في الشهور الأخيرة، تبلورت في مراكز العصف الذهني الغربية نقاشات حول معنى مفهومَي الهزيمة والنصر في الحروب المعاصرة. بدأ هذا النقاش مع انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان، وعودة طالبان إلى الحكم. فهل كان ذلك هزيمة لأميركا ونصرًا لطالبان؟

في حقيقة الأمر، لكل طرف سرديته التي يوثّق بها رؤيته. لكن عودة طالبان، التي أرادت أميركا محوها بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، تؤكد أن النصر المؤقت الكاسح قد يخفي في داخله هزيمة غير مرئية، يشاهدها من يحلل الوضع على المدى البعيد.

في الحروب المعاصرة، النصر والهزيمة لهما معانٍ تختلف عن معاني الماضي. قديمًا وحتى الحرب العالمية الثانية، كان اكتساح الجيوش في الحروب التقليدية كفيلًا بحسم الحرب وإعلان الانتصار. والآن، تشير سردية الحروب في العقود الأخيرة إلى مقاتلين أقل تقنية قد يدمّرون جيوشًا ذات تقنية وإمكانات أعلى. فلم يعد السلاح وقوته التدميرية كافيَين لحسم الحرب.

هذا ما يجعل النقاش حادًا حول كلفة الحرب ونتائجها. ففي حرب غزة الأخيرة، تعاملت إسرائيل مع حماس بنفس المفهوم القديم، فأعلنت لجمهورها وأنصارها على الصعيد الدولي، أهدافًا للحرب تنصّ على إنهاء سيطرة حماس على غزة واستعادة الرهائن الإسرائيليين. لكن كلا الهدفَين لن يتحققا بالحرب. صحيح أن إسرائيل سيطرت على غزة حتى خط حدودها مع مصر، لكن حماس ظلت تعمل على الأرض، مستنزفة الجيش الإسرائيلي الذي يضعف يومًا بعد يوم.

ورغم أن الخسائر البشرية في غزة صعبة ومؤلمة، فإن الفلسطينيين لم يتركوا أرضهم تحت ضغط الحرب، مخالفين بذلك ما اعتادته إسرائيل في حروبها السابقة. فقد أصبحت الأرض لدى الفلسطينيين موازية للحياة. من جهة أخرى، نجحت حماس في شيطنة إسرائيل إعلاميًا، مما أفقد الأخيرة قدرتها على لعب دور الضحية كما في الحروب السابقة. كما عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، مع الاعتراف دوليًا بأن احتلال إسرائيل لغزة لم يعد مقبولًا.

لا تدرك إسرائيل بعدُ أن احتلالها غزة سيؤدي إلى تنامي بيئة أكثر شراسة وعداءً لها على المدى البعيد، حيث لن يتسامح أي غزيّ معها، وأن إغلاق المجال السياسي وتشديد العنف في الحرب يمثلان “قبلة حياة” مستدامة لحماس. وعلى هذا المنوال، فالاعتقاد بأن جنوب إسرائيل سيكون في مأمن بعد هذه الحرب هو مجرد وهم؛ إذ ستظل هذه الجبهة مصدر استنزاف دائم لها.

ربما يكون اجتياح غزة نوعًا من النصر العسكري، لكن الهزيمة الإستراتيجية لإسرائيل ستتمثل في فقدانها عددًا من داعميها التقليديين. فالوعي الغربي أصبح قلقًا من العنف الذي تمارسه، وصورتها التقليدية باتت في مهب الريح.

ومع انتهاء الحرب، ستواجه إسرائيل مشاهد صادمة على الصعيد الداخلي، تبدأ من أزمة اقتصادية طاحنة؛ حيث يتم التعتيم على الخسائر الاقتصادية في ظلّ ضجيج الحرب. خسائر المصانع والمزارع وقطاع التكنولوجيا كبيرة، وتزايدت منذ بداية الحرب.

تُضاف إلى ذلك الخسائر البشرية الكبيرة، حيث سيخرج المواطن الإسرائيلي من الحرب وهو يعاني معاناة غير مسبوقة. هذه الواحة المدعومة غربيًا لم يعد لدى داعميها القدرة على الاستمرار في مساندتها بلا حدود، خاصة مع الإنهاك الذي يعانيه الغرب؛ بسبب الحرب الأوكرانية الروسية.

وتجسد الحرب في أوكرانيا مفهوم النصر والهزيمة المعقد. فلا روسيا حققت انتصارًا حاسمًا، ولا الغرب وصل إلى أهدافه. لكن روسيا نجحت في استنزاف الغرب اقتصاديًا، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم. وخسرت اقتصادات أوروبا كثيرًا؛ نتيجة دعمها غير المحدود لأوكرانيا، بينما يعاني الأوكرانيون من الاستنزاف البشري، وهو تكلفة عالية بالنسبة لهم، لا نعلم إلى متى سيظلون قادرين على تحمّلها.

تتزايد الهجرة من أوكرانيا، وقد لا تعود أعداد كبيرة من المهاجرين؛ بسبب طول أمد الحرب واستقرارهم في دول المهجر. تخوض أوكرانيا حربًا تقليدية تعتمد على الدبابات والمدافع، بينما تجمع روسيا بين الحرب التقليدية والهجمات السيبرانية. جعلت روسيا من الطائرات المسيرة وتحطيم مراكز المعلومات والبنية التحتية والوقود الأوكرانية هدفًا دائمًا.

صحيح أن روسيا واجهت إخفاقات واستُنزفت اقتصاديًا، لكن الغرب لم يستطع قياس قدرة موسكو على تحمل العقوبات الاقتصادية بشكل جيد. في ظل هذه الظروف، قد يكون دفع شركات السلاح الأميركية نحو استمرار الحرب لتعظيم أرباحها كارثة على الجميع.

ستخرج روسيا من هذه الحرب بخسائر ومكاسب متوازنة، لكنها ستبقى دولة يُخشى جانبها، بعد أن ظن الغرب لعقود أن الحروب الكبرى أصبحت بعيدة عن أبوابه. ومع ذلك، فإن الرابح الأكبر من هذه الحروب هي الصين.

استغلت الصين تراجع قوة الغرب وانشغاله بحربين منهكتين (غزة وأوكرانيا)، لتوسّع نفوذها السياسي والاقتصادي. في أفغانستان، تضخ الصين استثمارات وتبني مصالحها في إطار ملء الفراغ الذي تركه الحصار الغربي. وفي أفريقيا، تمدّ نفوذها – ومعها روسيا – على حساب الغرب، وخاصة فرنسا التي تعاني من أزمات سياسية واقتصادية.

“من المنتصر ومن المهزوم في الحروب الحديثة؟” أصبح أمرًا محل نقاش. فالحروب الحالية لا تنهي الخصم، لكنها تضعفه وتحد من خطورته لفترة زمنية. حتى المهزوم يمكنه أن يلحق أضرارًا بالغة بالطرف الآخر، تهدد أمنه ووجوده.

هذا ما يحدث في غزة وأوكرانيا؛ إذ تحاول إسرائيل تحقيق نصر بأي ثمن، لكنها قد تدفع ثمنًا باهظًا على المدى البعيد. وفي أوكرانيا، ستحقق روسيا انتصارًا عسكريًا محدودًا، لكن الجراح الاقتصادية والبشرية ستكون مؤلمة، وذلك رغم ما توقعه في أوكرانيا من خسائر فادحة تشمل الخسائر البشرية والاقتصادية.

في الحروب الحالية والقادمة، لن يوجد منتصر يرفع راية النصر، ولا مهزوم يرفع راية الاستسلام. نحن أمام أوضاع معقدة وصعبة، تتطلب خيالًا سياسيًا لحلّها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version