لندن- في الوقت الذي تستعجل فيه الولايات المتحدة إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، لا يخفي الأوروبيون مخاوفهم من أي صفقة تضمن تنازلا أميركيا لصالح الروس قد يجر عليهم تنازلات أخرى، ويتوجسون من التوقيع المتسرع على اتفاق غير مكتمل التفاصيل.
وتتزايد خشية العواصم الأوروبية من تقارب روسي أميركي يمهد لتغيير الجغرافيا السياسية للقارة بالقوة، بعد تواتر التسريبات عن صحف غربية عدة بشأن مضامين المقترح الأميركي للسلام في أوكرانيا، والذي لا يُمانع الاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم مقابل تجميدٍ للصراع.
وقالت صحيفة “إندبندت” البريطانية، إن الأوروبيين فوجئوا بعد تقديم الأميركيين مسودة الإطار الأوسع لخطة السلام التي وُضعت على طاولة البحث في وقت سابق خلال اجتماع باريس، على أنها الاتفاق النهائي الذي يلزم الأوكرانيين الموافقة عليه.
وتُبرز الصحيفة اتساع الهوة بين التصور الأوروبي لمسار إنهاء الحرب في أوكرانيا الذي يحفظ سيادتها على كل أراضيها، والمقترح الأميركي الذي يقدم تنازلات للروس، ويصر على رفع العقوبات وتحجيم القدرات العسكرية للجيش الأوكراني.
وبينما توجَّه مجددا ستيفن ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى موسكو للقاء الرئيس فلاديمير بوتين والمفاوضين الروس، تغيب وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن الحضور بطاولة واحدة مع المفاوضين الأوروبيين والأوكرانيين في اجتماع لندن لبحث تفاصيل اتفاق السلام مع روسيا.
الروس أولا
تقول صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية إن الخطوة الأميركية قد تؤدي لاتساع الهوة وفرض مزيد من التصدعات بين الشركاء في حلف الأطلسي، وقد تُعد هذه المرة الأولى التي يُعاد فيها ترسيم حدود أوروبية بالقوة وبموافقة أميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويرجح نايك ويتني، الباحث الأول في سياسات الدفاع الأوروبية بالمجلس الأوروبي للسياسات الخارجية في لندن، أن “الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقفز على واقع أن تهديد روسيا للأمن القومي الأوروبي سيكون عابرا لضفتي الأطلسي، ويمثل خطرا مباشرا على الولايات المتحدة أيضا”.
ويشير الخبير في السياسات الدفاعية، في حديثه للجزيرة نت، أن ترامب يستعجل بأي ثمن عقد صفقة تجارية بالأساس مع الروس في أوكرانيا على حساب سيادة الأوكرانيين، ودون أن يعبأ أيضا بتاريخ الشراكة الأطلسية مع الأوروبيين.
نقد صريح
وفي أول نقد علني واضح من مسؤول أوروبي رفيع لخطة ترامب للسلام، قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون المعروف بقربه من الرئيس الأميركي ترامب ودعمه الشرس أيضا لأوكرانيا في حربها مع روسيا في منشور على منصة “إكس” إن الخطة الأميركية “لا تقدم شيئا للأوكرانيين” ولا تمنع تجدد “العدوان الروسي”.
وبينما تتبنى بعض الحكومات الأوروبية كألمانيا مواقف أكثر تطرفا، مطالبة بانسحاب كامل للقوات الروسية من كل الأراضي الأوكرانية، تخشى أخرى من أن اختلال توازنات القوة في ميدان المعركة يحتم على الأوروبيين إبداء مرونة أكبر خلال المفاوضات.
ويرى سبيروس إيكونوميدس، أستاذ السياسات الأوروبية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية “إل إس إي” (LSE)، أن الأوروبيين غير راضين عن محاباة ترامب للروس من خلال خطة السلام المتداولة، ولكنهم غير قادرين أيضا على تغيير واقع ميدان المعركة لصالحهم أو التراجع عن مواقفهم المتشددة إزاء روسيا، مما يعني المزيد من التدهور في العلاقات الأطلسية.
ويضيف الخبير الأوروبي، في حديثه للجزيرة نت، أن الرئيس الأميركي لا يهتم لموقف الأوروبيين، وراغب في إتمام الصفقة لتحقيق وعوده لقاعدته الانتخابية بجلب السلام لأوكرانيا، وتخفيف أعباء الحرب التي يصر أنها تثقل كاهل دافع الضرائب الأميركي.
عواقب غير محسوبة
لكن تهديد كل من الرئيس الأميركي ونائبه بالتخلي عن مفاوضات السلام وترك أوكرانيا لمواجهة مصيرها إن لم تتجاوب مع المقترح، يُعد باعث القلق الأبرز الذي تتحسب العواصم الأوروبية منذ وصول ترامب للبيت الأبيض لعواقبه.
ولا يستبعد نايك ويتني، الذي شغل سابقا منصب رئيس الوكالة الأوروبية للدفاع في بروكسل، في حديث للجزيرة نت، أن ترامب قادر على وقف كل أشكال المساعدات العسكرية والاستخباراتية التي تقدمها واشنطن لأوكرانيا، حيث يرى أنها حصرا مهمة أوروبية، لكن في المقابل تبدي أغلب الدول الأوروبية عزما على مساعدة أوكرانيا لمواصلة القتال أملا في تحسين شروط التفاوض.
ويذكّر الوعيد الأميركي مجددا الأوروبيين والبريطانيين خاصة بضرورة تكثيف الجهود تحسبا لأي فك ارتباط عسكري مع الولايات المتحدة. وفيما استنكر القادة الأوروبيون الهجمات الروسية الأخيرة على العاصمة الأوكرانية، تتزايد المخاوف من أن أي صفقة سلام دون ضمانات أمنية ليست إلا اتفاقا هشّا غير قابل للصمود.
رص الصفوف
ويواصل المسؤولون البريطانيون والفرنسيون منذ أسابيع حشد الدعم لـ”تحالف الراغبين” العسكري، لطرحه كـ”قوة أمان” لحماية أوكرانيا من أي هجوم روسي جديد حال توقيع اتفاق سلام، دون انتزاع موافقة أميركية إلى الآن على إرسال أي قوات أوروبية قريبة من خطوط التماس في أوكرانيا.
ورغم تأكيد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر مرارا أنه ليس في وارد المفاضلة بين توثيق علاقات بلاده الخاصة مع الولايات المتحدة، وشراكته مع الجيران الأوروبيين، فإن المواقف الأميركية الأخيرة تدفع البريطانيين -فيما يبدو- لحسم خياراتهم مبكرا.
والتقى كل من رئيس الوزراء البريطاني برئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في لندن، ويرتقب أن يضع كل من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا اللمسات الأخيرة على اتفاقية دفاع مشترك لدعم الصناعات العسكرية الأوروبية، تعد الأولى من نوعها منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في أفق عقد قمةٍ الشهر المقبل لإعادة تأهيل العلاقات بين الجانبين.
ويرى نايكو بابيسكو، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس، في حديثه للجزيرة نت، أن عقيدة العداء البريطاني المستحكم لروسيا وقيادتها جهود الدعم العسكري لأوكرانيا، فضلا عن التقارب بين الإدارة الأميركية والرئيس بوتين، يدفع بريطانيا شيئا فشيئا في اتجاه الكتلة الأوروبية، ويوسّع الهوة بينها وبين الولايات المتحدة حليفها التقليدي على الضفة الأخرى من الأطلسي.
ويشدد المتحدث، وهو وزير خارجية أسبق في الحكومة المالدوفية، أن إدارة ترامب قد فشلت في إقناع الأوروبيين بأن التهديد الروسي لا يشكل الخطر الداهم الأول الذي يتربص بهم، مستبعدا أن ينظر الأوروبيون لأي تعاون تحت مظلة حلف “الناتو” في معزل عن الأزمة الأوكرانية، ودون توجس من المحاولات الأميركية لإبرام صفقة مع الروس على حساب أمنهم الجماعي.