انتهت ليلة فرز الأصوات بنبأ مزعج جدًا لقادة أوروبا؛ أو لبعضهم على وجه التحديد. فالمؤشِّرات القادمة من ضفّة الأطلسي الغربية، فرضت هواجس عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حقيقة مرئية لا مناص منها، مع كلّ ما يعنيه ذلك بالنسبة للقارّة الملحقة بالقيادة الأميركية في زمن الاستقطاب الدولي.
حدث ذلك من قبل تقريبًا، عندما فاجأ فوز ترامب بولايته الأولى (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) جوقة صانعي القرار وراسمي الإستراتيجيات عبر أوروبا، بعد أن منحت استطلاعات الرأي، وقتها أفضلية لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. مثّل الرئيس الجمهوري المغامر والمتغطرس يومها تحدِّيًا لأوروبا التي كانت على وشك تجريب طريقته الغريبة في الحكم وإدارة العلاقات الدولية.
لم يكلّ ترامب طوال سنوات أربع قضاها في البيت الأبيض عن استثارة أعصاب شركائه الأوروبيين، على نحو اختزلته صورة نادرة التُقطت من أعمال قمّة “السبع الكبار” في كندا (يونيو/ حزيران 2018) أظهرت مدى التوّتر الذي كان يثيره هذا الرجل في الأروقة الغربية. التقطت الصورة المذهلة خلال مداولات حادّة معه قادتها المستشارة الألمانية وقتها أنجيلا ميركل، ثمّ غادر ترامب القمة فجأة، وانسحب من البيان الختامي المشترك.
ترامب يصعد من جديد
ها هو دونالد ترامب يصعد إلى الصدارة من جديد، ولا مبالغة في وصف نتائج الفرز بالاكتساح الجمهوري على مستوى الولايات المتأرجحة، والتصويت الشعبي، ومقاعد الكونغرس، وبعد أن نجا من محاولة اغتيال واحدة على الأقلّ كادت أن تجهز عليه، وتجاوز تهديدات قضائية ماحقة طاردته بلا هوادة.
لا شكّ أنّ هذا الفوز المدوِّي، الذي لا يتوافق مع استطلاعات الرأي، أزعج أوروبا، وإن لم يفصح قادتها عن مشاعرهم المكبوتة باستثناء زعماء شعبويين تصدّرهم أوّل زعيم أوروبي وجّه التهنئة لسيد البيت الأبيض الجديد، هو صديقه المقرّب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي يُعدّ من متصدِّري الظاهرة الترامبية في القارّة، الذي لم يكفّ هو الآخر عن توتير أعصاب نظرائه الأوروبيين منذ أن رأست بودابست الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية للنصف الثاني من سنة 2024.
تدشِّن عودة ترامب مرحلة حرجة بالنسبة لأوروبا قد لا تنتهي بختام ولايته الثانية، بعد أن ساد الانطباع بأنّ صفحته طُويت مع خسارته انتخابات 2020. جرت منذ ذلك الحين مياه وفيرة في الوادي، فقد عاد الاستقطاب الدولي المعهود في زمن الحرب الباردة، ولم تتردّد أوروبا في الانزلاق إلى الخندق الأميركي عندما دهمتها صدمة غزو أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022.
تغيّرات أوروبية كبرى مع بايدن
مثّل عهد جو بايدن استدارة إستراتيجية عن وجهة سلفه ترامب في ولايته الأولى، فمضى بدءًا من عام 2021 في حشد القارّة العجوز خلف ناظم الإيقاع الأميركي بخطاب غربي مستوحى من ثقافة الحرب الباردة، وتأتّى له ذلك تحديدًا بفضل استشعار الأوروبيين تهديدًا روسيًا ماحقًا ضخّ الدماء في الشرايين الأطلسية سريعًا، بعد أن تكررت شكوى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال عهد ترامب من أنّ “الناتو” يعاني “موتًا سريريًا”.
طرأت تغيّرات كبرى على أوروبا في عهد بايدن، منها سباق التسلّح المحموم الذي تخوضه القارّة مع ما يتطلّبه من إنفاق قياسي على الجيوش والبنى العسكرية وصفقات السلاح. تمدّد حلف الأطلسي سريعًا في الشمال الأوروبي المحايد عبر التحاق السويد وفنلندا بالمظلّة الدفاعية التي صارت على تماس مباشر مع تخوم روسيا الشمالية الغربية.
عزّزت الولايات المتحدة انتشارها العسكري المباشر في أعماق أوروبا في ظلال حرب أوكرانيا، بينما تعيّن على الدول الأوروبية أن تنخرط في إسناد كييف عسكريًا وماليًا وسياسيًا ودعائيًا بصفة متدحرجة، حتى أوشكت على المخاطرة بتوريط القارّة في صراع غير مباشر مع موسكو.
تزايدت في غضون ذلك تحذيرات صادرة من جهات أوروبية مرموقة من إقدام روسيا على شنّ حرب على أوروبا الغربية في غضون سنوات معدودة بصفة مشفوعة بتعثّر خطط الهجوم الأوكراني المضادّ المدعوم غربيًا عمّا كان متوقعًا له في سنة 2023.
اتّخذ الانخراط الأوروبي في حرب أوكرانيا مسارًا إضافيًا هو أداة العقوبات المغلّظة التي جاءت في حزم متلاحقة غير مسبوقة في صرامتها ضد روسيا ومصالحها. ما كان لهذا كلّه أن يطرأ لولا إخلاص الأوروبيين في الاصطفاف خلف القيادة الأميركية خلال عهد بايدن، مع احتفاظهم بوهم تجديد ولايته بصفته الشخصية، أو من خلال نائبته كامالا هاريس؛ للمحافظة على الوجهة الغربية المعتمدة حتى بداية سنة 2029 على الأقلّ.
لكنّ مفاتيح البيت الأبيض سقطت مجددًا في قبضة ترامب، فعاد بقوّة حاملًا شعار “أميركا أوّلًا”، متجاهلًا أولويّات حلفاء الاستقطاب الغربي في الحرب الباردة – الساخنة الجديدة.
أوروبا المتضائلة إستراتيجيًا
عاد ترامب هذه المرّة وقد تآكل الوزن الإستراتيجي لأوروبا الموحّدة عمّا كان عليه في عقد مضى، فقد فارقت بريطانيا الاتحاد وأبحرت نحو أواصرها الإستراتيجية الأنجلوسكسونية الأميركية، كما تجلّى في إبرام تحالف “أوكوس” الثلاثي في خريف سنة 2021 مع الولايات المتحدة وأستراليا، وتجلّى ذلك من بعد في تبعية لندن لمواقف واشنطن وأولوياتها على المسرح الدولي؛ خاصة في أوكرانيا، وفي سياق حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
من واقع الحال أنّ أوروبا صارت اليوم بلا قيادة ناجزة كالتي مثّلتها ألمانيا في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. بل إنّ برلين ذاتها خسرت أقساطًا من مكانتها الجيوسياسية ورصيدها الإستراتيجي مع الائتلاف الحكومي الثلاثي الهشّ بزعامة المستشار الضعيف أولاف شولتس، ولم تمضِ ساعات معدودة على الفرز الانتخابي الأميركي حتى تصدّعت الحكومة الألمانية، وتعلّق مصيرها بالهواء بانتظار انتخابات مبكرة محتملة.
شهدت ألمانيا، التي تقود القاطرة الأوروبية، تراجعًا واضحًا في السنوات الأخيرة، فقد تعاظم دور جارتها الشرقية بولندا؛ بسبب موقعها ودورها في حرب أوكرانيا بالتلازُم مع خسارة برلين امتياز إدارة علاقات مصالح متوازنة مع موسكو، كما ظلّت تفعل منذ الوحدة الألمانية.
وتواجه الجمهورية الاتحادية حاليًا متاعب اقتصادية مرشّحة للتفاقم، تتّضح في اضمحلال مؤشِّرات النموّ، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وتضاؤل قدرة المنافسة في السوق العالمية، ونقص الأيدي العاملة، علاوة على أزمة صناعة السيارات المحورية في اقتصادها، وتبقى هذه الأعراض عمومًا مرشّحة لمزيد من التأزيم إن مضى ترامب في فرض إجراءات حمائية في مواجهة شركائه الأوروبيين.
لا يتسامح الرئيس الأميركي المُنتخَب مع حقيقة أنّ الميزان التجاري لبلاده مع أوروبا مختلّ بوضوح لصالح الأوروبيين، ولن يكفّ عن السعي لتعديل ذلك بكلّ ما هو متاح له؛ تحقيقًا لوعوده الانتخابية، وتكريسًا لنهج باشره بصرامة في ولايته الأولى، ومن شأن ذلك أن يمسّ بمصالح ألمانيا التجارية والصناعية في المقام الأوّل.
تأخذ أوروبا هذا التهديد على محمل الجدّ، وسيتعيّن عليها خوض اختبار المفاوضة الجماعية المتماسكة مع الجانب الأميركي، إن تأتّى لها الاتفاق على ذلك حقًا، لأجل تحسين شروطها على الطاولة مع سيد البيت الأبيض العنيد.
لكنّ التجاذب في الملف التجاري لا ينفكّ عن مجمل إدارة العلاقات المركّبة مع الولايات المتحدة، التي تبقى زعيمة الاستقطاب الغربي الذي لا تجد أوروبا بديلًا عنه في زمن التهديدات العسكرية المرئية من الجانب الروسي.
قد تفرض عودة ترامب على أوروبا مزيدًا من الاستحقاقات الحرجة، مثل كيفية إدارة علاقات متوازنة مع الأطراف إن تصاعدت حدّة التجاذب الأميركي – الصيني في المجال التجاري، وربما العسكري لاحقًا، إذ لا يرى الأوروبيون مصلحة لهم في تأزيم علاقاتهم والتضحية بمصالحهم المتبادلة مع بكين، وقد أظهرت خبرة العقوبات المكثّفة التي فرضوها على روسيا منذ غزو أوكرانيا أنّ لسيف العقاب الاقتصادي حدًّا آخر يُؤذي حامله أيضًا.
ثمّ إنّ قيادة ترامب المُجرّبة من قبل، تضع الشركاء الأوروبيين في حرج بالغ عندما يبدو أنّ قائد الركب الغربي الجديد لا يكفّ عن استفزازهم والاستخفاف بهم، وربما تسديد نقد لاذع لهم على مرأى من شعوبهم والعالم، بعد أن حرص بايدن على تغليف الاصطفاف الأوروبي خلف القيادة الأميركية بالشعارات القيمية المعهودة عن أمم “الحرية” و”الديمقراطية” التي تقف في فسطاط مقابل لنظيره المخصص لروسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران.
وممّا يزيد التوتّر الأوروبي من ترامب أنّه شخصية “من خارج الصندوق”، يصعب تقدير تصرّفاتها مُسبقًا ولا يمكن الوثوق بما تنوي الإقدام عليه، وقد يتفنّن في نقض عُرى نسجها أسلافه والتملّص من اتفاقا دولية أو إقليمية لا تروق له؛ كما فعل مع اتفاقية المناخ مثلًا.
بواعث قلق إضافية
يحفِّز صعود ترامب الكاسح قلقًا آخر في العمق الأوروبي، حيث يجد الشعبويون والقوميون المحافظون واليمينيون المتطرفون فيه نموذجًا ملهمًا يحتذونه ويتأسّون به، في قارّة تتخلّل الترامبية السياسية بعضًا من دولها وتحصد أحزابها اليمينية المتطرفة أقساطًا معتبرة من أصوات ناخبيها إلى حدّ الاكتساح أحيانًا.
وسيجد ترامب من حوله من يدفعون بمواقف وخطابات تثير فزع الحكومات والنخب العلمانية في أوروبا، ليس أقلّها حديثهم مثلًا عن أنّ “الربّ أراد أن يكون دونالد ترامب رئيسًا” كما قالت متحدثة البيت الأبيض سارة ساندرز (30 يناير/ كانون الثاني 2019) أو بحديثه هو عن أنّ “الرب أنقذني كي أُنقِذ أميركا”، كما قال بثقة بالغة في خطاب الفوز الجديد.
سيغادر بايدن المُنهَك البيت الأبيض بعد ولاية رئاسية أشعلت حرائق في العالم مصطحبًا معه كامالا هاريس، تاركًا أوروبا لمواجهة قدَرها العسير مع حامل المفاتيح الجديد، الذي سيستعيد هوايته المفضّلة في توتير أعصاب شركاء الآصرة الأطلسية الذين تجلّى انكشافهم الإستراتيجي واعتماديتهم المفرطة على المظلّة الأميركية في دورة رئاسية “ديمقراطية”.
مضى الأوروبيون خلف إدارة بايدن في تصعيدها ضد روسيا، وقطعوا أشواطًا قياسية في ذلك، وسيتعيّن عليهم الآن أن يحتملوا استدارة عكسية متوقّعة تطوي ملف حرب أوكرانيا على حساب كييف على الأرجح، وقد يأتي ذلك بشكل خاطف إن صدقت وعود ترامب بأنّه يقتدر على إنهاء الحرب في أربع وعشرين ساعة فقط!
سيتضّح في الخلاصة أنّ واشنطن هي مَن قرّرت وجهة التصعيد والانخراط غير المباشر فيما تبدو حربًا غربية بالوكالة على الرقعة الأوكرانية، وهي التي ستقرِّر الوجهة الجديدة التي قد تتمثّل بصفقة كبرى تحتوي أدخنة الحرب على غير ما تشتهي كييف والعواصم الأوروبية، وما من دور لأوروبا في حسم قرار الوجهتين: الأولى والثانية.
خسرت أوروبا عبر العُهد الرئاسية المتعاقبة على البيت الأبيض، فرصة التصرّف كقطب متماسك في عالم متعدِّد الأقطاب، وتضاءلت حظوظها في تحويل مشروع الوحدة إلى شراكة إستراتيجية مستقلّة لها جيش مشترك أو حتى دبلوماسية فعّالة ذات حضور ناجز على المسرح الدولي.
غابت الدبلوماسية الأوروبية عن المشهد منذ اندلاع حرب أوكرانيا، وتوارت تمامًا عن الأنظار في سياق حرب الإبادة الوحشية في غزة، ولم تنفكّ التحركات الأوروبية المرصودة في الملفّيْن عن إرادة ناظم الإيقاع الأميركي الذي يمسك بوجهة شركائه ويسوقهم إلى مصائرهم ذات اليمين وذات الشمال، بينما يتقلّبون هم في أزماتهم الاقتصادية والسياسية المستعصية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.