عندما انتشرَ مقطع فيديو لاقتحام مسلّحين أستوديو بثّ مباشر في تلفزيون رسمي في الإكوادور منذ أسبوعَين – وأشهروا أسلحتَهم أمام كاميرات التصوير في نشرة الثانية ظهرًا – وقف الإكوادوريّون على حقيقة انهيار الدّولة، وعاشت البلاد حالةً من الصدمة والجزع، دفعت أهلها إلى مغادرة أماكن الدراسة والعمل، والتوجه نحو منازلِهم؛ احتماءً بها.

ورغم أنّ تلك الحادثةَ غير المسبوقة، تعكس حالة تمرّد ممنهجة من قبل العصابات، فإنَّ البعض أصبح يشكّك في إقدام المسلّحين على فعلِها وحدَهم، ويرى أنّها إما مفبركة أو مقصودة لنشر الرّعب بين المواطنين، وتمرير أجندة سياسيّة معيّنة، لا سيما بعد حدوث مستجدّات على صلة بالحادثة، مثيرة للتساؤل.

الضرب بيد من حديد

في البداية، وحين شككت بعض الحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي، في مصداقية ما حصل في التلفزيون؛ انطلاقًا من مقطع فيديو قصير غير الذي تم تداولُه، من داخل الأستوديو، قُوبلت هذه القراءة بوابل من الشتائم، والاتّهام بالسعي لتأليب الرأي ضد الحكومة في لحظة حسّاسة.

وهو ما أدّى إلى تراجع أصوات التّشكيك، أمام ارتفاع موجة مناشدة الحكومة لنشر الجيش في الشوارع والضرب بيد من حديد على كل مشتبه به، للقضاء على حالة الخوف التي استبدّت بالجميع.

ويتمثل مقطع الفيديو الذي نشره المشكّكون في تحدث المسلحين في الأستوديو مع بعض الإعلاميين بـ “هدوء” مُريب، وهم يقسمون أدوار إخراج المشهد على المباشر، بشكل يوضح كيفية تركيع المسلحين للموظفين، الذين بدوا لساعات، منهم من يبكي ومنهم من يرتعد؛ خوفًا من انطلاق أي رصاصة صوبه.

وكانت النقطة التي أثارت استغراب المشككين، هي الراحة التي بدت على وجوه بعض الإعلاميين، وهم يعلّمون المسلحين كيفية التعامل مع الكاميرا. إضافة إلى التساؤل عن كيفية اقتحام حوالي 30 مسلحًا مبنى تلفزيون حكومي، يقع في محيط محميّ بثلاثة معابر تفتيش، وعلى بعد 500 متر من مركز أمن، لاسيما أن الإكوادور تعيش حالة استنفار أمني منذ هروب “فيتو” أخطر سجين، قبل الحادثة بيومَين.

نزاع مسلح

بعد يوم من الحادثة، خرج رئيس البلاد ليعلن دخول البلاد في مرحلة “نزاع مسلح مع العصابات، وتصنيف عناصرها في خانة الإرهابيين”، وأصدر مرسومًا يمنح قوات الشرطة والجيش عدم الملاحقة القضائية في حال ارتكابهم أفعالًا جنائية ضد “الإرهابيين”، حسب وصف الرئيس.

وبالتوازي مع ذلك، رحّبت الحكومة باستعدادات الدول الصديقة لتقديم الدعم اللوجيستي والعسكري للإكوادور، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وإسرائيل، والاتحاد الأوروبي، والمملكة والمتحدة.

وفي السياق نفسه، قدّمت الحكومة الأسبوع الماضي، مقترحًا للبرلمان، يتعلق بإصلاحات اقتصادية، من أهمها رفع نسبة القيمة المضافة من 12% إلى 15%، بشكل دائم؛ من أجل توفير إيرادات للميزانية لتغطية كلفة “الحرب على الإرهاب”، ويبدو أنّ المقترح لن يحصل على أغلبية أصوات البرلمان.

لكن الحكومة مستمرة في إقناع الأحزاب، ووصل الأمر بالمتحدث باسم الرئاسة إلى التصريح بالتالي: “أقولها بكل ألم، نحن في مرحلة يبلغ فيها الوعي في الشارع الإكوادوري، مستوى أعلى من الوعي في البرلمان! الشعب يعلم ضرورة رفع القيمة المضافة ومستعد للتضحية، وبعض الأحزاب تعارض ذلك”.

ورغم أن المعارضة اشترطت على الحكومة، مقابل موافقتها، اعتمادَ رفع النسبة لمرحلة مؤقتة فقط، وطالبتها بالشفافية في الكشف عن إدارة هذه الإيرادات التي ستبلغ قرابة مليار و300 مليون دولار خلال السنة الجارية، فإنَّ الحكومة رفضت.

حضور أميركي

ومع وصول وفد أميركي من كبار المسؤولين إلى الإكوادور هذا الأسبوع – يتقدمهم السفير الأميركي للاجتماع بالرئيس دانييل نوبوا ووزراء الدفاع والداخلية والاقتصاد، لبحث تفاصيل التنسيق العسكري الأميركي الإكوادوري – استعادت رواية “التشكيك” في مصداقية حادثة اقتحام التلفزيون، عافيتَها، وعادت بعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي إلى طرح الموضوع.

ونبّه البعض إلى أنّ تصريح الرئيس في الأسبوع الأخير، بأن إنشاء برامج عسكرية بتنسيق دولي أمر ممكن، يمثل عنوانًا واضحًا لتحضير الرأي العام لاستيعاب فكرة فتح الباب للدعم الأميركي في المقام الأول.

يُضاف إلى ذلك، أن وزارة الدفاع أكدت أنها ستسمح للبعثات العسكرية الأميركية بمزاولة مهامها، في مساحات على ملك الوزارة، من باب “الاستئجار”، وليس التملُّك، وهو ما يُذكّر بالمشهد الكولومبي، الذي تستقرُّ فيه سبع قواعد عسكرية أميركية منذ سنة 2000، “لكنها لاترفع العلم الأميركي”، كما كان يبرر اليمين ذلك.

عقيدة الصدمة

على صعيد آخر، ومنذ إعلان الرئيس الحرب على العصابات، دأبت قوات الشرطة والجيش على إغراق شبكات نشرات الأخبار بمقاطع فيديو توثق إلقاءها القبض على عناصر بعض العصابات، والتنكيل بهم أمام الكاميرات ومصادرة أسلحة هنا وهناك، والكشف عن مخازن للمخدِّرات، وأخبار متفرقة تشفي غليل العامة من الشعب.

لكن فئة صغيرة من الرأي العام كانت تشكك في نجاعة الأداء الأمني، وتنبّه إلى أن تلك الحملات شعبوية محضة، وأن السلطات لو كانت قادرة فعلًا على دحر العصابات، لقبضت على “فيتو” الهارب” وحوالي 50 سجينًا آخرين هربوا بعده، ولتوجّهت إلى مصادرة المخدِّرات التي تُهرّب في شحنات الموز والسمك من الموانئ. لكن لا صوت يعلو فوق صوت “إلى الأمام سيدي الرئيس في حربك على الإرهابيين”.

عودة إلى المشككين في مصداقية الهجوم، أو فبركته أو تسهيل طريق المسلحين قصدًا، لحدوثه، يرى هؤلاء، أن كل ما يحدث يدخل في إطار “عقيدة الصدمة”، استنادًا إلى الكتاب الشهير؛ “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث” للمؤلفة الكندية ناعومي كلاين، والصادر سنة 2009.

رأسمالية الكوارث

ومن بين الأفكار التي يطرحها الكتاب، كيف يقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة ما، سواء كانت انقلابًا، أو هجومًا إرهابيًا، أو انهيارًا للسوق، أو حربًا، أو زلزالًا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية ترفضها الشعوب في الحالة الطبيعية، وفي حال وجود غازٍ أو عصابات داخلية مثلًا، يلتحم الشعب مع إرادة الحاكم الموجود، ويغفر له كل سياساته؛ من أجل مواجهة هذا العدوّ، وهو ما يحدث حاليًا في الإكوادور، حسب هؤلاء المشككين!

ما يثير الاستغراب، أنه وفي غمرة اليقظة الأمنية، وفي ظل حالة الطوارئ، شهدت الإكوادور جريمة تصفية من الحجم الثقيل، راح ضحيتها المدعي العام المكلف بالتحقيق في حادثة اقتحام التلفزيون، الأسبوع الماضي، بعد تعرضه إلى 20 طلقة نارية في وضح النهار، وعلى بعد 100 متر من مركز أمن.

حادثة دفعت وزير داخلية سابق إلى نشر تغريدة، قال فيها: في هذا البلد، إما أن تخرسَ، أو يُخرسوك، أو يقتلوك!

تطورات مثيرة، تمنح نظرية المشككين في عفوية ما حدث، الحقّ في طرح قراءتهم، بكل ثقة.

شاركها.
Exit mobile version