استئنافًا للنقاش الذي بدأناه في المقال السابق حول دلالات الحرب التي خاضتها إسرائيل ضد إيران وانتهت 24 يونيو/ حزيران الماضي على مستقبل دولة الكيان الصهيوني، فإننا نتوقف هنا عند صراع السردية بين كل من البلدين والذي بدأ قبل تلك الحرب العسكرية ويستمر بعدها.

فإذا كان الصراع الإسرائيلي- الإيراني صراعًا حول النفوذ في المنطقة من جهة، وحربًا بالوكالة ضد محور المقاومة، فإن الأمر بالنهاية هو صراع سرديات وهُويات؛ السردية الغربية الأميركية والأوروبية التي تنظر إلى إيران كتهديد للأمن الدولي وكتهديد لأمن إسرائيل، الممثل الشرعي للحضارة الغربية والمدنية المتقدمة، مقابل سردية المقاومة: مقاومة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية العالمية، التي جعلت من إسرائيل تهديدًا حقيقيًا لمنطقة الشرق الأوسط ولعموم العالم العربي؛ بسبب أطماع إسرائيل التوراتية في بناء إسرائيل الكبرى، أو ما يسميه نتنياهو وعموم اليمين التوراتي الإسرائيلي والصهيوني بإسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الجديد.

وإذا علمنا أن السردية العربية والإسلامية عمومًا، ومن داخلها السردية الإيرانية ضد الصهيونية والحق الفلسطيني، هي سردية عالمية بدليل مناصرة مختلف شعوب العالم الحرة للحق الفلسطيني والتنديد غير المسبوق بالصهيونية وبإسرائيل في حرب إبادتها ضد الفلسطينيين في غزة، فإن هذه السردية بات يتقاسمها اليوم عدد كبير من يهود إسرائيل ويهود العالم من مفكرين وصحفيين وكتّاب وفاعلين في المجتمع المدني من دعاة السلام من داخل إسرائيل نفسها.

وقد رأينا تصاعد الآراء الرافضة للإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي قامت بها إسرائيل في غزة، ولنا برهان على ذلك في أمثال نعوم تشومسكي، وإيلان بابيه، وأبراهام ملستر، وأفي شلايم، وليام عمريوف، ويعقوب رابكن… وغيرهم كثر.

ضمن هذا الأفق الرافض للتوحش الصهيوني، تصاعدت أصوات يهودية في مختلف دول العالم، وخاصة في الغرب منددة بالحرب الإسرائيلية الإيرانية، معتبرة أن إسرائيل هي من يشكل تهديدًا على إيران وليس العكس.

وهو ما كان قد أشار إليه المؤرخ أفي شلايم في مقابلة مع قناة الجزيرة الوثائقية 20 يونيو/ حزيران 2018، معتبرًا أن “إسرائيل تشكل تهديدًا على إيران منذ أربعين سنة، فإيران لم تهاجم أبدًا إسرائيل، وإيران وقعت على اتفاقية منع انتشار السلاح النووي، في حين إسرائيل رفضت، وإسرائيل تمتلك سلاحًا نوويًا بينما إيران لا تمتلكه، وإسرائيل لم تتوقف عن شن حملات كلها كذب ونفاق وتلفيق لتأليب الرأي العالمي والغربي ضد إيران وليس العكس”.

و”أفي شلايم” اليهودي من أصل عراقي، الذي ألف كتاب “العوالم الثلاثة: مذكرات عربي -يهودي” الصادر سنة 2024، يعتبر من أهم الأصوات التي تعارض الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وهو مؤسس مدرسة المؤرخين الجدد في تاريخ إسرائيل، إلى جانب إيلان بابيه وبيني موريس اللذين نقدا الرواية الإسرائيلية حول تأسيس إسرائيل، بالاعتماد على الأرشيف الإسرائيلي لدحض كثير من الروايات الصهيونية.

ضمن هذا السياق، تعالت أصوات الكثير من الصحفيين والمثقفين الإعلاميين الغربيين من أصل يهودي، وحتى إسرائيليين، لم يترددوا في معارضة هجوم إسرائيل على إيران الشهر الماضي، ومن بينهم الروائي والصحفي الإسرائيلي ديفيد غروسمان، الذي كتب مقالًا في صحيفة هآرتس انتقد فيه بشدة دعوات إسرائيل لشن هجوم أحادي الجانب على إيران.

داعيًا إلى التعبئة العامة والتوعية الشعبية لمنع الحرب على إيران، حيث نبه، قبل بداية الحرب، إلى الخطر المحدق بإسرائيل والمنطقة جراء الحرب. ومشددًا على العواقب الأخلاقية والتصعيد العنيف الذي سيجر المنطقة إلى حرب شاملة تتنافى مع الأخلاق الإنسانية.

فيما استشهدت المحللة السياسية اليهودية الإسرائيلية داليا شيندلين باستطلاع رأي “مؤشر السلام” الذي يُظهر أن 61% من اليهود الإسرائيليين عارضوا شن هجوم أحادي الجانب على إيران، موضحة أن تأثير ذلك على المعاناة اليومية للإسرائيليين، بعيد كل البعد عن المخاوف الأمنية، والتي لن تجعلهم في مأمن أبدًا، داعية إلى العمل المدني والمسؤولية الأخلاقية في مواجهة الصراع، الذي يجب أن يحل بالطرق السلمية.

فيما ذهب المحامي والباحث الإسرائيلي إيتاي ماك في مقال بصحيفة هآرتس إلى أن دولته بالفعل خسرت الحرب ضد إيران عندما أطلقت أول صاروخ، ذلك أن الحرب على إيران كانت تفتقر إلى أهداف واقعية، على غرار ما حدث ويحدث في غزة، وأن الجهة الوحيدة التي لها رأي في نظام إيران هم الإيرانيون وليس إسرائيل، وأن هذه الحرب لن تؤدي إلا تحميل إسرائيل كلفة باهظة وأنها -أي إسرائيل- ستجد نفسها في وضع مزرٍ بعد الدخول في المفاوضات.

وأضاف أن الخاسر ليس إسرائيل فحسب، بل الولايات المتحدة بزعامة دونالد ترامب، منتقدًا نتنياهو الذي يعتبره غير مبالٍ بما يحدث للإسرائيليين. ولهذا اعتبر أن دولته فقدت كل أوراقها وباتت في موقف ضعف، خاصة بعد الميل الواضح للمجتمع الدولي للحل الدبلوماسي للصراع.

وفي تصريحات لعدد من وسائل الإعلام أكد الكاتب الصحفي الكندي اليهودي رون ماتي، أنه لا يحق لإسرائيل الهجوم على إيران، وأن ذلك العدوان كان ضربًا للقانون الدولي، وأن مبررات تلك الحرب كانت واهية، سبق استعمالها في العراق، وأن إيران لا تشكل تهديدًا لإسرائيل ولا تملك سلاحًا نوويًا، واعتبر أن الطغيان الإسرائيلي بدعم أميركي هو سبب الأزمات في الشرق الأوسط، واصفًا السلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين بالسادي.

هذه الأصوات وأخرى كثيرة لم تكن رافضة للحرب بعد وقوعها، بل هناك أصوات رفضت هذا المسعى العسكري من الأصل، فقبل بداية الحرب الإسرائيلية على إيران أعلن المفكر الإسرائيلي اليهودي بيتر بينارت في صحيفة “ذي أتلانتيك”، ضرورة سعي الولايات المتحدة الأميركية لإنهاء الحرب الباردة مع إيران، معتبرًا أن الحروب المدنية في الشرق الأوسط، وما يسمى “الحرب الباردة ليست باردة” لأن فيها عملياتِ قتلٍ ودمارٍ.

وهذا ما حدث فعلًا في سوريا واليمن، وأن من شأن الخروج من التوتر أن ينتشر الأمن ويعم السلام والاستقرار في المنطقة، وأن دعم الديمقراطية للشعب الإيراني ضد حكم الملالي الاستبدادي يأتي بالسلم، وخفض التوتر بدل الصراع والعنف.

فيما ذهب المفكر الإسرائيلي حجاي رام إلى كون هذه الحرب نتيجة حتمية لمتخيلات إسرائيلية غير واقعية ضد التهديد الإيراني، معتبرًا، في انتصاره للفكر المناهض للكولونيالية، أن المتخيل الإسرائيلي تجاه إيران وليد خطاب كولونيالي كلاسيكي تنميطي وجب تفكيكه.

وفي كتابه المهم للغاية: ” ثقوب الخطاب الإسرائيلي حول إيران” الصادر سنة 2007، سبق أن وضح حجاي أن الكثير من الإسرائيليين كانوا ولا يزالون شركاء في الفرضيات الصنمية التي شكلت وتشكل بنيات تحتية لمجموعة تخيلات فانتازية بشأن إيران.

تأسيسًا على ما سبق، لعب الرأي العام الإسرائيلي الداخلي والخارجي على حد سواء دورًا كبيرًا في الإسراع بوقف الحرب بين الطرفين، مفضلًا الحلول الدبلوماسية للصراع في الشرق الأوسط.

وهو رأي عبّرَ عنه الكثير من المقالات الصحفية والإعلامية، حيث اعتبر الخبير الأمني والعسكري يوسي ميلمان أنه لم يكن من داعٍ للدخول في هذه الحرب، خاصة أن أبناء المذهب الشيعي في إيران وغيرها مستعدون تاريخيًا للتضحية، ومعتبرًا هذه الحرب جنونًا وجب وقفه في أسرع وقت ممكن، فيما اعتبر عاموس هرئيل في صحيفة هآرتس أن القيادة الإيرانية راديكالية، لكنها عقلانية، مؤكدًا أن إسرائيل أمام وضع صعب في ظل بروز القوة الإيرانية.

وقد نبّه الباحث راز تسميت إلى أن إيران ليست هي حزب الله أو حماس، ولهذا يجب عدم المبالغة في حلم إسقاط النظام الإيراني. ذلك أن النخبة السياسية والأمنية جد متماسكة رغم كل شيء.

وعن عبثية هذه الحرب وعدم جدواها في منع إيران من السلاح النووي، اعتبر المفكر اليهودي ديمتري تشومسكي أن هذه الحرب إن كانت ستقوي شيئًا، فإنها ستقوي رغبة إيران في الوصول إلى السلاح النووي، ولسان شعبها يقول لو كان لدينا سلاح نووي لما تجرأت إسرائيل على عدوانها وحربها.

إن الوضع المزري الذي عاشه الإسرائيليون طوال أيام الحرب، والكوارث الصحية التي أصبتهم في الملاجئ، وكذا انتشار أمراض وأعراض صحية غريبة؛ بسبب غياب شروط السلامة الصحية في الملاجئ.

ناهيك عن نوبات الهلع والخوف التي عاشوها طوال هذه المدة، ونزوح آلاف الإسرائيليين عبر الحدود الأردنية والمصرية، ومنها إلى بلدان أوروبية وأميركا، دون احتساب حجم الدمار الذي أصاب البنيات التحتية، العسكرية والمدنية، والجرحى والقتلى في صفوفهم، وهو ما أشارت له مختلف القنوات الإعلامية الإسرائيلية، كل ذلك جعل السردية الإسرائيلية تتعرض لضربات موجعة على مستوى المتخيل والذاكرة الجماعية، وهو ما دفعها حسب الإعلام الأميركي، وخاصة وول ستريت جورنال، تستعطف ترامب من أجل وقف الحرب مع إيران .

وضمن هذا السياق، صرح الكاتب الإسرائيلي ألون مزراحي في هآرتس، بأن الإيرانيين ليسوا ساذجين ولا أغبياء، لديهم خطة “تحلٍّ بالصبر”.. لقد فازوا بالفعل في الجولة الأخيرة فوزًا ساحقًا، على الأرجح لم ينتهِ الأمر بعد، لكن لا أحد يخدعهم”.

وبين شرعية الحرب وشرعية الوجود السلمي لإسرائيل، يبقى التهديد الحقيقي ليهود إسرائيل هو الصهيونية، وليس أي بلد عربي أو إسلامي.

ولعلنا نجد في تصريحات الكاتب الصحفي اليهودي المقيم في ألمانيا مارتن جاك لوكالة الأناضول ما يفي بالمعنى والدلالة، قائلًا:” إن الهجمات التي نفذتها إسرائيل في المنطقة غير شرعية، وتهدف إلى محو منطقة الشرق الأوسط بأكملها تمهيدًا لمشروع ” إسرائيل الكبرى”.

ولهذا ما جرى من حروب لا يمكن وصفها بهجوم وقائي أو دفاع مشروع، لأنه ببساطة تدمير واستئصال وقائي يستهدف الشرق الأوسط بأكمله، وهو ما شمل حرب غزة ولبنان وسوريا واليمن وإيران”.

وإذا لم تكن إيران يومًا تهدف إلى استئصال اليهود، فإن ادعاءات إسرائيل الصهيونية، لا تكذبها الوقائع التاريخية على الأرض فحسب، وبدليل وجود طائفة يهودية في إيران منذ عقود، بل إن صحفيين غربيين كثرًا فككوا هذه المزاعم والادعاءات الكاذبة.

وها هو الصحفي اليهودي الأميركي لاري كولر، والذي يعمل في صحيفة يهودية مؤيدة لإسرائيل:” ذي فورورد”، يقر بأنه خلال زيارته لإيران لم يجد أدلة دامغة على وجود رغبة في تدمير إسرائيل كما يقول معارضو الاتفاق النووي مع طهران.

كما يتلقى اليهود في إيران معاملة حسنة ويتجولون في الشوارع بحرية وهم يضعون الطاقية اليهودية، مؤكدًا أن الشعب الإيراني منفتح، وأن هناك بين رجال الدين الإيرانيين رفيعي المستوى من يؤمن بحل الدولتين حسب ما أكدته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في تقريرها حول زيارة لاري كولر لإيران.

إن التيار الفكري والثقافي المناهض للصهيونية والذي برز بقوة في حرب الإبادة على غزة، وفي حرب إسرائيل على إيران، يعكس في العمق ما ذهب إليه المستشار الألماني فريدرش ميرتس بأن “إسرائيل تقوم بأعمالنا القذرة في إيران”، وهو تصريح يترجم بشكل جلي العلاقة المعقدة بين الغرب وإسرائيل على قاعدة استعمارية واستيطانية، كما يبرز دورها الوظيفي الممثل للحضارة الغربية ومركزيتها الاستشراقية في النظر إلى الشرق الأوسط وعموم العالم العربي والإسلامي.

وهذه القذارة هي ما ينال تدريجيًا وبشكل تصاعدي من حلم إسرائيل بالأمن والأمان، ويجعل التهديد يأتي من الغرب وإسرائيل أنفسهما، وليس من العالم العربي والإسلامي.

إن إسرائيل، ممثل الغرب، تحمل في جوفها بذور أفولها وأفول الغرب معها، وهو ما يذهب إليه إيلان بابيه، والحاخام ديفيد وايز، والمفكر اليهودي توماس فريدمان، والمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، والناشط الحقوقي سيون أسيدون، والمفكر اليهودي جون روز، والروائي ليو دي ونتر، والجنرال أورين شاحور، قائد الاستخبارات الإسرائيلية السابق، والسياسي والأكاديمي يوسي بورغ… إلخ.

وإذا كانت هذه الرؤى لمفكرين ورجال دين وإعلاميين، بل وحتى بعض العسكريين، فإن المؤكد أن إعادة النظر في السردية الغربية والإسرائيلية المؤسسة على قاعدة صهيونية استيطانية باتت أمرًا ملحًا من أجل السلام والاستقرار في العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط.

على سبيل الختم:

إن الشرخ الذي أصاب الذاكرة الجماعية لليهود في إسرائيل وخارجها، جراء سلسلة الحروب التي خاضتها إسرائيل في الشرق الأوسط، وموجات العداء والكراهية التي بثتها في نفوس الشعوب في العالم، بما في ذلك الغرب، والدليل هو استمرار التصريحات المناهضة لإسرائيل من مفكرين ومثقفين وإعلاميين وسياسيين في الصحف الغربية ومواقع التواصل الاجتماعي، رغم حملات التضييق والمحاكمات الجائرة، جعل صورة الإسرائيلي وصورة إسرائيل تتعرض لانتكاسة غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل منذ 1948.

كما جعل الرأي العام الذي خرج ويخرج في مظاهرات كثيفة ومليونية في مختلف العواصم الأوروبية والعربية والإسلامية والكونية بشكل عام يعيد قراءة السردية الإسرائيلية التي لم تعد منفصلة اليوم عن السردية الصهيونية الاستعمارية والاستيطانية، وهو ما يؤشر على أن نهاية هذه السردية وسقوط هيبة إسرائيلقد بدأت بالفعل مباشرة بعد طوفان الأقصى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version