة الاستعمار، لكن الخارجية الهندية تسميها: “غرب آسيا وشمال أفريقيا”. وهي تسمية تعكس تأثر الهند بمعاناتها من الاستعمار البريطاني، إضافة إلى إدراكها التاريخي للعلاقات العريقة مع المنطقة.
هناك علاقة عضوية تاريخية بين الهند والعالم العربي تمتد إلى عصور مبكرة، مثل ارتباطها بحضارة دلمون (البحرين) وحضارة مجان (عُمان). كما تم العثور في سوريا على نقوش سنسكريتية هندية تعود إلى عصر السلالة الميتانية (1500 – 1350 قبل الميلاد). علاوة على ذلك، كان للحكم الإسلامي للهند أثر كبير في تشكيل هوية البلاد وثقافتها.
وحسب النظرة الهندية، فإيران ليست جزءًا من إقليم “غرب آسيا وشمال أفريقيا” (الشرق الأوسط)، فبين البلدين علاقات جوار طويل وتداخلات جغرافية وتاريخية، وهي إلى جانب ذلك مورد رئيسي للنفط الذي تحتاجه الهند.
أما علاقاتها مع دول الخليج فتتسم بتشابك اقتصادي واسع؛ فهي تستورد الغاز الطبيعي من قطر، والبترول من السعودية، والإمارات، والعراق، بأسعار تفضيلية. وإلى جانب ذلك، تلعب العمالة الهندية في المنطقة العربية دورًا محوريًا في العلاقات الثنائية.
فحجم التبادل التجاري بين الهند والسعودية يبلغ 52.67 مليار دولار سنويًا، ومع الإمارات يصل إلى 85 مليار دولار، بينما لا يزيد مع إسرائيل عن 4.42 مليارات دولار.
وقد تأخر اعتراف الهند بإسرائيل إلى عام 1994. ومنذ ذلك الوقت، تطورت العلاقات لتشمل التعاون العسكري والاستخباراتي، ما أدى إلى تغير في الرأي العام الهندي من مساندة القضية الفلسطينية إلى الانحياز لإسرائيل، رغم وجود 172 مليون مسلم هندي يدعمون القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم. تشاركهم في ذلك التيارات اليسارية وشريحة من المثقفين الهنود.
تواجه الهند معضلة في موازنة رغبتها في علاقات قوية مع الدول العربية من جهة، وعلاقاتها القوية مع إسرائيل من جهة أخرى. وهي حيرة تشبه تلك التي تعانيها في علاقاتها مع الصين التي تتعارض أيضًا مع علاقاتها مع الغرب.
ولنبدأ من معضلة علاقاتها بالصين، حيث يمكن القول إن الاتفاق الحدودي الذي وقعته معها في مدينة قازان الروسية خلال اجتماع مجموعة بريكس، ليس إلا ذوبانًا “تكتيكيًا” للجليد لا دفئًا بعيد المدى، وذلك في ظل حاجة الهند إلى التعامل مع الآثار السلبية للأزمات العالمية.
وقد ساعد هذا الاتفاق على إنهاء التوتر الذي بدأ في عامي 2020 و2022، لكنه لم يتضمن خطوات أساسية مثل خفض التصعيد أو سحب القوات الأمامية.
تدرك الهند أن أي تقارب مع الصين يُثير قلق شركائها الغربيين، الذين ينظرون إلى الهند على أنها أكبر ديمقراطية في العالم، ويخشون من انضمامها إلى تحالف روسي- صيني قد يُهدد الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي.
الهند تسعى لتحقيق توازن دقيق بين تطلعاتها لأن تصبح قطبًا فاعلًا في نظام عالمي متعدد الأقطاب، وبين مخاوفها من أن تُصبح قارة آسيا “أحادية القطبية” تحت سيطرة نفوذ صيني غير محدود.
لتحقيق هذا التوازن، تُحاول الهند اجتذاب الاستثمارات الصينية، وتعزيز الشراكات في مجال التصنيع، مع الحفاظ على علاقاتها الإستراتيجية مع الغرب، الذي تعتمد عليه بشكل كبير في صادراتها من تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات وخدمات الإنترنت. وهنا تكمن معضلتها، حيث ستواجه قريبًا خيارات تحدد مستقبلها ومستقبل العالم.
فأمامها خيار أن تنحاز إلى الصين فتشكلان معًا قوة جديدة في جنوب شرق آسيا تتحدى الغرب. إن قرارًا من هذا النوع سيشكل تغيرًا جذريًا على الصعيد الدولي، عبر اجتماع الاقتصاد الثاني عالميًا (الصين) مع الاقتصاد الخامس عالميًا (الهند).
أما خيارها الثاني، فهو اتباع سياسة براغماتية بحتة تحفظ علاقاتها مع الجميع سعيًا إلى الحفاظ على مصالحها. ولا يملك هذا الخيار فرصًا كبيرة للنجاح، إذ يتطلب حذرًا شديدًا وشفافية مع شركائها الغربيين حول فحوى مباحثاتها مع الصين، وشفافية مع الصين بشأن فحوى مناقشاتها مع الغرب.
من بين التحديات التي تواجهها الهند أيضًا، تطوير قطاعها الدفاعي. فعلى الرغم من أنها تنتج طائرات مقاتلة، فإن محدودية نفوذها الدولي وصعوبات تسويق هذه المنتجات تعوق طموحاتها. الغرب، الذي يسيطر على سوق السلاح، يُشكل عقبة أمام الهند في هذا المجال، بينما يمكن أن تساعدها شراكة مع روسيا والصين على تطوير صناعات عسكرية متقدمة، ما قد يحول الهند إلى مصدر للسلاح بدلًا من مستورد له.
وبالعودة إلى معضلة علاقاتها بالعرب، تعرف الهند أن مواصلة تعزيز علاقاتها مع إسرائيل سيشكل تهديدًا لمصالحها الاقتصادية مع الدول العربية والإسلامية. إذا أُطلقت حملة مقاطعة ضد الهند، فقد تتأثر بشدة علاقتها مع الدول الإسلامية، مما يجعلها بحاجة إلى إدارة هذه العلاقة بحذر بالغ.
الهند تُدرك أنها بحاجة إلى إستراتيجية واضحة لمستقبلها، وشفافية في التواصل، سواء مع العرب أو مع العالم، ولا سيما إذا أرادت مواصلة البراغماتية في مدّ علاقاتها مع المعسكرات الدولية المتخاصمة.
وهو تحدٍّ يواجه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي أثار قلق دوائر غربية مؤخرًا بشأن تراجع الديمقراطية الهندية عندما اتخذ خطوات لمزيد من مركزة السلطة على حساب حكم الأقاليم غير المركزي.
كما يثير غضب الأوساط العربية والإسلامية؛ بسبب تواصل السياسات العنصرية ضد المسلمين في الهند، إضافة إلى العلاقات الدافئة مع إسرائيل فيما تتواصل مجازرها في غزة ولبنان.
الهند تجد نفسها في موقف صعب أيضًا فيما يتعلق بعلاقاتها الإقليمية. فهي تعاني من توتر تنافسي مع باكستان، وظهرت مؤخرًا بوادر توتر إضافي مع إيران. كما أن علاقاتها مع بنغلاديش وسريلانكا تواجه تحديات مستمرة، إضافة إلى قضية كشمير التي تُعد جرحًا نازفًا يؤثر على صورة الهند لدى العالَمين العربي والإسلامي.
فهل تعيد الهند تقييم سياستها تجاه محيطها الجغرافي الحيوي الذي تعصف به التوترات؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.