لم تكن الحرب الإعلامية التي اشتعلت مع اشتعال الأراضي الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر أقل عنفًا وشدةً من القتال المتواصل حتى لحظة كتابة هذه السطور.

فحرب السردية- بين المقاومة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية- كان لها نصيب كبير من الاهتمام والتركيز. ذلك أنه لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية موقف العالم من هذه الحرب، التي تتجاوز في أبعادها وآثارها حدود الأراضي الفلسطينية والإقليم كلّه.

من اللحظة الأولى لبدء عملية “طوفان الأقصى”، كان واضحًا أن فصائل المقاومة الفلسطينية قد أتمت استعدادات كبيرةً للحرب الإعلامية بالتزامن مع اقتحام السياج الأمني حول قطاع غزة. فالفيديوهات المذيّلة باسم “الإعلام العسكري”، بدأت البث منذ اللحظات الأولى لهذه العملية. وهذا ما أشار إلى أن المقاومة الفلسطينية، قد أعدت نفسها لفرض السردية والرواية الفلسطينية عبر رسائل الإعلام العسكري، وهو ما غاب- في البداية- عن الجانب الإسرائيلي كنتيجة طبيعية لغياب المعلومة عنه ابتداءً.

إسرائيل تعتبر دائمًا أن الآخر المقابل -ولا سيما العربي- هو مجرد شخص “غبي” غير قادر على الإبداع، ولذلك فالمفترض أن إسرائيل لا تحتاج لبذل جهد في بناء سردية مقنعة مقابل سرديته، خاصةً أنه لا يحمل أي خبرات في التعامل مع أدوات بناء السردية عبر الدراما والإعلام الهوليودي

وللحق، بمجرد استيعاب حجم الضربة بعد أيام من العملية، بدأت إسرائيل في لملمة صفوفها، واستنفار جميع خبراتها وقوتها الإعلامية العالمية؛ لاستدراك ما حصل ومحاولة فرض سرديتها الخاصة، متسلحةً في ذلك بشبكة واسعة جدًا من حلفائها من جهابذة الإعلام الأميركي خصوصًا، والغربي عمومًا. ولجأت في سبيل ذلك إلى سيل الأكاذيب التي كُشفت لاحقًا في قصص السابع من أكتوبر، مثل: قطع رؤوس الرضع، وإحراق الأطفال أحياء، والاغتصاب، وغير ذلك.

الفكرة هنا ليست دراسة أثر هذه العملية، خاصةً أن كذب هذه السردية كلها قد انكشف لاحقًا كما كان متوقعًا، وما زالت الكذبات تتكشف كل يوم، حتى وصل الأمر يوم 19 ديسمبر إلى إفراج جيش الاحتلال عن فيديو صورته طائرة مسيرة في السابع من أكتوبر يثبت الرواية الفلسطينية، بأن قتل عائلات إسرائيلية ونساء وأطفال – في الكيبوتسات الإسرائيلية، مثل كيبوتس بيئيري – لم يكن إلا نتيجةً لقصف الدبابات الإسرائيلية للمنازل في هذه الكيبوتسات دون النظر إلى وجود نساء وأطفال داخلها.

كما أن الفكرة ليست دراسة سبب فشل الرواية الإسرائيلية في الإعلام التقليدي في إقناع الجيل المعروف باسم جيل “Z” الذي يعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي بدلًا من وسائل الإعلام التقليدية، وبالتالي حدّ ذلك من قدرة حكومة الاحتلال على المناورة،

وإنما السؤال هنا هو: لماذا أقدمت حكومة الاحتلال، أصلًا، على الكذب الفج على العالم وما زالت مصرةً على ذلك بشكل مستمر، دون النظر إلى فشلها في إقناع العالم، أو إلى الأثر السلبي عليها عندما يتم كشف كذباتها كل مرة؟ ولماذا لا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي ينشر فيديوهات باردة ضعيفة غير مقنعة لعدد من الجنود يطلقون النار في الهواء، في مقابل فيديوهات المقاومة الفلسطينية النوعية، التي التزمت الصدق منذ اللحظة الأولى، بما جعلها أكثر قوةً في رسالتها وإقناعها للمشاهد والمتابع من إسرائيل؟

ربما يكون القائمون على الحكومة الإسرائيلية اليوم من كبار السن الذين لا يعرفون كيفية التعامل مع وسائل التواصل التي يتعامل معها الشباب الذين يمتلكون القدرة العالية على اكتشاف الصواب من الخطأ، ولكن مخطئ من يظن أن القائمين على السردية الإسرائيلية – سواء من إسرائيل أم من حلفائها- هم جميعًا من هذه العينة نفسها، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع ما يفهمه هذا الجيل!

فالقضية في الحقيقة ليست متعلقة بقوة وسائل التواصل، أو عدم تمكن إسرائيل وحلفائها وأصواتها من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، مثلًا، بل إن لدى إسرائيل أصواتًا قوية وذات أثر إعلامي كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تجنّد لهذا الأمر عدد من كبار المؤثرين الممثلين للرواية الإسرائيلية، وخاصة في الولايات المتحدة، مثل: بن شابيرو ومايم بياليك وغيرهما.. لكن بالرغم من ذلك لا تزال السردية الفلسطينية أقوى أثرًا في الإعلام والفضاء الرقْمي.

إذن القضية ليست متعلقة بجيل ” Z”، أو عدم تمكن إسرائيل من مخاطبته بأدوات العصر، وإنما في عدم قدرة إسرائيل على المضي قدمًا في تقديم رواية مقنعة لأسباب عدة لا يفهمها الإسرائيليون. وللحقيقة فإن دراسةً لسيكولوجيا الرواية الإسرائيلية تكشف أن من أهم أسباب الفشل الإسرائيلي- في الإقناع بروايته- هي تركيبة العقلية الإسرائيلية نفسها، فهي عقلية قائمة على التعالي والنظر للآخر بدونية.

فإسرائيل تعتبر دائمًا أن الآخر المقابل -ولا سيما العربي- هو مجرد شخص “غبي” غير قادر على الإبداع، ولذلك فالمفترض أن إسرائيل لا تحتاج لبذل جهد في بناء سردية مقنعة مقابل سرديته، خاصةً أنه لا يحمل أي خبرات في التعامل مع أدوات بناء السردية عبر الدراما والإعلام الهوليودي، كحال إسرائيل ومناصريها في الولايات المتحدة بالذات، ولذلك فالفلسطيني- في نظر الاحتلال وحلفائه- لا يمكنه أن يمتلك الأدوات التي تقنع الآخر.

هذه النظرة الدونية عند الإسرائيليين، لا تنطبق على العربي فقط، بل تنطبق كذلك على الشعوب الغربية نفسها، فهم لا يرونها قادرةً على فهم ما يجري؛ لأن الشعوب الغربية اعتادت على استقاء معلوماتها من أفلام هوليود، ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها اللوبيات الداعمة لإسرائيل، فكيف يمكن ألا يصدق الفرد الغربي العادي الآن ما كان يصدقه على مدار سبعة عقود؟!

يبدو أن إسرائيل تظن أن هذا الرصيد القديم من البروباغندا، وغسل الدماغ الذي تعرض له العالم عبر آلة الإعلام المناصرة لها كانا كافيين لبناء الثقة غير القابلة للتزحزح في كل ما تقوله إسرائيل الآن ومستقبلًا، فلا يحتاج الجيش الإسرائيلي- مثلًا- إلا ليخرج المتحدث الرسمي باسمه فيقول أي شيء- مهما كان- ليكون صادقًا، حتى لو وصل به الأمر إلى أن يشير لقائمة كلمات عربية غير مفهومة معلقة في مستشفى قائلًا: إنها “أسماء إرهابيين”، ويتوقع أن يصدقه المواطن الغربي (ولاحظ أنه في تلك الحادثة الشهيرة كان يتكلم بالإنجليزية؛ لأنه يوجه رسالته للشعوب الغربية أساسًا)، ويكفي ذلك ليصدقه العالم.

فكيف يمكن أن يجرؤ أحد على تكذيب الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم؟! وكيف يصدق المواطن الغربي البسيط هؤلاء الإرهابيين الفلسطينيين، الذين كانت هوليود تصورهم كذلك دائمًا، حين يقولون: إن هذه الكلمات غير المفهومة لم تكن أكثر من أيام الأسبوع؟!

الشيء نفسه ينطبق على ادعاءات الاغتصاب؛ فلم تظهر شخصية واحدة تدّعي تعرضها للاغتصاب ولا حتى في شهادة واحدة تقدمها إحداهن لأحد الصحفيين، فكلها كانت تقارير إعلامية منقولةً عن مؤسّسات حكومية إسرائيلية رسمية تدعي أنها تأكدت من تعرض “بعض” النساء للاغتصاب، ويجب على العالم أن يصدق ذلك؛ لأن من يعلن هذا الادعاء هو الرئيس الإسرائيلي نفسه!

وكذلك قصة حرق الأطفال وقطع الرؤوس وغيرها مما ردّده نتنياهو محتميًا باسم منصبه، فهو رئيس وزراء إسرائيل وأعلى سلطة تنفيذية فيها، ولذلك فيجب أن تقبل روايته؛ لأن الثقة هي الأصل فيما يقول دائمًا!

الرسمي الصادق مقابل الإرهابي الكاذب.. هذا ما يكفي في نظر إسرائيل ليصدقها العالم.. فما دامت إسرائيل الرسمية هي التي تتكلم فيمكنها أن تقول ما شاءت، وعلى العالم أن يصدقها؛ لأنها هي الممثل الرسمي للغرب في المنطقة!

نسيت إسرائيل- في خضم كل هذا- أن الشعوب الغربية قد أقامت على مدار العقود الماضية جدارًا من عدم الثقة بينها وبين مؤسساتها الرسمية نفسها -لا المؤسسة الإسرائيلية فقط- وذلك بعد أن صُدم المجتمع الغربي كثيرًا بالكذب الذي تعرّض له على يد حكوماته كاحتلال العراق وأسلحة الدمار الشامل مثلًا.. بل إن البعض في المجتمع الأميركي -مثلًا- لا يجد غضاضةً في تكذيب رواية حكومته حول 11 سبتمبر.

وقد تعمق هذا الحاجز من عدم الثقة في أزمة كورونا، فلماذا يصدق النسخة الإسرائيلية من حكوماته التي اعتاد أن تكذب عليه؟ ولماذا يصدق أن فيديو لبضعة جنود يطلقون الرصاص في الهواء أو على جدران صماء يقاتلون فعليًا مقاتلين لا نراهم في الصورة؟

بالمقابل فإن السردية الفلسطينية تقدم للمشاهد دائمًا طرفين واضحين، هما: مقاتل ودبابة أو مقاتل وجندي.. وتقدم صورةً ثبَت بالوقائع أنها صحيحة، فأصبح الصدق هو السلاح الأقوى للمقاومة الفلسطينية. هذا إضافةً لسرعة خروج روايتها الإعلامية لتكذيب الرواية الإعلامية الإسرائيلية، وتنويع رسالتها الإعلامية بمختلف الأساليب، وهذا أمر غير معتاد لدى الطرف الإسرائيلي، ولا يتناسب مع ما أقنع نفسه به من “غباء العرب” و”سذاجتهم”.

فمنذ متى كان العربي ذكيًا بما يكفي لاختيار أغنية (لا تتركونا نشيخ) خلفيةً لفيديوهات أسرى من كبار السن؟ ومنذ متى كان يفهم الفرق بين اختيار موقع محدد لتصوير حدث ما وتصويره داخل غرفة؟ ومنذ متى كان يعرف كيف يوجه الكاميرا نحو أقدام حافية لأحد المقاومين، وكيف يوجه الكاميرات في الجو لتصوير الصواريخ مع السيارات والجيبات العسكرية تتوجه كلها في الوقت نفسه مخترقةً الجدار الفاصل؟ ومنذ متى كان يعرف متى يجب تغيير صوت المتحدث في أي فيديو، ومتى يجب أن يظلل صور بعض الوجوه والمواقع، ويكشف بعضها؟ بل منذ متى تعلم أن يقدم رسالةً بلغة عبرية أو إنجليزية سليمة غير ركيكة؟

هذه كلها أسئلة ما زالت تحير المراقبين الإسرائيليين وحلفاءهم، وهي بالنسبة لهم لا تقل مفاجأة عن لغز الاقتحام الكبير يوم السابع من أكتوبر! والجواب الذي لا يريدون الاعتراف به هو ببساطة أن الفلسطينيين ليسوا سذجًا ولا أغبياء، فهل تعترف إسرائيل بذلك يومًا؟

شاركها.
Exit mobile version