سأبدأ مقالي هذا بتجربة شخصية مريرة جرت في الثالث عشر من الشهر الماضي (13-7-2024) حين دخلت خطأَ وأستاذ جامعي زميل لي إلى بؤرة استيطانية رعوية في منطقة “المعرجات” وسط الضفة الغربية ظنًا مني أنني بجوار تجمّع بدوي فلسطيني، لأفاجأ بأنني أمام خيام بدوية لا يقطنها البدوّ الفلسطينيون، بل استولّى عليها وطردهم منها  “فتية التلال”، وهي ذراع استيطانيّة تنشط للتنكيل بالفلسطينيين في الضفة الغربية.

بمجرّد اقترابنا من الموقع هاجمنا ثلاثة من المستوطنين داخل الجبل، وأخذوا قرارًا بإعدامنا على الفور، ولا يوجد سبب لخروجنا على قيد الحياة سوى عدم انتهاء الأجل، ولأنني انحدر من منطقة جنين، فقد زاد غضب المستوطنين الذين يتحدثون العربية، مطلقين الاتهامات بأننا إرهابيون، لم نكن نحن فقط الإرهابيين حسب وصفهم بل كل العالم: “الأمم المتحدة، الأونروا، الاتحاد الأوروبي.. الجميع إرهابيون”.

تهجير البدو

عمد أحد المستوطنين إلى جلب سكين فيما وضع آخر بندقيته على رأسي لإجباري على إمساكها من أجل وضع بصماتي عليها لاتهامي بالاعتداء عليهم. ضممت يدي، أُطلقت النار حولي، تم تمثيل مشهد إعدام لي عدة مرات، بعد ذلك تم تكبيلنا وعصب أعيننا وتلقينا ضربًا مبرحًا أفضى إلى كدمات في كل أنحاء الجسد.. فيما كان مستوطن يلقي التراب على رأسي وثالث يقوم بسلوك ساديّ تمثل في البصق المستمر على وجهي. استمر الوضع كذلك لساعات إلى حين حضور دورية لجيش الاحتلال، حيث تم استجوابنا، ومن ثم إطلاق سراحنا.

تسمى هذه البؤرة الرعوية مزرعة “هاشاش” وهي واحدة من ثماني بؤر رعوية استحدثت في منطقة “المعرجات” يقطن في كل واحدة منها بين (3- 5) مستوطنين فقط، لكنهم طردوا أكثر من (40) ألف بدوي، وسيطروا على عشرات آلاف الدونمات من أراضي “المعرجات” الواقعة بين شرق رام الله، وصولًا لأريحا.

ومن المثير للسخرية أن مستوطني هذه المنطقة تحديدًا يصنفون رسميًا لدى السلطات الإسرائيلية على أنهم “شبان في ضائقة” يحتاجون لإعادة تأهيل نفسي وبرامج تربوية لدمجهم في الحياة الاجتماعية بشكل يساعدهم على التخلص من “الاختلال النفسي”. يسيطر عدة مئات من المستوطنين الرعاة وغالبيتهم من هذه الفئة على نحو (380) ألف دونم في الضفة الغربية ويكون مصير أي فلسطيني يدخلها خطأ مشابهًا لما جرى معنا.

حسم المستوطنون الواقع في الضفة الغربية جغرافيًا، ولم تنتظر إسرائيل أنْ تحسمه ديمغرافيًا، وحوَلت تواجد الفلسطينيين الديمغرافي في الضفة إلى معضلة للفلسطينيين وليس لإسرائيل، بحيث تنضب الموارد من أرض ومياه ومصادر طبيعية من حولهم تدريجيًا فيما يزدادون سكانيًا ليكون أمامهم مصير واحد وهو الهجرة، وكأنّ هذا هو النتيجة الطبيعية النهائية لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني في الضفة اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا.

بمعنى أن الكتلة السكانية الفلسطينية والتي يصل تعداد سكانها إلى (3.4) ملايين نسمة حسب الإحصاء الفلسطيني لعام 2024، باتت معزولة داخل حدود البلدات والمدن وبالكاد تتمكن من التحرك على الطرق الرابطة بينها من خلال الحواجز العسكرية الإسرائيلية، ولا تتحكم سوى بنحو 10% فقط من مساحة الضفة الغربية، بينما يسيطر (517) ألف مستوطن فقط على (90%) من المجال الجغرافي في الضفة الغربية، ويتحكمون به، بل ويهاجمون الفلسطينيين داخل قراهم وبلداتهم، كما جرى في بلدة جيت قرب قلقيلية قبل أيام.

عاش الفلسطينيون طوال العقود الماضية دون إستراتيجية واضحة في التصدي للاستيطان في الضفة الغربية، وإذا كان المثل الدارج “أكلت يوم أكل الثور الأبيض” يقال في هكذا حالات فإن هذا المثل يعتبر وصفًا لطيفًا لما هو الحال عليه في التعامل مع الاستيطان في الضفة الغربية على الأقل في العقود الثلاثة الماضية التي تلت اتفاق أوسلو، حيث تُرك المواطنون في مناطق التماس وفق مبدأ: “اذهب أنت وربك فقاتلا”، وتعزز مبدأ الخلاص الفردي، وترك الضحايا يواجهون المستوطنين وحدهم.

أصبح المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية لا يتنقل بين المدن إلا للضرورة؛ لأن المستوطنين يرشقون المركبات بالحجارة على الطرقات، لم يكن الحال كذلك في سنوات انتفاضة الأقصى، حين كانت الشوارع خالية تمامًا من المستوطنين؛ خوفًا من المقاومة

تجفيف كل مقومات الحياة

بحسب أحد المصادر وخلال الأسابيع الأخيرة طلب مسؤولون في السلطة الفلسطينية من نشطاء المقاومة الشعبية في بلدة بيتا قرب نابلس تخفيف أنشطتهم المناهضة للاستيطان على جبل صبيح “العرمة”، حيث قدّم أهالي بيتا تضحيات جسيمة في سبيل الحفاظ عليه من الاستيطان؛ بحجة أن السلطة معنية بالهدوء في هذه الفترة. استهجن النشطاء ذلك الطلب، فلا توجد خطة لمقاومة الاستيطان، وفي المقابل حتى الجهد الشعبي المحدود والذاتي يراد تجفيف منابعه!

يعتبر البدو الفلسطينيون حراسَ البيدر الحقيقيين ضد الاستيطان طوال السنوات الماضية، ولإدراك الحركة الاستيطانية دورهم الأصيل في الانتشار في مساحات شاسعة في الضفة الغربية التي يستخدمونها مراعي ومضارب بدوية وجلها مناطق “ج” وحساسة وذات أهمية إستراتيجية، فقد عمدت إلى التنكيل بهم وترحيلهم وتجفيف كل مقومات الحياة لهم، ومصادرة مواشيهم، وهدم مضاربهم واستبدالهم بـ (36) بؤرة استيطانية رعوية تزداد تباعًا، وتتبع للصهيونية الدينية (الحريديم)، ونجحت في السنوات القليلة الماضية في الاستيلاء على 10% من مساحة الأراضي في الضفة، وهي أكبر من المساحة المبنية لجميع المستوطنات منذ عام 1967.

فمثلًا بضع مئات من المستوطنين الرعاة يعملون على طرد الفلسطينيين البدو من كامل شرق ما يعرف بخط آلون الرابط بين القدس وأريحا، يعني ذلك السيطرة التامة على نحو ثلث الضفة الغربية والتواصل الجغرافي الكامل بين فضاء المستوطنات.

ترك البدو في معركتهم وحدهم إلا من بعض الأنشطة الخجولة جلها لالتقاط الصور دون إستراتيجية عملية واضحة حتى وصلنا إلى مرحلة تم فيها تهجير غالبية البدو دونما إدراك واضح لأهميتهم الإستراتيجية في حماية الجبال والتلال والفضاءات التي تشكل مراعيَ الضفة الغربية. يتحدث البدو بمرارة شديدة عن الخذلان وقد ضاعت الأرض تباعًا.

لا تعتبر إسرائيل الفلسطينيين موجودين أصلًا في خارطة الضفة الغربية، فهي تقسم الضفة الغربية إلى سبع محافظات تمثل كامل مساحة الضفة الغربية يطلق عليها ” المجالس الاستيطانية الإقليمية”، وهي إضافة إلى بلدية القدس التي لا يُعترفُ بها إسرائيليًا بأنها جزء من الضفة الغربية: شومرون ويضم (31) مستوطنة، بنيامين ويضم (54) مستوطنة، بكعات هيردين ويضم (21) مستوطنة، مغيلوت ويضم (6) مستوطنات، غوش عتصيون ويضم (14) مستوطنة، هار حفرون: وهو يضم (16) مستوطنة. يعني ذلك أن نابلس وجنين ورام الله وأريحا أقدم المدن المأهولة في العالم وبيت لحم مهد السيد المسيح وباقي المحافظات غير موجودة.

يرأس مجلس مستوطنات الضفة الغربية المتطرف يوسي دغان، وهو أحد المقربين من وزير المالية الإسرائيلي ورئيس الحركة الصهيونية بتسلئيل سموتريتش، وهو الراعي الرسمي أيضًا لعصابات “فتية التلال” الذين تمثلهم جمعيات أهلية مرخصة وتتلقى دعمًا حكوميًا إسرائيليًا منتظمًا، وهي جمعيات: “حراس يهودا والسامرة، أمانا، نحالا.. وغيرها من الجمعيات”، ولها امتدادات في الولايات المتحدة الأميركية.

حيث إن الولايات المتحدة الأميركية هي الراعي الرئيسي للاستيطان في الضفة الغربية من خلال الدعم المالي الذي تقدمه اللوبيات الداعمة لإسرائيل لهذه الجمعيات، أضف إلى ذلك أن الموقف الأميركي الرسمي من الاستيطان ينقسم بين موقف الديمقراطيين الذين يعتبرون الاستيطان “مجرد عقبة أمام السلام”، وبين الجمهوريين الذين يعتبرون الضفة الغربية مساحة مشتركة للفلسطينيين والإسرائيليين.

الحاجة إلى سياسة داعمة

يقتصر التواجد الفلسطيني الجغرافي المتصل اليوم فقط في أجزاء من منطقة جنين، بينما يتمثل التواجد الفلسطيني خارج هذه المنطقة فقط في مراكز التجمعات السكانية من مدن وقرى ومساحات محدودة من الأراضي في محيطها، والباقي يقع بشكل كامل ومطلق تحت سيطرة المستوطنين؛ حتى إن الحكومة الإسرائيلية صادقت مؤخرًا على إقامة خمس مستوطنات جديدة، وهي: “جفعات أساف”، “أفيتار”، “أدوريم”، “حيلتس”، و”سديه إفرايم”، بهدف منع التواصل الجغرافي بين بلدات فلسطينية في مناطق (ب) وليس (ج). أي أن الضفة الغربية قد حسمت جغرافيًا بالفعل لصالح المستوطنين.

يستهجن كثيرون بغضب اعتداءات المستوطنين الأخيرة على الفلسطينيين داخل بلداتهم. قبل أيام قُتل مواطن، وأصيب آخرون، وأحرقت منازل في بلدة جيت، وقبلها في المغير قرب رام الله وحوارة قرب نابلس، حقيقة هذا استهجان سخيف للغاية؛ لأن المنطق يقول ولماذا لا يفعلون ذلك؟ لديهم مخطط واضح وصريح ومعلن للسيطرة المطلقة على الضفة الغربية، فيما أدى التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى تحجيم كل مقومات المنعة لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية، فممن يخاف المستوطنون؟

أصبح المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية لا يتنقل بين المدن إلا للضرورة؛ لأن المستوطنين يرشقون المركبات بالحجارة على الطرقات، لم يكن الحال كذلك في سنوات انتفاضة الأقصى، حين كانت الشوارع خالية تمامًا من المستوطنين؛ خوفًا من المقاومة.

يبرر المواطنون اليوم في البلدات التي يتم الهجوم عليها من قبل المستوطنين عدم تصديهم للمستوطنين بالقول إن من يقوم بعمل ما “تقع في رأسه” فرديًا ولا يقف معه أحد، يقولون نحن بحاجة إلى سياسة وطنية داعمة وسلوك جمعي تجاه المستوطنين تقوده السلطة الفلسطينية، وتقوم من خلاله الأجهزة الأمنية بدورها في حماية المواطنين في هذه المناطق، عندئذ يأتي الحراك الشعبي المساند، لكن ذلك لا يحدث، فيصبح البحث عن الخلاص الفردي هو السلوك السائد.

فعليًا وعلى أرض الواقع لم يبقَ للمستوطنين سوى خطوات قليلة باتجاه حسم الصراع على الضفة الغربية إنْ لم تتغير الحالة الأمنية القابضة على الضفة الغربية، فالخطوة التالية للمستوطنين بدعم من جيش الاحتلال هي إقامة أسلاك شائكة في محيط المدن والبلدات، ومنع الخروج والدخول منها إلا من خلال بوابات، وهذا مطبق جزئيًا على بعض القرى في الضفة الغربية مثل عزون وغيرها، والخطوة التي تليها التهجير الخشن أو الناعم، لا يوجد أي سيناريو ثالث في ظل الوضع الراهن والسياسات الراهنة، إلا أنْ يأخذ الشعب سيناريو آخر مرتبطًا بتعظيم المقاومة الشاملة.

لا يرتبط ذلك على الإطلاق بالحرب على غزة، إذ إن حالات الحرق في حوارة وترمسعيا، جُربت قبل ذلك بفترة طويلة، فهو مشروع يمتدّ لعقود. قال بتسلئيل سموتريتش زعيم المستوطنين والصهيونية الدينية في تصريحاته الشهيرة قبل عامين: “إن المستوطنين يفرضون سيطرتهم التامة والمطلقة على الضفة الغربية، وإنه لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، وهو ليس إلا اختراعًا يعود عمره إلى أقل من 100 سنة، وإن على الفلسطينيين أن يقبلوا بهذه السيطرة التامة، وليس أمامهم إلا الرحيل، أو القبول بهذا الواقع أو القتل”.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version