قبل الإعلان رسميًا عن سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، كتب الرئيس المنتخب دونالد ترامب ـ أثناء وجوده في باريس لإعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام ـ على موقع Truth Social: إن “سوريا في حالة من الفوضى، لكنها ليست صديقتنا ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تفعل أي شيء بها. هذه ليست معركتنا. دعها تستمر. لا تتدخل!”.

ليس بوسع أحد أن يستقبل تصريحات ترامب، بوصفها ما استقرت عليه إدارته بشأن سوريا الآن أو لاحقًا، فلا يُعقل أن تتخذ واشنطن ـ أيًا مَنْ كان سيد البيت الأبيض- موقفًا يتسم باللامبالاة، مما يجري في سوريا، فيما تحتفظ بلاده بنحو 900 جندي في حالة تماسّ مع جماعات المعارضة المسلحة، والتي باستيلائها على السلطة ستعيد، رسم التحالفات التي كانت موجودةً منذ عقود، في منطقة شديدة الهشاشة أمنيًا وسياسيًا.

لطالما أجادت واشنطن، التدخلات الناعمة غير الخشنة، فهي دولة مؤسسات، ومسؤولة كـ”شرطي العالم”، للحفاظ على النظام الدولي، وعلى الإرث الذي ترتب على نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية.

قرار واشنطن بعدم التدخل “الصريح”، قد يرجع ـ على الأرجح ـ إلى حسابات موضوعية، تستند إلى الأوزان النسبية، للقوى الحليفة للنظام السوري، والتي أصابها اختلالات جوهرية؛ بسبب الحرب الأوكرانية الروسية من جهة، والحرب الإسرائيلية على لبنان من جهة ثانية، والاستنزاف على جبهة إيران ـ إسرائيل من جهة ثالثة.

وهي الاختلالات التي كانت تعزز إلى حد اليقين، سيناريو انهيار الأسد وقياداته العسكرية والأمنية، بيد السوريين دون أي إسناد إقليمي أو دولي.

لذا كانت عيون صناع القرار الأميركي، على اللاعب الجديد “أبو محمد الجولاني”، الذي توقع الأميركيون أن يتسلم مفتاح العاصمة دمشق، وكأنه في نزهة لصيد الأرانب البرية.

ففي حين صنفت ـ في مايو/ أيار 2013 ـ الخارجية الأميركية الجولاني على أنه “إرهابي عالمي”، وبعدها بأربع سنوات تعلن عن مكافأةٍ قدرها 10 ملايين دولار لكل من يُدلي بمعلومات تؤدّي إلى القبض عليه، يظهر ـ منذ 28 نوفمير/ تشرين الثاني الماضي ـ علنًا ليس في حلب المحررة، ولكن تجري معه منصتان إعلاميتان أميركيتان كبيرتان ـ سي إن إن ونيويورك تايمز ـ حوارات جريئة، بوصفه “رجل دولة” وليس “رجل عصابات” كما كانت تقدم صورته من قبل.

صحيح أن الإعلام الأميركي، يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية، غير أن الحال مع الجولاني بدا مختلفًا.. فهو مدرج على قائمة “الإرهاب” الأميركية، بكل استحقاقاتها القانونية، ومع ذلك تُرك له الباب مواربًا للإعلان عن طبعته الجديدة المنفتحة على العالم.

الارتياح الأميركي لـ “الجولاني” يبدو أنه كان سابقًا لعملية إسقاط الأسد الأخيرة، ففي مطلع فبراير/ شباط 2021 أجرى الصحفي الأميركي مارتن سميث، مقابلة معه، قال فيها الجولاني: ” إن هيئة تحرير الشام لا تشكّل أي تهديد للولايات المتحدة الأميركية، وعلى الإدارة الأميركية رفعها من قائمتها للإرهاب”، وأضاف “كنا ننتقد بعض السياسات الغربية في المنطقة، أما أن نشن هجمات ضد الدول الغربية، فلا نريد ذلك”.

المقاربة التي ربما قد يرتاح إليها، المختصون في الصوت الاحتجاجي الإسلامي، هي أن الجولاني ـ في نسخته الجديدة ـ يأتي متسقًا مع تحول منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة ما بعد الإسلام السياسي، بالتزامن مع زعزعة الرؤى المعلبة وجاهزة التحضير بشأن علاقة الإسلام بالسلطة، وبات من الطبيعي أن نقرأ ما يشير إلى تصحيح تلك الرؤى المتحيزة، وتزايد قناعات ـ وإن كانت خجولة ـ بأن الإسلام ليس ضد العلمانية، ولكنه ضد الاستبداد، وهي المقولات التي جسدها ببراعة الجولاني، في حواراته مع المنصات الإعلامية الأميركية.

ويبدو أن ثمة نوايا حقيقية، داخل التيار الأساسي في المعارضة السورية، لفتح صفحة جديدة مع الإدارة الأميركية، وقد تكون على أجندتها أبعاد إنسانية تعيد تصويب صورتها كمشروع أخلاقي في عيون الأميركيين والعالم، وربما ـ أيضًا ـ من منطلق وعيها بعد سنوات من “المحاولة والخطأ”، أن الحضور الأميركي في المنطقة لا يمكن الاستغناء عنه حربًا أو سلمًا.

لقد لفت انتباه الجميع المعارض السوري المؤثر في واشنطن، معاذ مصطفى، عندما قاطع مؤتمرًا صحفيًا لقراءة منشور ترامب، وبدا وكأنه يختنق، وقال إن إعلان ترامب أن الولايات المتحدة يجب أن تبقى بعيدة عن القتال هو أفضل نتيجة يمكن للسوريين المتحالفين ضد الأسد أن يأملوا فيها.

وتعهد مصطفى للصحفيين يوم السبت ـ عشية سقوط بشار ـ بأن تحمي المعارضة المعتقلين الأميركيين في السجون السورية، ومن بينهم أوستن تايس، الصحفي الأميركي المفقود منذ أكثر من عقد من الزمن والذي يشتبه في أنه محتجز لدى الأسد.

وفي السياق، لا يمكن بحال التسليم أيضًا بـ”برد ترامب” إزاء سوريا ووصفه بأنها “ليست معركته”، وهي الدولة المتماسة مع إسرائيل، وظلت إلى ما قبل سقوط الأسد النافذة الكبرى لإيران، لإنجاز أحلامها وأشواقها الإقليمية.

وقد أدلى الجولاني ـ في هذا الإطار ـ بإفادة سياسية رصينة وعاقلة، وكرجل دولة مسؤول، عندما شكت إسرائيل قبل سقوط بشار بيوم واحد، من هجوم شنه من وصفتهم بـ”المتمردين المسلحين” على موقع قوة مراقبين تابعة للأمم المتحدة بالقرب من قرية الخضر على الحدود بين إسرائيل وسوريا في هضبة الجولان، فبعد وقت قصير من الهجوم المزعوم، أصدرت غرف العمليات المشتركة للمعارضة بيانًا أكدت فيه التزامها بحماية المنظمات الدولية في سوريا.

ثمة قناعة إقليمية / دولية بأن سوريا الجديدة “ما بعد الأسد” ستكون بطبيعة الحال دولة مشغولة بنفسها، وأن استثماراتها لن تكون في إنتاج خطاب غوغائي معادٍ للعالم، وإنما الاستثمار في إبداع نظام سياسي يتجنب الوقوع في أخطاء ماضي الفوضى أثناء الانخراط في التنظيمات، أو ما ارتكبته الدولة الأسدية من حماقات سدد السوريون فواتيرها من دماء أبنائها (نصف مليون قتيل)، ودولة مدمرة ومقسمة ومترهلة المؤسسات.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version