بينّا -في مقالنا السابق عن التفسير النفسي للقرآن الكريم- المحاولات المحدودةَ والجزئية في هذا المجال، وافتقاد المكتبة القرآنية لتفسير في هذا الميدان، وأبرز ميدانين يتضح فيهما أهمية هذا اللون من التفسير، هما: ميدان القصص القرآني، وميدان آيات الأحكام التي تتعلق بالأحكام التشريعية من أوامرَ ونواهٍ، وإذا كان القصص القرآني قد استوعب ما لا يقلّ عن نصف القرآن، فإن أي تفسير نفسي له، ستكون القصة القرآنية هي الميدان الرحب الذي ينطلق منه، أو يتضح منه أهمية هذا اللون من التفسير.

فالقصة القرآنية بوجه عام، قد شرَّحت النفس البشرية، وبينت جوانب انفردت بها عن جميع القصص البشري والسماوي السابق، سواء أوضحت ذلك في القصة بشكل بيّن، أو ضمنته ضمن الدروس والعبر التي تستخرج منها، وهو ما لم يهتم ببيانه وإيضاحه المفسرون القدامى، للأسف، وإن بدا في بعض نظرات طفيفة منهم، وحاولت دراسات أكاديمية معاصرة، أن تقترب من ذلك، لكن دون الإفاضة والإحاطة الكاملة بذلك.

أطروحة عن الموضوع

ورغم صدور رسالة دكتوراه بعنوان: (سيكولوجية القصة في القرآن) للتهامي نفرة، سنة 1971م- وهو كتاب رائد ومهم في الموضوع، وإن أطال الكاتب النفَس في الجزء النظري عن القصة القرآنية، وهل هي أسطورة أم لا؟ وعند حديثه في الجانب التحليلي للقصة القرآنية، وذكر نماذج منها، وهي عمل مهم في الباب- لكن حَكمته متطلبات البحث الأكاديمي، من حيث تحديد مساحة البحث، ولم يكن بإمكانه تناول القصص القرآني كاملًا.

وقد كان المأمول منه بعد الأطروحة، أن يبني عليها بأعمال تكمل ما بدأه، كما رأينا في نموذج الأستاذ سيد قطب، عندما كتب كتابه: (التصوير الفني في القرآن)، وقد كان النظرية التي وضعها للتعامل مع القرآن، ثم أتبعه بالتطبيق وأصدر كتابه: (في ظلال القرآن)، وهو ما لم نرَه للدكتور التهامي نفرة بعد عمله المهم.

وقد سبقه ولحقه عدد من العلماء المعاصرين من المعنيين بالدراسات القرآنية، أو بالتفسير، فالتقطوا لقطات مهمة في سيكولوجية القصص القرآني، والجانب النفسي المهمّ في القصص، سواء كان القصص متعلقًا بالرسل والأنبياء، أم متعلقًا بالجبابرة والحكّام الذين واجهوهم، أو قصص المؤمنين، أو قصص الكافرين أو الملحدين عبر التاريخ من خلال القصة القرآنية، ونسوق بعض هذه اللفتات التي تدل على أهمية أن يكون هناك عمل كامل وليس مجرد وقفات محدودة.

القصص القرآني وعلم نفس الجريمة

اهتمت بعض كتب المعاصرين ممن تناولوا القصة القرآنية، بما يسمى: (علم نفس الجريمة)، وبخاصة عند دراسة خصوم الإسلام وأعدائه، وبخاصة حديث القرآن عن بني إسرائيل، وبدا هذا الاهتمام يزداد بعد عودة العداء واحتلال أراضيهم، فاهتمت كتب بقصص بني إسرائيل، وتشريح صفاتهم الخُلقية والنفسية، وذلك من خلال عرض آيات القرآن في حديثه عن قصصهم مع أنبيائهم، ومع نبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم.

بقرة بني إسرائيل وضرب القاتل بجثمان القتيل

ولعل أول من لفت النظر إلى التأمل في الجانب النفسي في القصص القرآني من المعاصرين: الشيخ عبد الوهاب النجار، في كتابه: (قصص الأنبياء)، والكتاب كان مقررًا على طلبة الأزهر، وكتبت لجنة من علمائه تقريرًا ينتقد عددًا من الموضوعات في الكتاب؛ لأن المؤلف كانت له نظرات خاصة في بعض الأحداث.

عند حديث الشيخ النجار عن قصة بقرة بني إسرائيل، لم يذهب إلى ما ذهب إليه جمهور المفسرين، من أن قتيلًا قتل من بني إسرائيل، وأن قريبًا له هو قاتله ليرثه، فذبحت البقرة وضُرب بجزء من البقرة، فأحيا الله الميت، فنطق باسم قاتله.

بل ذهب إلى أن الآيات تحدثت عن قصتين، قصة ذبح البقرة، وهو أمر تشريعي لهم عند أحداث القتل، وهناك قصة أخرى، هي قصة قتيل قتل، ودليل ذلك قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون. فقلنا اضربوه ببعضها) البقرة: 73،72.

يرى النجار: أن القصة الثانية لم تكن ضرب الميت بجزء من البقرة المذبوحة، بل تكون بإجلاس المتهم، والإتيان بجثمان القتيل من خلفه، ووضع يده على وجهه بالضرب، فيوهم نفسيًا بأن الميت قد قام حيًا، أو أنه لم يمت، فيضطرب نفسيًا عندئذ ويعترف بالجريمة، وهو ما يقوم به بعض المحققين في العصر الحديث من مواجهة القاتل بجثمان قاتله، من باب التأثير عليه وهزه نفسيًا للاعتراف، أو نظر المحقق له وقت رؤية الجثمان، ورد فعل وجهه.

ذهب المودودي إلى تفسير نفسي في القصة، فقال: إن المقصود في آية “وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد..”  ليس الطعام، بل الطعام يدل على نمط حياة، فالعدس والبصل والفول، هو رمز لنمط حياة فرعون، وهو طعام مرتبط بالذل والهوان والاستبداد، بينما نمط طعام المن والسلوى، هو طعام جلب لهم بعد حريتهم

تأويل الشعراوي النفسي لجريمة إخوة يوسف

من المفسرين المعاصرين الذين عنوا بدرجة ما بالجانب النفسي أحيانًا في تفسيره: الشيخ محمد متولي الشعراوي، فقد كانت له لفتات مهمة، تدل على وقوفه على طبائع النفس البشرية في القصص القرآني، ومن ذلك: عند تفسيره لقوله تعالى على لسان إخوة يوسف: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلُ لكم وجه أبيكم ثم تكونوا من بعده قومًا صالحين. قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين) يوسف: 10،9.

فيقول: إن من يفكر بالجريمة، حينما يكون من غير معتادي الجريمة، ولا مجرمًا بطبعه، فإنه يتدرج في التفكير، من الأعلى للأدنى، لأن نفسه ليست نفس مجرم معتاد الإجرام، فقد بدؤُوا بالحديث عن القتل، ثم تدرجوا لطرحه في أرض بعيدة عن أبيهم، ثم انتهى بهم الأمر إلى اعتماد فكرة أن يوضع في بئر، ويأتي سيارة يأخذونه معه، فيبتعد بذلك يوسف عنهم وعن أبيه، ثم يتوبون بعد ذلك.

سرّ تسمية سورة البقرة بهذا الاسم

ثم نسج على هذا المنوال عالم أزهري آخر، وهو الشيخ صلاح أبو إسماعيل، فقد سجّل عدة حلقات لتلفزيون الكويت، وفرّغت هذه الحلقات وطبعت في كتاب، بعنوان: (اليهود في القرآن الكريم)، وكان مما فتح الله به على الشيخ صلاح، أنه ناقش لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟ رغم أن أسماء السور توقيفية، أي: بوحي من الله تعالى، وليس من ترتيب البشر. وأن سبب التسمية لورود قصة بقرة بني إسرائيل في السورة.

فكان مما فسر به أبو إسماعيل سبب التسمية، معنى نفسي، لم أجده -فيما أعلم- عند أحد من المفسرين قديمًا وحديثًا، فقال: إن بني إسرائيل عبدوا العجل من دون الله، فأمرهم الله بذبح بقرة، والعجل وليد البقرة، والأم أقوى من الوليد، فإذا رأى معبودهم أمًا له تذبح أمامه دون نفع أو ضر، فهو إسقاط لما أشربوه من عبادة العجل، ودرس عملي في العقيدة، يلقن في النفس بموقف لا ينسى.

المودودي وتفسير نفسي للمن والسلوى

ومن العلماء المعاصرين الذين كان لهم إلمام بالعلوم الإنسانية: أبو الأعلى المودودي- رحمه الله- وصدر له تفسير بعنوان: (تفهيم القرآن)، صدر باللغة الأوردية، ولم يترجم منه إلا القليل للأسف، ومنه تفسير سورة البقرة، وعندما فسر قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادعُ لنا ربك يخرج لنا مما تنب الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) البقرة: 61.

ذهب جلّ المفسرين إلى أن الذي هو أدنى بالذي هو خير، هو استبدال المن والسلوى بالبصل والثوم والعدس، بينما ذهب المودودي إلى تفسير آخر نفسي في القصة، فقال: إن المقصود هنا ليس الطعام، بل الطعام يدل على نمط حياة، فالعدس والبصل والفول، هو رمز لنمط حياة فرعون، وهو طعام مرتبط بالذل والهوان والاستبداد، بينما نمط طعام المن والسلوى، هو طعام جلب لهم بعد حريتهم، فهو طعام الحرية، فمقصود الآية: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، أي: أتستبدلون الاستبداد والهوان بالحرية والكرامة؟!

ويمكنني سوق نماذج متعددة في تفاسير مختلفة، ولعلماء معاصرين كثر، أو قدامى، لكنها للأسف ليست رؤية كاملة للقصص القرآني، من خلال النظر الدقيق في الدلائل النفسية في هذا القصص، وإن لامس بعضهم بعض المواضع، وبخاصة أن القصة القرآنية هي الميدان الرحب للحديث عن النفس البشرية، ولذا رأينا الروايات والقصص العالمي مملوءة بالتشريح للنفس، بل إن كثيرًا من الروائيين يدُسّ أيديولوجيته في الرواية أو القصة، معبرًا بذلك على لسان أبطال قصته، لما لهذا المجال من مدخل مهم غير مباشر في التعبير عن الأفكار.

أهمية هذه الدراسة للقصص القرآني

بلا شك، إن أي دراسة للقرآن الكريم من خلال التعمق في سيكولوجية القصص، تثمر فوائد لا حدود لها في فهم القرآن، فالقرآن الكريم لم يذكر القصص لعلة الاتعاظ فقط، بل القصص يدخل في الأحكام، ويدخل في فهم بلاغة وعظمة النظم القرآني كذلك، وهو مفيد على مستوى القارئ للقرآن، بأن يستلهم منه في حياته قوانين ونواميس للكون والحياة من خلال هذا القصص.

فمثلًا، هناك فكرة شائعة لدى مشايخ ومتدينين، مفادها: أن من يرفض الإسلام، ويكفر به، دافعه فقط بغض الحق، وليست هناك أسباب أخرى، أو أن عقله مغلق، وهي أسباب قد توجد بالفعل، لكنها ليست حصرية، وهو ما يوضحه من يتأمل في الدراسة النفسية لقصص المكذبين، فنجد قوله تعالى: (قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) الأنعام: 33، فهي تبين أنهم لا يكفرون تكذيبًا لمحمد- صلى الله عليه وسلم- لأنهم يؤمنون بصدقه، ويعترفون بأنه الصادق الأمين.

ولكنّ عاملًا نفسيًا آخر لديهم يصدهم عن الإيمان، وهو ما نطق به أبو جهل عندما سئل عن سر عدم إيمانه بمحمد فقال: كنا وبنو هاشم كفرسَي رهان، سقوا فسقينا، أطعموا فأطعمنا، قالوا: منا نبي، فأنى لنا بها. أي: أنه رافض لهذا النبي في سياق التنافس القبلي.

ويستفيد القارئ للقصص القرآني بهذا المعيار أيضًا، أنه لا يضيع وقته في طول الأمل في شريحة من الناس لا أمل منها، وأنهم مهما أعطوا من فرص فلن يأتوا بنتيجة أخرى أفضل من قبل، وذلك في قوله تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) الأنعام: 28، فهناك نفوس بشرية مصرّة على مبدأ ومنهج معين، ومصرة على الخطأ أو الجريمة، أو العصيان، وكلما أعطوا مهلة أو فرصة زاد خطؤُهم، واشتدّ عنادهم.

شاركها.
Exit mobile version