لن تجد في أروقة التاريخ فيلسوفا عربيا أثار الجدل وأشعل المعارك الفكرية مثلما فعل ابن رشد، وهو الذي احتفى به الغرب ورأى كثيرون منه أن مؤلفاته كانت أحد روافد النهضة الفكرية للغرب، كما أدت معاركه الفكرية وخلافاته مع الفلاسفة والفقهاء إلى حرق كتبه وانزواء أفكاره في جانب بعيد عن التيار الرئيسي للفكر العربي والإسلامي.

وُلِد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد في مدينة قرطبة حاضرة الأندلس عام 520 للهجرة، ونشأ في بيت عريق في العلم والأدب، وكان والده قاضيا وفقيها، له مجلس يُدّرس فيه في جامع قرطبة. درس ابن رشد الفقه والتفسير والطب والرياضيات والفلك والفلسفة.

ولعل من أبرز ما قدمه ابن رشد في مجال الفلسفة والفكر من إسهام جليل في الثقافتين العربية والغربية شرحه الوافي لفلسفة أرسطو، فقد كان شديد الإعجاب بمنطق أرسطو فتناول كل ما استطاع أن يحصل عليه من مؤلفاته وشروحها بالدراسة العميقة القائمة على التحليل الدقيق والنقد العميق لأفكاره، وكان شديد الاطلاع والتبحر في كل ما ترجم من كتب اليونان التي ضاع أغلبها فيما بعد، لذلك يمكننا اعتباره دون أدنى مبالغة أنه صاحب الفضل الأكبر في الحفاظ على فلسفة أرسطو وقراءتها نقديا، وبذلك نال في الأوساط العلمية الغربية لقب “الشارح”.

العلماء المسلمون- ابن رشد : القاضي الفيلسوف

ابن رشد.. سيرة فكرية عميقة

وضمن إطار الاهتمام الغربي بسيرة الفيلسوف الشارح ابن رشد صدر عن دار ذات السلاسل في الكويت كتاب “ابن رشد: سيرة فكرية” وهو من تأليف الباحث الإسباني خوان أنطونيو باتشيكو المولود سنة 1948م هو كاتب إسباني متعمق في دراسة الفكر الإسلامي والاتصال بين الحضارات، خصوصا بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية.

ويمتلك دراسات متعددة تتناول الشخصيات الفلسفية والتاريخية التي أسهمت في ربط الشرق بالغرب، ويعد أحد الأسماء البارزة في هذا المجال، ولقد ترجمه عن الإسبانية المترجم أحمد عبد اللطيف، وهو مترجم وأكاديمي مصري، يتمتع بخبرة واسعة في مجال الترجمة الأدبية والفكرية، وتتميز أعماله بالعمق والاهتمام بالتفاصيل، حيث يسعى دائما إلى نقل الأفكار والمعاني بدقة ووضوح.

يوضح المؤلف خوان أنطونيو باتشيكو أن هدف الكتاب هو تتبّع مشروع ابن رشد الفكري، ومعرفة من هو ابن رشد حق المعرفة، وماذا كان يفكر، وكيف كان يفكر، وقراءة فكره قراءة تنسجم مع الواقع المعاصر، وذلك بغية الوصول إلى التحقق من صلاحية هذا الفكر في عصرنا الراهن، وقد اعتمد المؤلف فهم السياقات والربط بين السياق التاريخي والسياسي والثقافي في عصر ابن رشد، والسياق التاريخي والسياسي والثقافي في الواقع المعاصر.

إذن فالكتاب يقدم سيرة فكرية عميقة لابن رشد، فهو يناقش مساهماته الكبيرة في مختلف المجالات مثل الفلسفة، الطب، الفقه، والفلك، وذلك اعتمادا على دراسة دقيقة استقصائية لنصوصه وآثاره، كما يقدم لنا المؤلف صورة واضحة عن أبرز أفكاره التي أحدثت تأثيرا كبيرا وعميقا في الفلسفة الغربية في العصور الوسطى.

الباحث الإسباني خوان أنطونيو باتشيكو (مواقع التواصل)

في حديثه عن سيرة ابن رشد ينطلق المؤلف من المقولة الشهيرة التي يرددها فلاسفة الغرب في الغرب، وهي “الطبيعة فسّرها أرسطو، وأرسطو فسّره ابن رشد”، فابن رشد لم يكن ناقلا للفلسفة اليونانيّة الكلاسيكية فحسب، أو مقلدا في عوالم الفلسفة لليونانيين الأوائل، بل إن ابن رشد كان له معاييره الخاصة التي أسهمت في إبداع فلسفي جديد كان همه البحث عن الإجابات عن الأسئلة التي تولدت من داخله ولم تأته من الخارج، هذه الأسئلة التي تولدت من أسئلة النص القرآني، ومن أسئلة العقل.

كما يستقصي المؤلف علاقات ابن رشد مع أهل زمانه ويسلط الضوء على صداقاته وعداواته، ويناقش باستفاضة ما يدور من أحاديث وفرضيات حول علاقته مع السلطات السياسيّة الحاكمة، هذه العلاقة التي كانت تمثل إحدى الصور الإشكالية في سيرة ابن رشد كما يرى المؤلف، وكما يتحدث المؤلف عن تفاصيل محاكمته ونفيه ووفاته في مراكش، ثم نقل جثمانه إلى قرطبة حيث تم دفنه.

في الكتاب يقدم المؤلف اقتراحا بضرورة الغوص في كتابات ابن رشد التي بلغ عددها 92 مؤلفا، لمعرفة فحوى وماهية فكر وفلسفة واحد من أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام في الثقافة الأندلسية، وأحد أبرز أعلام الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي بل في العالم كله.

وبعد هذا الاستعراض المستفيض ينتقل المؤلف ليستعرض ويناقش ويتناول بالتحليل الدور الذي لعبه ابن رشد في صناعة الغرب فكريا ومعرفيا، وذلك من خلال ترجمة كتبه من العربية إلى اللاتينية ليتم نقلها إلى مكتبات وجامعات أوروبا، ويبين المؤلف مكانة هذه المؤلفات وتأثيراتها من خلال بيان آليات التعامل معها من الاستشهاد الكثير بها مما جعلها تتغلغل في العقل الغربي اللاتيني بشكل كبير، وكانت أفكاره آنذاك السلاح الذي يتخذه الفلاسفة الغربيون في مواجهة المد اللاهوتي المسيحي المهيمن على كامل الحياة السياسية والاجتماعية في بلادهم، في العصور الوسطى المظلمة.

هذا الكتاب لا يقدم سيرة عن ابن رشد فحسب، بل هو نافذة رئيسة لفهم الصلة القوية والرابطة المتينة بين الفلسفة الإسلامية والفكر الأوروبي، كما يقدم الكتاب ابن رشد رمزا للتبادل الثقافي والتلاقح العلمي والتواصل الحضاري والتكامل المعرفي بين الحضارات، ويبرز دوره في تقريب الفلسفة اليونانية إلى أوروبا، مما أسهم في النهضة الأوروبية.

إن “ابن رشد: سيرة فكرية” الواقع في 286 صفحة يمثل مصدرا مهما ومرجعا ضروريا لكل من يهتم بالفكر الفلسفي والتاريخي، ولمن يريد فهما أعمق وقراءة أشمل لأحد أعظم العقول التي تركت بصمة خالدة في الفكر العالمي.

شاركها.
Exit mobile version