ينهي النظام السوري صورةً نمطية تقليدية لمؤسسته العسكرية، وفق خطة تقوم على توسيع شريحة المتطوعين وربما المتعاقدين على حساب الخدمة الإلزامية العامة، وقد بدأ كبار ضباط وزارة الدفاع في حكومة النظام الإعلان عن الخطة تحت عنوان: “جيش احترافي متطور”، حيث أعلن اللواء أحمد سليمان مدير الإدارة العامة في وزارة الدفاع التابعة لحكومة النظام، عبر لقاء أجراه التلفزيون الرسمي معه منتصف عام 2024 أن الوزارة ستتابع تسريح عشرات الآلاف من الملتحقين بالخدمة الإلزامية والاحتياطية على مراحل خلال عامي 2024 و2025.

يتيح التغيير الجديد للمواطنين السوريين دون سن 32 عامًا بمن في ذلك المتخلّفون عن الخدمة ومن هم ضمنها حاليًا، التعاقدَ مع وزارة الدفاع، في مقابل مغريات مادية تتعلق بالراتب المادي الشهري، وتوفير السكن، والامتيازات الاجتماعية الأخرى.

يعتمد قوام الجيش في سوريا منذ تأسيسه رسميًا عام 1946 على الخدمة الإلزامية والاحتياطية المفروضة على جميع المواطنين الذكور، إلى جانب المتطوعين من الضبّاط وصفّ الضباط والجنود، وقد ركّز “حزب البعث” منذ تسلّمه السلطة في سوريا عام 1963 على تثبيت مبدأ عقائديّة الجيش، وطبعه بالأيديولوجيا القومية العربية وَفق مبادئ “البعث” وأفكاره.

الجدير بالذكْر أن التغيير الجذري في طبيعة الجيش السوري، وفي بنيته يتزامن مع تغيير كبير يجريه النظام في حزب البعث الحاكم، بدأه منذ عام 2017، وبالتزامن أيضًا مع الحديث عن تغييرات قد تشمل الأجهزة الأمنية وفروعها وآليات التنسيق فيما بينها، وبالتالي فإننا نتحدث عن تغيير يجريه بشار الأسد لنظامه الحاكم على مستوى البنية السياسية والأمنية والعسكرية، وربما يلي ذلك تخطيطه لتغييرات في بنية النظام الحكومية والإدارية، وفي السلطة التشريعية، ليخرج ويقول للعالم الذي يطالبه بالتغيير: وأي تغيير أكثر من ذلك؟!

الجيش مخيب للآمال

كان أداء الجيش في مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت عام 2011 مخيبًا لآمال قيادة النظام، سواء على مستوى الفاعلية أم مستوى الولاء والتماسك. فخلافًا للأجهزة الأمنية، فإن الجيش شهد انشقاقات واسعة، فعمل النظام على استدراك الموقف بالمزيد من القبضة الأمنية داخل صفوف الجيش، وبالمزيد من التنكيل والترهيب؛ لإيقاف الانشقاقات وإنهاء هذه الحالة، بالتزامن مع الاعتماد الكامل على المجموعات الأمنية، بما في ذلك بعض تشكيلات الجيش النخبوية الأشبه بالقوات الأمنية منها إلى الجيوش التقليديّة، وفي مقدّمتها الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري.

كما أن أداء الجيش عسكريًا كان مخيبًا للآمال أيضًا، إذ لم يتمكّن من حسم المعارك وحدَه، رغم أنه كان في مواجهة مجموعات مسلحة معظم قوامها من المدنيين، المسلحين بأسلحة صغيرة أو متوسطة لا أكثر، ويفتقرون لسلاح الطيران. ولم يتمكن النظام من حسم المعارك إلا بفعل القوى الأجنبية، وخاصة الروسية في الجو، والمليشيات الطائفية التي أحضرتها إيران على الأرض.

النفوذ الأجنبي في الجيش

كان النظام قد استدعى بشكل متصاعد القوى العسكرية من حلفائه، وكانت إيران أول المستجيبين، حيث أحضرت حزب الله اللبناني أولًا، ثم أحضرت لاحقًا المليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية والباكستانية، ولم تكن هذه القوات كافية، الأمر الذي استدعى دخول القوات الروسية بشكل رسمي في سبتمبر/أيلول 2015.

شيئًا فشيئًا أصبحت القواعد والنقاط العسكرية الأجنبية هي صاحبة القرار في الميدان، وأصبح قرار النظام مرتبطًا بحجم النفوذ للقوات الروسية والقوات الإيرانية التي حمتْه من السقوط، ولكل واحدة منهما وحدات ومجموعات من الروس أو الإيرانيين، ومن معهم من الجنسيات المتعددة.

لكن نظر موسكو وطهران كان دائمًا على بناء البديل المحلي المستدام، الموالي ولاء تامًا لكل منهما، والمرتبط تنظيميًا وتسليحًا وتوجيهًا بهما، ثم إدماج هذه البدائل المحلية في جسم ما بقي من الدولة ومؤسساتها، وبالتالي فإن نصيب روسيا وإيران محفوظ؛ بل ربما هو الأساس ضمن الخطط الجديدة التي يعتمدها النظام لأي تغيير في هيكليته وبنيته.

استثمارات متعددة

تشكل المليشيات المحلية التابعة لإيران وروسيا الدافع لإعلان النظام تغيير بنية الجيش وتنظيمه، فبعد سنوات من هدوء الجبهات بتفاهمات إقليمية ودولية (منذ توقيع اتفاق موسكو بين روسيا وتركيا في  مارس/آذار 2020) تنفس النظام الصعداء، ولم يعد مستنزفًا عسكريًا كما السنوات السابقة، لكنه غارق في الاستنزاف الاقتصادي وبشكل كبير، بالتالي فلا بد أن يكون تغيير الجيش استثمارًا مدفوع التكاليف من جهات خارجية.

اليوم، وبعد استقرار الخريطة الأمنية والعسكرية لدى النظام، بقي الاستنزاف الاقتصادي يؤرقه، وهو الأمر الذي لا يمكن علاجه إلا بالمزيد من الانفتاح السياسي. في هذا السياق، دعمه أيضًا حلفاؤه في مسار التطبيع الذي أعاده إلى الجامعة العربية، وفتح له أبواب جميع الدول العربية تقريبًا باستثناء قطر التي بقيت متحفظة على سلوكه وتصرفاته.

بالتوازي، كانت روسيا تعمل على فتح باب التطبيع التركي مع النظام، والذي سيخدم أيضًا مسار التطبيع الأوروبي معه، إلى جانب الخرق الذي يمكن أن تحدثه بعض الدول، وفي مقدمتها إيطاليا. فضلًا عن ذلك، فإن ضغط اللاجئين يجعل الأوروبيين يفكرون بمعزل عن الولايات المتحدة وأولوياتها الأمنية والسياسية. وربما لا نبالغ إذا توقعنا أن النظام سيحاول ابتزاز دول أوروبا لدفع تكلفة التغيير في الجيش، لِمَ لا وكابوس الخدمة الإلزامية، هو في مقدمة العوائق التي تمنع عودة اللاجئين.

جيش لا يهدد أمن المنطقة

كان من ضمن النقاشات التي خاضتها دول خليجية مع النظام لتطوير مسار التطبيع معه جملة من القضايا تتعلق بالسياسة والأمن والاقتصاد، كما تتعلق بالجيش والأجهزة الأمنية، فدول الخليج العربيّ لا يناسبها جيش عقيدته الارتباط بإيران ومشروعها.

في المقابل كان النظام وسيبقى يناقش أدوات إقناع العرب بالاستقلال عن إيران مع إيران ذاتها، إيران التي إلى جانب ما تتركه لحلفائها من هوامش الحركة وتحقيق المصالح، فإنها تضمن قدرتها على التأثير الواسع، وأن يراعي الحليف مصالحها قبل مصالحه حتى، هذا مع دول المنطقة، أما مع دول الاتحاد الأوروبي فإن إيران تدرك أن النظام يتقن استنزاف هذه الدول في المفاوضات، وتحقيق مكاسبه منها دون أن يخضع لمطالبها أو يخفف آلامها.

جيش متجانس

أمام كل هذا المشهد المتداخل من التغيرات الداخلية في سوريا؛ لكن بشكل أكبر أمام الضغوط الخارجية أو الاستثمارات الخارجية (إن صحت التسمية)، يخطط النظام لإعفاء عموم الشعب، أو من بقي من شبابه داخل البلاد من “الالتحام بشرف الخدمة العسكرية، وتلبية نداء الدفاع عن الوطن، والإيمان بعقيدته”، واستبدل ذلك كله ليصبح الجيش نخبويًا قائمًا على التطوع.

وبذلك يدمج النظام في مؤسسته مختلف القوى والمجموعات المحلية التابعة لطهران أو لموسكو، كما يضمن أن جمهور المتطوعين سيكون ممن بقي في سوريا بعد عمليات التغيير الديمغرافي والترحيل التي أشرفت عليها روسيا وإيران، والتي أعلنها النظام صراحة بقوله: “المجتمع المتجانس” الذي يريده، ولا يسمح لمن هم خارج “الوطن” أن يفسدوا عليه صفوته.

ولا يتوقع أن يلغي النظام مبدأ الخدمة الإلزامية، بل سيحولها إلى مجرد معسكر تدريبي، محققًا من خلال ذلك عددًا من الأهداف الأمنية، كما أن بقاءها سيمثل تغذية لشريحة الاحتياط التي يتوقع أن يهتم بها النظام أيضًا.

وإلى جانب الاستثمار الأمني والسياسي من النظام وحلفائه بالتنظيم والهيكلية الجديدة في الجيش، فإن النظام سيبقي الخدمة العامة؛ الإلزامية منها والاحتياطية، موردًا لضباطه والمنتفعين الذين يعتمد عليهم، وفي نفس الوقت هو ليس مضطرًا أن يمولهم من موارده، ويمنّ عليهم أن يتيح لهم هذه الموارد ويغض الطرف عنها.

أخيرًا، فإن النظام السوري لن يوفر الأمر في المتاجرة الإعلامية والسردية الرسمية وغير الرسمية أمام جمهوره والموالين له، وعلى مستوى الخطاب الخارجي، فهو (بروايته) يتخذ خطوات جادة في الإصلاح والتغيير، وتشجيع عودة اللاجئين، وهو يواكب التطور والدول المتقدمة في الاعتماد على الجيوش الاحترافية التي تعتمد على النخبة المتطوّعة، وعلى النوع وليس العدد في القوام العسكري.

لكن تبقى أمامه مشكلة رئيسية، وهي أن هذا النوع من الجيوش يعتمد على التسليح العالي والمتطور، وهنا يُعتقد أن النظام جاهز؛ بل وبدأ منذ زمن في تثبيت أن سوريا لن تستغني عن بقاء جيوش الحلفاء: (روسيا وإيران) على أرضها، ولمدة زمنية ليست بالقليلة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version