في تقرير مكوَّن من 50 صفحة، ناقشت الأكاديمية الوطنية للاستخبارات MIA التابعة للمخابرات التركية MIT، تأثيرات الفوز العريض الذي حققه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وآثاره المحتملة على العالم، وتركيا بصفة خاصة.

إن السرعة التي أُنجز بها التقرير، تعكس الاهتمام البالغ الذي كانت توليه تركيا للانتخابات، والسيناريوهات التي كانت تعمل عليها المراكز البحثية ذات الصلة والمرتبطة بدوائر صنع القرار، ومن غير المستبعد – بطبيعة الحال – أن يكون جزءٌ كبيرٌ من الورقة البحثية تم إنجازه قبل الاقتراع، ضمن تقدير موقف موسع في حال فوز أي من المرشحين، مع تضمينها النتائج في نهايتها عقب فوز ترامب.

كما أن خروج التقرير من مركز بحثي تابع لجهاز الاستخبارات، يؤشر إلى أهمية المخرجات والتوصيات، لإمكانية الاستعانة بها في تخطيط ورسم السياسات التركية المستقبلية، بشأن التعامل مع إدارة ترامب خلال السنوات الأربع المقبلة.

يتكون التقرير من مقدمة وخمسة فصول، يتناول الفصل الأول النظام الانتخابي الأميركي، فيما يتناول الثاني، أهمية هذه الانتخابات والعوامل الحاسمة فيها، أما الثالث فيتحدث عن الخطوط العريضة لحملة ترامب الانتخابية.

لكننا في هذا المقال سنركز على الفصلين: الرابع والخامس، اللذين يتناولان بالترتيب، رؤية ترامب وفريقه للسياسة الخارجية، ثم الآثار المحتملة لفوزه على تركيا.

مدخل إلى سياسة ترامب الخارجية

إن المدخل العام لفهم “الترامبية” الجديدة  سواء في الداخل أو الخارج، هو استخدام مفهوم “أميركا أولًا” مدخلًا لتفسير السلوك السياسي المرتقب.

فهذا المفهوم في حقيقته مزيج ما بين الأفكار الجمهورية التقليدية المحافظة، ورؤى حركة (MAGA) التي أسسها ترامب عام 2016، واشتق اسمها من شعار حملته الرئاسية آنذاك “اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، والتي تعبر عن أفكار ترامب المؤمنة بضرورة استعادة قوة الولايات المتحدة، داخليًا وخارجيًا.

إذ يرى التقرير أن ترامب سيعمل على تنفيذ تلك الأفكار بقوة، من خلال اتباع سياسات حمائية في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والطاقة؛ لتحقيق أكبر استفادة ممكنة تصب في صالح التفوق الأميركي.

ورغم أن ترامب وعد في حملاته الانتخابية بالحد من تورط بلاده في الصراعات الخارجية، إلا أن التقرير ينبه إلى أن ذلك لا يعني تبني “سياسة انعزالية كلاسيكية”، بل سيستمر في اتباع نهج “القوة الرادعة العقابية” التي اعتمدها خلال ولايته الرئاسية الأولى ضد الصين، وإيران، وسوريا.

كما يشير التقرير إلى استمرار سياسة “إستراتيجية الغموض” التي اعتمدها ترامب خلال رئاسته الأولى، من خلال عدة أدوات، مثل: استخدام القوة غير المباشرة، وتنوع أساليب القوة ما بين وسائل الإكراه العسكرية والاقتصادية، ومهادنة الحلفاء في بعض القضايا، في مقابل الضغط عليهم للمساهمة في الردع في قضايا أخرى.

وبالانتقال إلى ملف حل النزاعات العالمية التي وعد بها ترامب في حملته الانتخابية، تأتي الحرب الأوكرانية في مقدمة هذه الأزمات، حيث يترقب العالم كيفية تعامل الإدارة الجديدة معها.

ففي خطاب سابق لجي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي، وعد بحل الأزمة على ثلاث مراحل:

الأولى: جمع الرئيسين الروسي والأوكراني والقادة الأوروبيين للاتفاق على ضرورة إنهاء الحرب وإحلال السلام.

الثانية: احتفاظ روسيا بالأراضي الأوكرانية التي استولت عليها، مع نزع السلاح على الحدود بين الجانبين.

الثالثة: تعهد أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف الناتو مقابل ضمانات أمنية لمنع الغزو الروسي مجددًا.

لكن التقرير يشكك في هذه الخطة، ويؤكد أنها خلفت وراءها أسئلة حائرة دون إجابات قاطعة، بشأن فاعلية الضمانات المقدمة لضمان عدم الغزو الروسي مجددًا، وكيفية ضمان نزع السلاح، أو منع روسيا من تغيير نظام الحكم الأوكراني بالقوة… إلخ.

في ملفات أخرى يشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة ستعتمد سياسة “الضغط الأقصى” ضد كل من الصين، وإيران، وذلك لمنع الأولى من تحقيق التفوق الاقتصادي، والحد من البرنامج النووي للثانية، بما في ذلك الحد من قدراتها الصاروخية، كما تهدف السياسة الأميركية إلى ضرب التنظيمات المسلحة المرتبطة بإيران، والتي تمثل مراكز دفاعية متقدمة لها.

تركيا بين الفرص والمخاطر

يعول التقرير على ما أطلق عليه “القيادة الموجهة نحو الحل”، والتي تعني قدرة ترامب على تجاوز المؤسسات الأميركية الصلبة في طرح الحلول للأزمات، وبناء نموذج مقنع في العلاقات مع الحلفاء.

حيث يستشهد بالعلاقات المتميزة التي جمعت بين ترامب والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال فترة رئاسته الأولى، ويصفها بـ “تطابق الكيمياء”، لكن التقرير يحذر من هذه “الفردانية” لترامب، والتي قد تدفعه أحيانًا إلى اتخاذ مواقف حدية، تنطوي على مخاطر، لم تنجُ منها تركيا خلال رئاسته الأولى.

وفي محاولة لاستشراف الفرص المتاحة أمام تركيا، ففي مجال العلاقات الثنائية، يأمل التقرير أن يتم التغلب على القيود الأميركية الموضوعة ضد تركيا في مجال صناعة الدفاع، وإعادتها مرة أخرى إلى برنامج طائرات ” إف- 35″.

كما تأمل أنقرة في توفير أساس مهم مع واشنطن في مجال مكافحة الإرهاب، لكن التقرير يقول إن ذلك سيتوقف على استمرار الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة، لوحدات الحماية الكردية، وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في سوريا من عدمه، مع اعتراف التقرير بالدور الذي قد يلعبه الفريق المعاون لترامب في هذا الشأن، إضافة إلى أولويات السياسة الأميركية في الإقليم.

كما يؤكد التقرير أن نجاح ترامب في إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، سيخلق فرصًا أمام الشركات التركية للمساهمة في إعادة إعمار أوكرانيا، ويمنح شركات الصناعات الدفاعية الفرصة في إعادة بناء وترميم الجيش الأوكراني.

أما على المستوى الإستراتيجي، فإن وقف الحرب يعني إعادة الهدوء إلى البحر الأسود، وإزالة المخاطر التي كانت تتهدده بسبب الحرب.

فيما قلل التقرير من تداعيات توسع السيطرة الإقليمية لروسيا – حال توقف الحرب – بالسيطرة على شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، مرجعًا ذلك إلى الموقع الإستراتيجي لتركيا، وقدرتها البحرية كعضو فاعل في حلف الناتو.

أيضًا من خلال سياسات ترامب المتوقعة تجاه الصين، واستخدامه أدوات، مثل: التعريفات الجمركية، والعقوبات، وقيود نقل التكنولوجيا، تأمل تركيا أن تتيح لها هذه الإجراءات فرصًا جديدة في سلاسل التوريد العالمية، ومجال الطاقة.

لكن ثمة ملفات تنطوي سياسة ترامب المتوقعة تجاهها على فرص ومخاطر بالنسبة لتركيا، وفي مقدمتها الملف الإيراني.

إذ قد تتيح سياسة التشدد المتوقعة تجاه طهران، بعض الفرص الإقليمية المهمة لتركيا، مثل: دعم الحوار مع نظام بشار الأسد في سوريا، وتوسيع نطاق العمليات العسكرية ضد تنظيم حزب العمال “PKK” في جبال قنديل ومدينة السليمانية بالعراق، إضافة إلى تذليل العقبات إزاء إعادة فتح ممر زنغيزور الإستراتيجي الواصل بين أراضي أذربيجان، وذلك بالتفاهم مع روسيا.

لكن هذه السياسة “الترامبية” المرتقبة ضد إيران، قد تحمل لتركيا مخاطر في خمس قضايا رئيسية، وفق التقرير:

الأولى: صعود التطرف في المنطقة ما يؤثر على جهود تركيا في مقاومة الإرهاب.

الثانية: أن تقود هذه السياسات المتشددة إلى حرب إقليمية يتحول معها حزب العمال إلى وكيل عسكري لبعض الجهات الفاعلة.

الثالثة: امتلاك إيران السلاح النووي، ما يدفع إلى تسريع عملية التسليح النووي من خلال إنهاء سياسة الغموض النووي الإسرائيلية.

الرابعة: تعزيز السياسات الإسرائيلية التوسعية، وتشجيع الجهات المناهضة لتركيا، مثل إدارة قبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسط.

الخامسة: إبقاء القضية الفلسطينية دون حل، ما يسهم في زعزعة الاستقرار بالشرق الأوسط.

ختامًا:

فرغم ضعف الأداء المؤسسي المتوقع، خلال عهدة ترامب الرئاسية، نظرًا لانتهاجه أسلوبًا يميل إلى الفردية، فإنه ينبغي عدم التقليل من الخلفيات الفكرية لمعاونيه.

حيث كشفت اختياراته عن غلبة الأيديولوجية الصهيونية على تفكير أغلب هؤلاء المرشحين للمناصب القيادية. وبالإضافة إلى التصهين، فإن كثيرًا منهم يحمل مشاعر عدائية تجاه تركيا، وأردوغان بصفة خاصة.

فعلى سبيل المثال، نجد تولسي غابارد، المرشحة لرئاسة الإدارة الوطنية للاستخبارات الأميركية تقول في خطاب ألقته عام 2020: “تركيا تدعم إرهابيي تنظيم الدولة والقاعدة من وراء الكواليس منذ سنوات. وأردوغان ليس صديقنا. إنه أحد أخطر الدكتاتوريين في العالم، وليس من حق الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام مساعدة هذا الإسلامي المصاب بجنون العظمة”.

فسلبية المشاعر المتوقعة من كثير من الفريق المعاون، ستفرض تحديًا إضافيًا على أردوغان لتعظيم علاقته الشخصية مع ترامب وتحويلها إلى أداة لخلق الفرص وتقليل المخاطر، واستغلال ما أطلق عليها تقرير الاستخبارات “تطابق الكيمياء”.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version