ربما وجد نتنياهو، وَفق حساباته، أن لديه من عناصر القوة ما يدفعه للتعامل مع حربه على قطاع غزة كفرصة، ليس فقط في تحديد مستقبل القطاع، وإنما في صياغة الواقع الأمني في المنطقة؛ بما يكفل أمن الكيان الصهيوني ومستقبله على المدى البعيد.

غير أن هذه الحسابات لا تدرك “الفخ الإستراتيجي” الذي يضع نفسه وحكومته المتطرفة وكيانه الإسرائيلي فيه، حيث يوقعه في حالة استنزاف تنهك الكيان وأسس بقائه.

فبالرغم من أن نتنياهو فشل في تحقيق أيٍّ من الأهداف المعلنة في الحرب على قطاع غزة، فإنه قام بتوسيع نطاق الحرب إلى لبنان منذ منتصف سبتمبر/ أيلول 2024، بإضافة هدف عودة نحو مئة ألف من المستوطنين الصهاينة الذين هجّرتهم ضربات حزب الله من شمال فلسطين؛ وهو ما لا يتم إلا بخوض معركة يسعى الاحتلال الإسرائيلي من خلالها لإجبار حزب الله على الرضوخ للمطالب الإسرائيلية.

ثم قام الاحتلال في ذكرى مرور عام على معركة طوفان الأقصى (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024) بالإعلان عن السعي لتغيير الواقع الأمني في المنطقة، والتأكيد على أن المعركة معركة وجودية، وتغيير اسم المعركة ليصبح حرب “القيامة” أو حرب “الابتعاث” أو “النهضة” بحسب الترجمات العربية للمصطلح الذي سعى نتنياهو من خلاله لإعطاء الحرب معنى دينيًا وشحنًا صهيونيًا عاطفيًا؛ وكأنه يبدأ فصلًا جديدًا من فصول معركته التي ظن في البداية أن لن تزيد عن بضعة أسابيع أو بضعة أشهر.

إغراء القوة

يبدو أن ثمة ما يغري نتنياهو بتوسيع أهدافه من الحرب. ويتصدر ذلك التفوق الكاسح في الإمكانات العسكرية والاستخباراتية، والدعم الأميركي والغربي؛ ووجود سلطة فلسطينية رسمية في الضفة الغربية متعاونة مع الاحتلال، وتُنسّق معه أمنيًا في مطاردة المقاومة؛ مع وجود بيئة عربية وإسلامية رسمية عاجزة عن دعم المقاومة ومنشغلة بقمع شعوبها؛ بل إن عددًا من أنظمتها السياسية والغٌ في التعامل مع الاحتلال وفي العداء والخصومة للمقاومة.

ثم إنّ الاحتلال حققّ عددًا من “الإنجازات” التكتيكية أعطته مزيدًا من الشعور بغرور القوة في اغتيال العديد من قادة المقاومة، وفي خسارة المقاومة لآلاف من كوادرها السياسية والتنظيمية والعسكرية والأمنية؛ ونتيجة استخدام الاحتلال كافة الوسائل القذرة واللاأخلاقية في قتل عشرات الآلاف من المدنيين، وتشريد أكثر من مليوني فلسطيني داخل قطاع غزة، وأكثر من مليون لبناني في لبنان، وتدمير المنازل والبنى التحتية بشكل هائل.

لكل ذلك قام نتنياهو وحكومته مؤخرًا برفع سقف مطالباتهم وشروطهم في حربهم على لبنان، فلم يعد الهدف مجرد إعادة المستوطنين إلى أماكن إقامتهم في شمال فلسطين، وإنما أخذ الاحتلال الإسرائيلي يطالب بانسحاب حزب الله من خطوط الهدنة إلى شمال نهر الأولي أو الليطاني، وبنزع أسلحة حزب الله، وبتقديم ضمانات تمنع إعادة تموضع الحزب في القرى الحدودية.

ونشر موقع والا Walla العبري في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 وثيقة مبادئ مقترحة من الطرف الإسرائيلي تتضمن المطالبة بحرية تصرُّف الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي اللبنانية؛ بحجة منع حزب الله من إعادة بناء قوته العسكرية قرب الحدود، وحرية استخدام سلاح الجو الإسرائيلي في المجال الجوي اللبناني، وتفعيل دور الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل في السيطرة على المناطق الحدودية، ومنع الجماعات المسلحة من العمل هناك.

وهذا يعني عمليًا انتقاصًا من سيادة الدولة اللبنانية على أرضها، ووضعها تحت نوع من أنواع الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية، وهي محاولة لفرض الهزيمة والاستسلام على حزب الله، وعزله عن دعم المقاومة في فلسطين، كما أنه ينسف القرار 1701 الذي من المفترض أن يتم وقف إطلاق النار على أساسه، بحسب التزام الحكومة اللبنانية. وهذا يعني عمليًا استمرار الحرب على لبنان؛ لأن حزب الله والدولة اللبنانية ليسا في وارد الموافقة على هكذا شروط.

أما صياغة الواقع الأمني في المنطقة، فمعناه فرض المعايير الأمنية الإسرائيلية، خصوصًا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، وتحديدًا دول الطوق. وهو يعني أن الاحتلال الإسرائيلي سيسعى لتوفير مزيد من الضمانات حتى من تلك الدول التي له علاقة رسمية تطبيعية معها.

وقد يعني ذلك مزيدًا من التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة؛ لقمع ومطاردة تيارات “الإسلام السياسي”، والتيارات والرموز والهيئات المؤيدة للمقاومة الفلسطينية؛ ومحاربة كل ما يزعج الاحتلال بما في ذلك الاعتراض على برامج تهويده للأقصى والقدس وباقي فلسطين، وقمعه للشعب الفلسطيني ومصادرة أرضه ووضعه في ظروف طاردة تجبره على الهجرة خارج فلسطين المحتلة؛ وانتهاء بشطب الملف الفلسطيني.

وقد تفتح الضغوط الإسرائيلية (والأميركية الغربية من ورائها) الباب لزيادة الأزمات والمشاكل الداخلية بين حكومات المنطقة وشعوبها.

وربما سعى نتنياهو لجرّ الولايات المتحدة إلى المواجهة مع إيران، بما قد يفتح المخاطر على توسيع الحرب إلى حرب إقليمية، في محاولة لتحقيق الأجندة الإسرائيلية.

مقامرة توقع في فخّ إستراتيجي

ماذا يحدث عندما تكون لديك، ووفق الحسابات المادية البشرية، كافة العناصر اللازمة لتحقيق الانتصار وبلوغ أهدافك؛ ولكنك في الوقت الذي تُحقق فيه منجزات تكتيكية فإنك تفشل في تحقيق أهدافك الإستراتيجية؟

عمليًا، سترى أنّ إمكاناتك المتوفرة ومنجزاتك التكتيكية وحسابات القوة، تدفعك للاستمرار في الإنفاق من “رأس المال” الذي لديك، للوصول إلى أهدافك، التي ترى أنها ممكنة التنفيذ.
هي أقرب إلى سلوك “البلطجي” المتنمِّر، الذي يغتصب حقوق الآخرين، والذي فوجئ بفتى يضربه لكمةً تُطيحه أرضًا وتُفقده صوابه وتهينه أمام الناس.. هذا البلطجي سيسعى لاستعادة مكانته من خلال سحق الفتى، وجعله عبرة لغيره.

لكن ماذا لو أن الفتى صمد بالرغم من شدة الضربات التي يتلقاها.. وفاجأ البلطجيَ كما فاجأ الجميع بقدرته على المنازلة واستنزافه.. وبقدرته على الاستمرار، ومواصلة التحدي؟!

على البلطجي أن يختار، فإما أن ينزل على شروط الفتى، وإما أن يواصل التحدي. ولأن البلطجي لم يستوعب إطلاقًا أن يفرض الفتى شروطه عليه، فإنه سيدخل في “عقلية المقامر” الذي يندفع في المراهنة ومتابعة استنفاد ما لديه من رأس مال وإمكانات؛ لأن “حالة الإنكار” و”الهروب من الواقع” وعدم القدرة على قراءة المعطيات الموضوعية التي تتسبب بفشله، تدفعه للاستمرار.

وهذا سيؤدي لاستنزافه وإضعافه إلى أن ينهار، أو تجبره المعطيات للاعتراف بالواقع الجديد والانسحاب تحت ضربات الفتى. ولعل هذا هو نموذج داود الفلسطيني في مواجهة جالوت الإسرائيلي!!

إن نموذج البلطجي هو نموذج القوى المستعمرة التي تعيش غرور القوة، ثم تسقط في “الفخ الإستراتيجي” نتيجة سوء حساباتها، مثل نموذجي نابليون وهتلر في غزوهما روسيا، ونموذج المستعمر الأميركي في فيتنام، والفرنسي في الجزائر، والروسي والأميركي في أفغانستان.

لماذا الإصرار؟

السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان نتنياهو غير قادر على تحقيق أي هدف من أهدافه المعلنة في الحرب على غزة؛ وفشل فشلًا ذريعًا في ذلك بعد أكثر من 380 يومًا على الحرب، أليس هو أعجز من أن يحقق أهدافه في حربه على لبنان أو في فرض رؤيته الأمنية على المنطقة؟! ولماذا يصرّ إذًا على توسيع حربه؟!!

يبدو أن غرور القوة، مصحوبًا بالفشل الفاضح في تحقيق الأهداف في الحرب على غزة، يدفعه للقفز إلى الأمام، واصطناع مهام جديدة، يُوجِد بسببها مبررات جديدة للبقاء في الحكم؛ وإعطاء مدى زمني أكبر وفرص أخرى لتحقيق الأهداف التي لم تتحقق. وهو بذلك يحاول إقناع التجمع الاستيطاني الصهيوني بجدوى استمراره، وبوجود مهام كبيرة بحاجة لاستكمال.

خلاصة:

التوقعات مرتبطة بقدرة المقاومة على الاستمرار في أدائها القوي الفعال، مهما كانت التضحيات؛ وهو ما سيفرض استمرار الاستنزاف الإسرائيلي وتصاعد حالة الإنهاك التي يعاني منها الجيش والاقتصاد الإسرائيلي، ومضاعفة الهجرة المعاكسة، وزيادة العزلة الدولية، وارتفاع جدران الدم مع البيئة العربية، وسقوط مسارات التطبيع.

وسيقع الاحتلال الإسرائيلي في “فخ إستراتيجي” عندما يواصل “المقامرة” بما لديه، وهو ما سيكشف بشكل متدرج العديد من نقاط الضعف والثغرات، مما سيعطي فرصًا أفضل للمقاومة على المديين الوسيط والبعيد؛ لمضاعفة الخسائر الإسرائيلية وتسريع عملية الاستنزاف، التي ستفرض على الاحتلال النزول على شروط المقاومة.

وما يدفع في هذا الاتجاه أن المقاومة في غزة، بعد استشهاد السنوار – رحمه الله – ما زالت مستمرة في أدائها العسكري القوي، وأن المقاومة في لبنان أعادت ترتيب أوراقها وتموضعها وضاعفت من أدائها القوي في شمال فلسطين ووسطها، لتضاعف أعداد المهجّرين من المستوطنين الصهاينة. كلُّ هذا، مدعومٌ من المقاومة في اليمن والعراق.

لقد فرضت المقاومة في هذه الحرب معادلة الاستنزاف مقابل الاستنزاف، بعد أن كان الاحتلال ينفذ من طرفٍ واحد استنزافه لأرض فلسطين وشعبها وللأمة، وينفذ برامجه ومخططاته للهيمنة على المنطقة.
العقلية الصهيونية المتعجرفة ستتسبب بالكثير من المعاناة والضحايا والدمار، في محاولة تطويع المنطقة واستعباد شعوبها، ولكن لا خيار أمام الشعوب سوى الاستمرار في المقاومة لانتزاع حريتها وتحرير أرضها ومقدساتها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version