بنبرة طافحة بالاستعلائية والشعور بالتفوق، تخرج علينا أحزاب وشخصيات علمانية، من مدارس قومية ويسارية وليبرالية، بمقالات، تسخر فيها من قدرة (أو بالأحرى لا قدرة) الأحزاب الدينية على ممارسة السياسة والحكم في بلداننا، لكأنها من حيث تدري (أو لا تدري)، تُزكي نفسها للحكم، أو لمعاودة الحكم، وتقدم أوراق اعتماد لا جديد فيها سوى الرهان على فشل الآخرين.
حسنًا، لسنا نجادل بشأن أهلية الأحزاب الدينية لممارسة الحكم والسياسة في دولنا ومجتمعاتنا، فإن نحن دخلنا من باب تسجيل المثالب والعيوب، فلن يبقى متسع في هذه المقالة، لقول شيء آخر.. وكاتب هذه السطور ليس من أنصار “الدولة الثيوقراطية”، بعد الإخفاق المتكرر لتجارب حكم الإسلاميين، في عدد من الدول العربية والإسلامية خلال العقدين الأخيرين على أقل تقدير.
لكن ذلك، لم يمنعنا من قبل، ولا يمنعنا اليوم، من طرح السؤال البدَهَي وهو: هل لهذه الاستعلائية والإحساس بالتفوق ما يبررهما في تجارب أحزابنا “العلمانية” على اختلاف مدارسها، إن في ممارسة الحكم أو حتى في أثناء الجلوس على مقاعد المعارضة؟
وبفرض أن تجارب حكم العلمانيين في السابق قد أخفقت، وأن ثمة إقرارًا بالفشل المتكرر من عاصمة إلى عاصمة، هل ثمة ما يشي بأن “القوم” قد تعلموا الدرس، وأجروا ما يتوجب عليهم من مراجعات واستخلاصات؟ هل هم اليوم في وضع أفضل مما كانوا عليه طوال العقود الستة أو السبعة الفائتة، حتى يصبح ممكنًا الرهان بأن عودتهم للحكم ستأتي بالخير العميم والمقيم لشعوب هذه المنطقة وبلدانها؟
في تجارب العلاقة بين إسلاميي المنطقة وعلمانييها، ثمة لعبة “تلاوم” مستمرة، وتراشق بالاتهامات المتبادلة، لا تنقطع، ينخرط فيها الطرفان بذات القوة والحماسة، ودائمًا بهدف تفادي ممارسة “النقد الذاتي”، فمن الأسهل لقادة هذه التيارات والأحزاب ومفكريها، إشهار “سلاح النقد” في وجه الخصوم والمجادلين، وإبقاء سيف “النقد الذاتي” في غِمده.
رأينا إسلاميين لا يتورعون عن تكفير العلمانيين وتخوينهم، ورأينا يساريين وقوميين وليبراليين، لا ينفكون عن اتهام الإسلاميين بالجهالة و”الدروشة” و”التخلف”، وأحيانًا بخدمة أجندات استعمارية، عن قصد أو من دونه.
ومن أسفٍ، فإن التنابذ بالاتهامات وتجنب ممارسة “النقد الذاتي”، لم يكن سمة مميزة للعلاقة بين إسلاميي المنطقة وعلمانييها فحسب، فداخل كل معسكر من المعسكرين، نرى أقدارًا متفاوتة من “الاتهام” و”الإلغاء”، إذ حتى داخل الفريق الواحد، رأينا أمرًا كهذا.
فالعلاقة بين اليسار والقوميين، تلطخت بدماء بعضهم البعض في غير ساحة، وفُتحت السجون لاستقبال المئات والألوف من قادةٍ ونشطاء عندما كانت الغلبة لصالح هذا الفريق أو ذاك، ولولا محاولات شكلية متواضعة التأثير، كالمؤتمرات القومية ومؤتمرات الأحزاب العربية، لقلنا إن الصراع وليس التعاون، هو السمة البارزة لتاريخ العلاقة بين هذين المكونين.
داخل المعسكر الواحد، لم تكن العلاقة بين حركة القوميين والناصريين وحزب البعث، علاقة تكامل وتعاون، برغم الخلفية الفكرية المتقاربة بين هذه المدارس الثلاث. وداخل صفوف البعث نفسه، كان “التآمر المتبادل” هو السمة التي طبعت العلاقة بين حكمي البعث في بغداد ودمشق.
أما اليسار فلم تستقر العلاقة بين أطرافه التقليدية “الأحزاب الشيوعية”، و”اليسار المقاوم”، إلا بعد مسار من التحولات قادتها الجبهتان الشعبية والديمقراطية صوب ماركسية – سوفياتية، وأخرى قادها الحزب الشيوعي اللبناني أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الفائت، نحو “شيوعية” متلاقية مع مندرجات المقاومة والتحرر الوطني.
الإسلاميون بدورهم واجهوا ما واجهوا، من صراعات بين جناحي الإسلام السياسي السنّي والشيعي، وداخل المدرسة السنيّة، بين سلفية وإخوانية وغيرهما، وداخل المدرسة الإخوانية، بين تيار حداثوي أقرب للإسلام التركي، وآخر أصولي، أكثر تشددًا وانغلاقًا، وعبرت هذه الخلافات عن نفسها بانشقاقات متتالية، وعمليات نزف أخرجت كثرة من القادة والمفكرين الإسلاميين من صفوف حاضنتهم الأم.
أما العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، فكانت شهدت نوعًا من التناغم في العقد الأول من القرن الحالي، بالذات بعد موجة المبادرات والمشاريع الإصلاحية التي أطلقتها الجماعات الإخوانية في منتصفه، والتي قرّبتها بدرجة كبيرة من خطاب الحركات اليسارية والقومية، لكن عقد الربيع العربي، واصطفاف كل فريق في معسكر مقابل الآخر، لا سيما بعد انتقال “شراراته” إلى سوريا، قد أعاد هذه العلاقة إلى مربع الصراع والصدام، وأفضى الخلاف، إلى تفكيك أو إضعاف “أطر تنسيقية” عدة، سبق أن نشأت في عشرية التعاون والتلاقي، تحت عنوان حفز الإصلاح والتغيير والدمقرطة في عالمنا العربي، بعد عقود من الركود.
الخلاصة الأولى: ليس الانقسام بين إسلاميين وعلمانيين بجديد، ولكنه يكتسب بعد كل التطورات التي أعقبت طوفان الأقصى، بعدًا جديدًا ومنحى مختلفًا.
والصراع ليس سمة العلاقة بين هذين المكونين فحسب، بل هو عابر لتيارات الفكر والسياسة في العالم العربي، وإذا كان سلاح النقد هو الأشد مضاءً في العلاقة بينها، إلا أن الغائب الأكبر عن حلبة السجال، هو “سلاح النقد الذاتي”.
استعلائية بلا مبرر
يحتاج العلمانيون العرب، إلى ما هو أكثر وأبعد من مجرد محاولة “تجريد الإسلاميين من أهليتهم” لممارسة الحكم والسياسة، حتى يضمنوا قبول أوراق اعتمادهم الجديدة – القديمة. يحتاجون للبرهنة على أن تجاربهم في الحكم كانت “قصص نجاح”، أو على أقل تقدير، أن يثبتوا لجمهورهم وجمهور غيرهم من الأحزاب والتيارات، أنهم تعلموا من دروس الفشل والإخفاق.
هذا لم يحدث حتى الآن، أو لم يحدث بالقدر المقنع، بل ثمة مؤشرات، أن بعض قوى ورموز هذه التيارات، قد فقدت هويتها، وتماهت مع قوى الفساد والاستبداد، وتحولت إلى أدوات لتجميل الصور القبيحة لدكتاتوريات و”دول عميقة”.
على هؤلاء ألا ينسوا، وأن يتذكروا صباح مساء، حقيقة أنه ما كان للإسلام السياسي على اختلاف مدارسه ومذاهبه، أن ينتشر على مساحة الخريطة المجتمعية العربية، لولا فشلهم هم. الفراغ الذي خلفته مدارس اليسار والقوميين في الحكم والمعارضة، ملأته قوتان لا ثالث لهما حتى الآن: “دول عميقة” و”حركات إسلامية”، أما “التيار الثالث” فظل في معظم، إن لم نقل جميع، دولنا، مجرد فكرةٍ أو حلمٍ، عصي على التحقيق.
هم يعرفون ذلك في قرارة أنفسهم، بيد أن المكابرة و”الكسل الفكري” ما زالا يحولان دون إقرارهم بذلك علنًا. فالهزيمة في 1967 لم تكن مجرد نكسة ناجمة عن قصور إجرائي يتحمل مسؤوليته هذا المسؤول أو ذاك، بل هو سياق لناصرية مشتبكة مع تيارات اليسار والإسلاميين (وحتى القوميين)، كان طبيعيًا أن تنتهي بـ”الساداتية” التي هي “ناصرية ما بعد النكسة” وامتداداتها.
والحركات القومية “المشرقية” لم تُخفق في إزالة آثار عدوان “سايكس- بيكو” فحسب، بل وجرّفت مجتمعاتنا وجوّفتها إلا من مؤسستين: الدين والقبيلة، فكان انفجار “الهويات القاتلة” نتاجًا طبيعيًا لمرحلة ما بعد صدام حسين في العراق، وما بعد آل الأسد في سوريا، وليبيا ما بعد القذافي.
وفي تجربته “اليتيمة” في الحكم، أخفق اليسار الاشتراكي (الماركسي) في جنوب اليمن في تقديم نموذج مغاير، فالحزب الاشتراكي اليمني، سليل “القوميين العرب”، وبعد أن لم يجد من يقاتله، قتّل نفسه وقادته وكوادره، وثورة الجنوب أكلت أبناءها تباعًا، تارة بحجة مواجهة الانحرافات اليمينية “قحطان” و”سالمين” و”علي عنتر”، وأخرى بحجة مواجهة اليسار “الرومانسي” وصولًا إلى مذبحة مدرسة الكادر، ودائمًا تحت شعار “الثورة والحزب يتقويان بالتخلص من العناصر المنحرفة والانتهازية والمتساقطة”!
ومقابل تآكل أو تلاشي أحزاب ملأت الأرض والفضاء، من ناصرية وبعثية وقومية، بدا اليسار في العقدين الفائتين تائهًا تمامًا. بعضه، ونكاية بالإسلام السياسي “الرجعي- المتخلف” (حسب وصفهم)، تلوّن بـ”البرتقالي”، وقبل على نفسه أن ينخرط في علاقة ذيلية- تبعية لأنظمة وحركات مستبدة، وبعضها مطعون في ولاءاته وتموضعاته وتحالفاته.
شيوعيون لبنانيون ساروا خلف سمير جعجع، عراقيون اصطفوا خلف أمراء الطوائف والمليشيات والأقوام، وباتوا يظهرون في خلفية صورهم، ومصريون تحولوا إلى جزء من ماكينة “الدولة العميقة” الدعائية، ويساريون عرب آخرون تماهوا أو كادوا يتماهون مع قوى وأنظمة، لا وظيفة لها سوى تأبيد حالة الاستلاب للهيمنة الغربية والإسرائيلية في المنطقة عمومًا.
آخرون، ممن احتفظوا بثوبهم “الأحمر”، وتحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة”، انخرطوا في علاقة “ذيلية- تبعية” أيضًا، ولكن مع حركات وجماعات الإسلام السياسي المسلحة، سنيّة أكانت أم شيعية، ولقد كنت شاهدًا على خطاب ألقاه قائد فلسطيني يساري راحل في طهران، ذات اجتماع لقوى المقاومة، استحضر فيه أقوالًا للإمام الخميني أكثر مما استخرج من مألوف قاموسه الثوري.
لم يتعلم هذا الفريق من دروس ما قبل النكسة، عندما رهن حركته الخاصة بنضج الحالة الناصرية، فترك أمر المبادرة في مقاومة الاحتلال لغيره، إلى أن صار مجرد فصيل في حركة وطنية، صبغتها “فتح” بطابعها وقيادتها وبرنامجها. سعى هذا الفريق في تقليد غيره واستعارة مفرداته، فكان كالغراب الذي حاول تقليد الحمامة، لا أتقن مشيتها ونسي مشيته.
اليوم، يستشعر فريق من العلمانيين، من يساريين وقوميين، أنه ما دام التيار الليبرالي العربي، لم تقم له قائمة بعد (حاضر اقتصاديًا وغائب سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا)، منذ أفول “النهضة والتنوير” في مفتتح القرن الفائت، فإن الوقت قد حان للانقضاض على خصم تاريخي، أصيب بضربات مميتة بفعل تداعيات الطوفان، وما أعقبها من تجدد حملات التطويق والشيطنة ومساعي الاستئصال التي تستهدف الإسلام السياسي والمسلح بكل مدارسه ومكوناته وكياناته.
يستشعر هذا الفريق، فائض قوة، ليست نابعة من قواعد اجتماعية كسبها وأعاد تنظيمها وتحشيدها، ولا من خطاب جرى تنقيحه ومراجعته وتطويره، فهو أضعف حتى من أن يجاهر بـ”علمانيته”، بل من رهانات داخلية على الدولة العميقة بأشكالها وصيغها وأدواتها المتفاوتة من حيث الشدّة واللين، ورهانات على “خارج” يستكلب في مطاردة المقاومات العربية وتجفيف حواضنها الشعبية، من دون تمييز بين من حمل السلاح أو من شاركه الفكرة والدعم والمناصرة.
والخلاصة الثانية: أن مشكلة هذا الفريق لا تكمن في أنه لم يتعلم من تجارب الآخرين، بل وفي أنه لم يتعلم من تجاربه الخاصة كذلك.
هو يقبل بأن يكون “مُستخدَمًا” في معركة ليست معركته، ويكتفي بما يقدم له من فتات المزايا والتسهيلات، التي إن كان لها من أثر، فهو تعميق حالة “التيه” التي ضربته ومن سبقه، بدل أن يضطلع بمسؤولياته التاريخية، في بلورة “قطب يساري” مستقل، برؤية جديدة وبرنامج جديد، وللحديث صلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.