“يخشى النازحون الإسرائيليون العودة إلى ديارهم رغم الهدنة”

هذا ما نشرته وكالة “إيه إف بي” (AFP) عن ردة فعل النازحين الإسرائيليين في الساعات الأولى لوقف إطلاق النار.

ففي فجر الـ27 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بدأ سريان وقف إطلاق النار الهش على طرفي جبهة الحرب الشمالية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، والتي أشعلها نتنياهو في سبتمبر/أيلول بادعائه للإسرائيليين أنها ستنتهي بإعادة سكان الشمال إلى بيوتهم.

تلك الديار التي أصبحت خالية منذ بداية التصعيد على الجبهة الشمالية، تزامنا مع اندلاع حرب طوفان الأقصى، حيث أمطرت المقاومة اللبنانية مستوطنات الشمال بالصواريخ منذ اليوم الثاني للطوفان وحتى إعلان وقف إطلاق النار أواخر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم.

وفيما لا يزال النازحون الإسرائيليون متخوفين من العودة إلى المدن والكيبوتسات المخلاة، فإن وصف صحيفة التلغراف لـ”كيبوتس حانيتا” المُخلى منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 بقولها: “ما كان عادةً تجمعا مملوءا بالحياة، على حدود إسرائيل مع لبنان، أصبح اليوم، مثله مثل عشرات الكيبوتسات والقرى، مدينة أشباح”، لا يزال ينطبق عليه وعلى ما يقارب 105 تجمعات استيطانية أخليت منذ بداية الحرب بفعل صواريخ وهجمات المقاومة شمالا وجنوبا حسبما أوردت “تايمز أوف إسرائيل”.

وبحسب المصدر سابق الذكر، فإنه ومنذ بداية الحرب قد نزح ما يقارب 200 ألف إسرائيلي نصفهم نزحوا بأوامر من الحكومة. حيث أجلت الحكومة الإسرائيلية سكان 25 تجمعا تبعد لغاية 4 كيلومترات عن الحدود مع قطاع غزة وسكان 28 تجمعا تبعد لغاية 2 كيلومتر عن الحدود مع جنوب لبنان، والتزمت بتغطية تكاليف معيشة 120 ألفا من هؤلاء النازحين بشكل كامل منذ نزوحهم.

وصف “مدينة أشباح” وغيره من التوصيفات الدالة على هُجران الأماكن كان قد تصدر حديث وسائل الإعلام عن خواء “الكيبوتسات” و”مدن التطوير” المُخْلاة من سكانها شمالا وجنوبا في إسرائيل منذ اندلاع حرب طوفان الأقصى.

ووسط استمرار حالة النزوح التي يعيشها قرابة 200 ألف إسرائيلي منذ أكثر من عام من مدن مثل كريات شمونة ومسغاف عام وشلومي شمالا وسديروت وزيكيم ونير عام جنوبا، تتعالى أصوات لا تثق بالحكومة وقدرتها الفعلية على تحقيق رجوع آمنٍ لهم إلى مستوطنات الشمال أو الجنوب، وتتأكد قناعتهم بأن حكومتهم قد تخلَّت عنهم.

مستوطنون إسرائيليون في حالة انهيار (رويترز)

تقول جافيشي سوتو -وهي نازحة من كيبوتس حانيتا في الشمال- خلال مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز نهايات سبتمبر/أيلول الماضي: “أريد بشدة أن أصدق أن الحكومة تهتم بوضعنا، لكنني ببساطة غير قادرة على ذلك، لقد تخلوا عنا لمدة عام كامل”.

ذهابا إلى الجنوب، فإن الآراء أيضا كانت ضمن الإطار نفسه من اهتزاز الثقة بالحكومة والجيش في قدرتهما على توفير الأمان.

مطلع العام الجاري، أوردت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” مقابلة مع مايا أرغوف وهي ضابطة إعادة توطين في كيبوتس نير عوز المحاذي لقطاع غزة، جاء فيها أنه لا يوجد إجماع على العودة إلى نير عوز، وهو ما ينطبق على عدد من تجمعات استيطانية أخرى (كيبوتسات ومدن تطوير).

وتضيف في المقابلة ذاتها بأنه قد تم تدمير معظم نير عوز، وأن شعور الإسرائيليين بالوجود في الموطن وشعورهم بالأمان لم يستعده أفراد المجتمع بعد تخلي الدولة والحكومة عنهم، وهناك نقاشات جادة حول احتمالية عدم العودة.

بالنظر إلى التجمعات الإسرائيلية المُخلاة من حيث تخطيطها الحضري، فإننا سنجد أن أغلبها كانت من الكيبوتسات ومُدن التطوير، وهما نمطان حضريان ارتبطا بشكل وثيق بحالة الصراع الطبقي في المجتمع الإسرائيلي وتحولاتها. ويعود كلاهما في جذور نشأتهما التاريخية إلى محاولة تحقيق حالة من اليوتوبيا الصهيونية التي يتركز جوهرها شأنها شأن أي يوتوبيا على مفهوم “العدالة الاجتماعية”، غير أنها ما لبثت أن اصطدمت بوقائع تناقض هذا المفهوم منذ السنوات الأولى من عمر الدولة وصولا إلى ذروة الاصطدام في العقد الثامن من عمر الدولة، مما أظهر بشكلٍ واضح تصدعات هذه اليوتوبيا.

ومن الجدير بالذكر أن المزاج الانتخابي في مدن التطوير يتجه عادة نحو نزعات يمينية فيما يتجه في الكيبوتسات نحو الليبرالية اليسارية.

اليوتوبيا الواهمة:

نهايات القرن الـ18 زار ثيودور هرتزل فلسطين المحتلة لعدة أيام، وعاد منها مشبعا بحلم الصهيونية. وفي عام 1902 وضع خلاصة خياله حول دولة اليهود في روايته “الوطن القديم الجديد”، والتي تشكل أحد أهم نصوص اليوتوبيا المؤسسة للمشروع الصهيوني. ورغم أن هرتزل كان يعيش في ذلك الوقت في عالم تتصاعد فيه الصراعات الإثنية والطبقية، فإن روايته تلك كانت تفتقر إلى خيالٍ كافٍ لاستدخال هذه الصراعات والتعامل معها بالمثالية التي رسمها هرتزل لدولة اليهود، شأنها شأن بقية القضايا التي طرحها هرتزل في الرواية.

كانت الرواية تجسد بناء الدولة، ابتداء من لبنتها الأولى “الكيبوتس” الذي اكتسب أهمية كبرى في تلك الفترة بوصفه وحدة البناء الأولى للهوية الوطنية الإسرائيلية، وصولا إلى قيام الدولة، دولة اليوتوبيا الآمنة والسريعة والتي تضاهي الدول الأوروبية حداثة وتقدما. إلى جانب كل تلك التوصيفات للمظاهر المادية لتطور الدولة، ركز هرتزل على توصيف قيم التجمعات اليهودية الناشئة والتي ستصبح لاحقا الدولة على أنها تجمعات تحتكم إلى منظومة أخلاقية سامية، قائمة على الحرية في الاختيار والعدل والمساواة بين الجميع والتعاون والمؤازرة بين أفرادها.

هرتزل في يافا Theodor Herzl in Jaffa THEODOR HERZL WITH THE ZIONIST DELEGATION IN JAFFA IN 1898. https://x.com/amzeineddine/status/1727950882979922032
هرتزل في يافا (مواقع التواصل الاجتماعي)

في الرواية، يصف هرتزل حيفا عام 1923 بقوله: “تم تشييد مدينة رائعة بجانب البحر الأبيض المتوسط، أظهرَت السدودُ الحجريةُ الرائعةُ الميناءَ على ما كان عليه، أكثر الموانئ أمانا وملاءمة في شرق البحر الأبيض المتوسط. كانت هناك سفن من كل الأشكال والأحجام ترفع أعلام جميع الدول والأمم”.

وفي اقتباس آخر من نفس الرواية يقول: “المدينة نفسها بدت أوروبية تماما، قد يتخيل المرء نفسه بسهولة في بعض الموانئ الإيطالية. فاللون الأزرق اللامع للسماء والبحر يذكرانه بشاطئ الريفيرا لكن المباني كانت أكثر نظافة وحداثة”.

100عام فصلت بين خيال هرتزل المحلق في يوتوبيا الدولة وبين اهتزاز الدولة من فرط إيمانها المطلق بيوتوبيا أدواتها في التحكم والسيطرة، إذ كان الكيبوتس -اللبنة الأولى للمشروع الوطني الصهيوني- أول من تلقى الضربة في حرب طوفان الأقصى التي أحدثت هزة كبرى في الثقة بين الدولة وسكانها.

إن تصدُّع الكيبوتس إلى هذا الحد لم يكن وليد ساعته، بل لعل طوفان الأقصى جاء ليتمم تاريخا طويلا من تصدعات الكيبوتسات الذي ابتدأ منذ العقد الأول من تأسيس الدولة.

تكشف ظاهرة النازحين الإسرائيليين عن هوَّة سحيقة بين اليوتوبيا الصهيونية كركيزة أساسية لبناء مشاريع هذه الحركة الاستعمارية، وبين ما يعيشه هؤلاء النازحون في دولتهم من أزمات اجتماعية واقتصادية مرتبطة بإثنيتهم، ليس منذ نزوحهم القريب فحسب بل منذ تأسيس الدولة. وتشكل هذه المفارقة واحدةً من ركائز التحليل التي تستند إليها المقالة التي تسعى لقراءة ظاهرة النازحين الإسرائيليين والتي تعتبر ظاهرة النزوح الأولى في تاريخ إسرائيل.

وإن بدا للوهلة الأولى أن هذه الظاهرة تشكل عبئا اقتصاديا يضاف إلى أعباء الحرب الاقتصادية الأخرى الواقعة على الحكومة الإسرائيلية، فإن النظر إلى هذه القضية ضمن السياقات التاريخية والاجتماعية ذات الصلة بها، يجعل من الممكن القول بأنها ظاهرة سيكون لها ارتداداتها على المجتمع الإسرائيلي كما على الدولة، خصوصا إذا ما وُضِعَت عوامل البنية الحضرية والإثنية والتوزيع الديمغرافي لهؤلاء النازحين تحت مجهر التحليل وهو ما تسعى هذه المقالة لتتبعه وفهم أبعاده.

الكيبوتسات وبلدات التطوير: التاريخ والجغرافيا.

مع بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين أنتجت اليوتوبيا الكيبوتس بوصفه شبكة من المجتمعات الزراعية القائمة على العمل المشترك والملكية الجماعية وبتخطيط حضري يقدم بديلا للمدينة الحديثة ذات القيم الرأسمالية. وظهر الكيبوتس حينها مُسْتَلهَما من القيم الاشتراكية لـِ “إسحاق تابينكن” (Yitzhak Tabenkin)، المهاجر من روسيا إلى فلسطين عام 1912، بالإضافة لتأثره بالنموذج الحضري الذي طرحه المخطط الحضري الإنجليزي (Ebenezer Howard) لما يعرف باسم (Howard’s Garden Cities). توزعت الكيبوتسات على أطراف المدن الساحلية في فلسطين كونها أراضي جيدة للزراعة، وسكنها أوائل المهاجرين الصهاينة القادمين من روسيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى. وكان قد بلغ عدد الكيبوتسات 150 قبيل قيام الدولة عام 1948. وفي السنوات الأولى من عمر الدولة تمتعت الكيبوتسات بقوة وفاعلية في المجتمع الجديد، لكن هذه الحالة بدأت شيئا فشيئا بالتراجع في ظل عدة عوامل ابتداءً من فشل الكيبوتس في إدماج المهاجرين من أصول شرقية في بنيته المجتمعية، مرورا بالصراع السياسي بين حزب مبام المدعوم من اتحادات الكيبوتسات وحزب مباي الحاكم بقيادة بن غوريون والذي اتخذ من المهاجرين ذوي الأصول الشرقية مادةً له، وصولا إلى الانقلاب السياسي في السبعينيات والذي كان لصالح الليكود الذي يرى في الكيبوتس تابعا لخصمه التاريخي: حزب العمال.

مستوطنات إسرائيليات يحرثن الأراضي الزراعية (غيتي)

من تلك النقطة فصاعدا، سيتقاسم الكيبوتس مع مدن التطوير العلاقة المأزومة مع الحكومة تهميشا وإهمالا، لكنهما سيكونان على طرفي نقيض في طريقة النظر للشكل الذي يجب أن تكون عليه دولة إسرائيل، ما بين إسرائيل اليهودية الدينية بالنسبة لمدن التطوير وإسرائيل الديمقراطية الليبرالية بالنسبة للكيبوتس.

في العقد الأول من عمر دولة الاحتلال بدأت موجات الهجرة تتدفق إلى فلسطين المحتلة، ليتجاوز عدد اليهود فيها نحو مليوني نسمة، من إثنيات ومناطق جغرافية مختلفة. وفي نفس الوقت كانت إسرائيل قد أصبحت تسيطر على ما يقارب 80% من مساحة أرض فلسطين.

مطلع الخمسينيات تحت إشراف المعماري أرييل شارون أطلقت أول “خطة وطنية لتطوير الأراضي” مستهدفةً توطين اليهود المنحدرين من أصول شرقية (المزراحيم) فيما سيعرف لاحقا باسم “مدن التطوير” والتي يقارب عددها 28 مدينة على الأطراف المحيطة بالكيبوتسات والمدن الاقتصادية.

وهنا، ظهر التصدع الأول ليوتوبيا الكيبوتس حين فشل في تجسيد مفهوم “العدالة الاجتماعية” ولم يتمكن من استيعاب الفوارق الإثنية ودمج اليهود في مجتمع واحد، لتظل هذه المشكلة واحدة من المشاكل الملازمة للمجتمع الإسرائيلي حتى اليوم.

وبتتبع تاريخ الكيبوتس الذي تلاشت روحه الطلائعية منذ بدايات عمر الدولة التي أصبحت بديلا له في خدمات الأمن ودمج المهاجرين والتنمية، سنجد أنه على محور الزمن يمر بأزمات متلاحقة تؤثر على بُناه الاقتصادية والاجتماعية، منذ السبعينيات ولغاية اليوم.

خلال الثمانينيات شهدت إسرائيل أزمة اقتصادية عصفت بكل مكوناتها بسبب سياسات الحكومة آنذاك والتي لم تمد يد الإنقاذ للكيبوتس بل تركته لمصيره، فتحول خلال العقد التالي نحو الخصخصة وتملك وسائل الإنتاج والاستيلاء الفردي غير القانوني على المساحات العامة، تبعه تحول في هياكل الحكم وأساليب توزيع السلع والخدمات مما دفع نحو حالة من الهجرة الشابة خارج الكيبوتس.

أدت أزمة الكيبوتس، وظهور “مدن التطوير” إلى مرحلة ما يعرف بـ”ما بعد الصهيونية” بتوصيف عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ.

تحول سكان الكيبوتسات من جيل زد إلى الثقافة الاستهلاكية (غيتي)

في ظل هذه الأزمات، تحول الكيبوتس من يوتوبيا ثورية إلى أحياء برجوازية للطبقة الوسطى، تعود أصول معظم سكانه إلى شرق أوروبا والاتحاد السوفياتي، في حين أصبحت مدن التطوير ظلِّا أو ساحة خلفية للكيبوتس، بمستوىً طبقي أقل، تقوم لتأدية أدوار خدمية وتجارية حسبما كانت الخطط لكن ما اتضح لاحقا أن هذه الأدوار لم تكن فاعلة، ولوحظ تفضيل سكان الكيبوتس التوجه نحو مراكز المدن الكبرى لدى احتياجهم لأي شؤون خدمية.

ورغم أزمة الكيبوتس فإن سكانه ظلوا محتفظين إلى حد ما برأس مالهم الاجتماعي بوصفهم امتدادا للطلائعيين المؤسسين، وهم بالمجمل يتمتعون بأوضاع طبقية أفضل من اليهود الشرقيين منذ قدومهم مهاجرين من الاتحاد السوفياتي، ويمتلكون هوية اجتماعية جامعة بصفتهم روسيين في الغالب، ولديهم دوما خيار العودة إلى روسيا، عكس الشرقيين الذين لن يكون من السهل عليهم العودة للمجتمعات التي تنحدر أصولهم منها كاليمن والعراق والمغرب مثلا لا حصرا.

عشية إعلان الدولة، أُعلِنَت “الفضاءات الحضرية” (Urban Spaces) على أنها مورد عامٌ من موارد الدولة، وعليه فإنه يتوجب إدارتها بما يحقق مصالح الدولة في البقاء والتمدد وإحكام السيطرة. واستنادا إلى أن الكيبوتس نابع من اليوتوبيا القائمة على مفهوم “العدالة الاجتماعية” فإن هذا المفهوم بالضرورة يرتبط ارتباطا وثيقا بما يمكن وصفه بـ”السياسات المكانية” (Spatial Policy).

اليهودي الشرقي كدرع بشري

أرادت إسرائيل أن تنشر مستوطنيها على امتداد المساحة الجغرافية الواقعة تحت سيطرتها، لا أن يبقوا متركزين في المدن الرئيسية مثل حيفا وتل أبيب والقدس. وفي نفس الوقت، أرادت أن تبقي على حالة من الفصل الإثني بأقل كلفة ممكنة حين اتضح لها أن نموذج الكيبوتس فشل في احتواء المهاجرين اليهود شرقيي الأصول ضمن بنيته الاجتماعية. في نفس الوقت، فإن إسرائيل بوصفها دولة استعمارية، سعت لتوزيع مستوطنيها ديمغرافيا بطريقة تجعل منهم حاجزا بشريا لصد أي هجمة قد تتعرض لها.

بالنظر إلى الخريطة سنجد أن مدن التطوير تتركز على شكل سواتر ديمغرافية تفصل بين المركز والتجمعات الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) إضافة لتلك التي في الشمال، والتي تفصل حيفا وشمال المركز عن مناطق جنوب لبنان وشمال الأردن. ففي حال وقوع هجمات ضد إسرائيل ستتلقى هذه المدن الضربة أولا بحكم قربها الجغرافي من المناطق التي يتركز فيها العمل المقاوم، أو احتمالات نشوئه. من تلك المدن مثلا: بيت شيمش التي تسكنها غالبية من اليهود المنحدرين من أصول مغربية، والواقعة غرب مدينة القدس، والتي تجاور حزام القرى الغربية لمدينة بيت لحم. وبالنظر إلى الخريطة الحضرية لإسرائيل، يمكننا القول بأن الساتر الديمغرافي الأول الذي يفصل بين أي كتلة ديمغرافية فلسطينية أو عربية والمدن الاقتصادية الكبرى داخل إسرائيل هو إما كيبوتس -خصم الحكومة التاريخي منذ السبعينيات أو مدينة تطوير- حيث الثقل الديمغرافي للشرقيين.

هذا تماما ما شهدناه منذ اندلاع الحرب، فمثلا لا حصرا أخليت “سديروت” جنوبا و”كريات شمونة” شمالا، وكلاهما أُعلِنَ عند تأسيسه في منتصف القرن الماضي بصفته ضمن ما يعرف بـ”بلدات تطوير” (Development towns)، ومثلهما عدد من التجمعات المُخلاة إضافةً إلى قُرَىً وكيبوتسات في محيطهما الجغرافي نفسه.

واللافت أن الحكومة الإسرائيلية نقلت بعضا من هؤلاء النازحين من الفنادق إلى مجمعات سكنية في “بلدات تطوير” أخرى مثل كريات غات، الواقعة جنوبي المركز على بُعد 40 كيلومترا من قطاع غزة. ويظهر أنه ورغم حالة الحرب فإن الحكومة تريد الإبقاء على هذه الحالة من توزيع السكان بناء على أصولهم العرقية.

لاعتبارات طبقية وعرقية داخل المجتمع الإسرائيلي، أبقت الحكومة على اليهود من أصول شرقية في مدن التطوير، وقد عانى هؤلاء السكان من تهميش متواصل من الحكومة وظروف اقتصادية واجتماعية وتعليمية أقل درجة من اليهود الأشكناز الذين يسكنون مناطق المركز والمدن الكبرى ويتمتعون بظروف أفضل من اليهود الشرقيين.

وبالرجوع إلى آليات توطين هؤلاء المهاجرين سنجد أنهم تعرضوا للعنف والإجبار من قبل الحكومة للسكن في هذه المناطق ضمن سياسة عرفت باسم “من السفينة إلى مدن التطوير” ويمكن الاستشهاد هنا بحادثة توطين اليهود المغاربة في ديمونا وسط صحراء النقب رغم وعود الوكالة اليهودية لهم بأنهم سيذهبون إلى القدس.

فجوة لا تردم

تشير بعض الأبحاث الاجتماعية الإسرائيلية إلى أن الحكومات الإسرائيلية حاولت من خلال خطط اقتصادية تقليص الفجوة بين مجتمعات بلدات التطوير ومدن المركز، غير أن استجابة طبقتي المجتمع الإسرائيلي (الشرقيون – المزراحيم، والغربيون – الأشكناز) لم ينتج عنها إلا توسيع الفجوة، خصوصا مع بقاء مدن التطوير رغم هذه الخطط الأكثر فقرا وبطالةً، رغم المظاهر الاستهلاكية فيها كالمراكز التجارية وبعض شركات التكنولوجيا الكبرى، والتي أظهرت -بشكل واضح جدا- الفجوة بين القدرة الشرائية لليهودي الشرقي والهوس الاستهلاكي الذي يحكم إسرائيل عامة.

تاريخيا، فإن اليهود الشرقيين -ذوي الأصول المغربية تحديدا- خاضوا حركات احتجاجية ضد الحكومة بسبب التمييز العرقي والتهميش الذي عانوه، الأولى كانت ما يعرف بـِ”أحداث وادي الصليب” عام 1959 والتي اندلعت على إثر إطلاق شرطي أشكنازي النار على شاب يهودي من أصول مغربية من سكان حي وادي الصليب في مدينة حيفا، والثانية كانت ما يعرف بـِ”الفهود السود” والتي انطلقت من الأحياء الاستيطانية المهمشة في القدس عام 1972.

لم تحقق الحركتان الاحتجاجيتان فرقا واضحا في ظروف معيشة الشرقيين، ولم يغير وصول الليكود إلى سدة الحكم من واقع الفوارق الطبقية بين الشرقيين والأشكناز رغم أن دعايته الانتخابية في تلك الفترة اتسمت بخطابٍ أثار عاطفة اليهود الشرقيين الذين وضعوا ثقلهم الانتخابي لصالح الليكود الذي خيَّب آمالهم وتوقعاتهم في خلق تغيير حقيقي في ظروف حياتهم منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.

وهكذا، فإنه يظهر أن اليوتوبيا الصهيونية، قبل أن تضربها حرب طوفان الأقصى، كانت قد وقعت في مأزق ممتد مع تاريخ المشروع الصهيوني يتمثل في الفجوة بين مثالية العدالة الاجتماعية، وإشكاليات الطبقية في حيزين حضريين متقاربين جغرافيا إلى حد كبير.

وبالنظر إلى تاريخ الذاكرة الجمعية لليهود الشرقيين في إسرائيل، والمشبعة بسياسات القهر ابتداء من “من السفينة إلى مدن التطوير” وفرض الإقامة عليهم فيما يعرف بمخيمات انتقالية في الخمسينيات قبيل توطينهم الإجباري، مرورا بتاريخهم مع الثورات ضد التهميش كثورة وادي الصليب في حيفا وحركة الفهود السود في القدس، وصولا إلى نزوحهم منذ أكثر من عام دون وجود أفق واضح لعودتهم وفي ظل إحساسهم بأن الحكومة قد تخلت عنهم.
هنا يُشرع لنا التساؤل: كيف ستأخذ أزمة النزوح موقعها في الذاكرة الجمعية لهؤلاء اليهود، في ظل احتمالية مشرعة الأبواب أن يستلهموا من تلك الذاكرة غضبا جديدا ضد الحكومة الحالية في ظل تخليها عنهم وعدم توفر بدائل سهلة كتلك التي لدى الأشكناز الذين يملكون خيار العودة لبلدانهم الأصلية والاندماج في مجتمعاتها، في حين لا يملك مثلا يهودي يمني أو مغربي نازح الآن خيارا كهذا، فضلا عن أن الهوية الثقافية لهؤلاء اليهود داخل إسرائيل فُرِضَ عليها التشظي، وليس بإمكانها الاندماج مع الهوية الثقافية للمجتمعات العربية التي ينحدرون منها.

الخوف من العودة

مع هشاشة احتمالات توقف الحرب بشكل تام، تتعالى أصوات مترددة حول العودة إلى مدن التطوير والكيبوتسات من النازحين الإسرائيليين سواء الذي أبلغهم الجيش بإمكانية عودتهم أو أولئك الذين لا يعرفون بعد أفقا زمنيا لعودتهم.

فمثلا لا حصرا، يورد موقع “تايمز أوف إسرائيل” في تقرير يسلط الضوء على عودة بعض النازحين إلى سديروت أن نشطاء قاموا بتعليق لوحات كُتب عليها: “لن نعود حتى نشعر أننا في أمان” إلى جوار لوحات كانت تحمل عبارات ترحب بمن عاد من النازحين.

أظهرت عدة تقارير في وسائل الإعلام الإسرائيلية أن النازحين الذين يعودون هم في الغالب من أسر لا تضم أطفالا، في حين تجنب أولئك النازحون الذين لديهم أطفال العودة لتلك المناطق مؤكدين أنهم يبحثون عن بدائل أكثر أمانا يستطيعون فيها الشعور بالاطمئنان على أطفالهم. هذا عدا -طبعا- عن صعوبة عودة الأسر ذات الأطفال في ظل الدمار الذي أصاب البنى التحتية للمدن المحاذية لجبهتي الحرب.

وإذا ما كانت بواكير محاولات الحكومة لإعادة النازحين تحمل معها عزوف الأسر التي لديها أطفال عن العودة، وكون أكثرية العائدين هم من كبار السن، فإن هذا يفتح الباب للتساؤل حول مدى قوة وحيوية مجتمعات مدن التطوير والكيبوتسات المتأثرة بالحرب في المرحلة المقبلة. كما يحيل إلى التساؤل حول الخطط التي قد تتبعها الحكومة لتخطي هذه المشكلة الإستراتيجية بالنسبة لها، كون حرب طوفان الأقصى قد ضربت هذا الساتر الديمغرافي في مقتل.

من جانب آخر، فإن هذا الواقع لليهود الشرقيين النازحين حاليا يجعل مزاجهم الانتخابي أمرا مثيرا للاهتمام، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن نتائج الانتخابات في مدن التطوير التي نزح سكانها تظهر دوما رجوح كفة اليمين ممثلا بحزب الليكود الذي يترأسه نتنياهو. وإن كانت فرضية غضب هؤلاء الشرقيين من الحكومة ستدفعهم نحو معاقبة الليكود من خلال صندوق الانتخابات ممكنة، فإن مراقبة خطابات نتنياهو منذ بداية الحرب تظهر جليا أن الرجل رغم ما لحق الشرقيين في عهده من ويلات خلال عام ونيف من الحرب، لا يزال قادرا على استمالتهم لصفه وصف حلفائه الأكثر تطرفا -أحزاب الصهيونية الدينية.

الشرقيون واحتمالات تغيير المعادلة:

إن اليهودي النازح هو -أيضا- اليهودي الناخب لحزب الليكود، وهو الذي يصرح للإعلام بأنه لن يعود بأمر من الحكومة التي يقودها الليكود دون أن يتحقق له النصر المطلق.

في كريات شمونة، إحدى معاقل نتنياهو السياسية التي ينحاز له ناخبوها، تقول المحامية ياميت مالول ياناي في مقابلة مع الغارديان: “لا يريد سكان كريات شمونة أن يكونوا درعًا بشريًا لبقية البلاد. يجب أن نحصل على صفقة حقيقية، نصر حقيقي وإلا فلن نعود. لا أعتقد أننا قريبون من نهاية هذه الحرب”.

 

رغم هذا الغضب الواضح، فإن نتنياهو لا يزال قادرا على استمالة الشرقيين واجتذاب ثقلهم الانتخابي لصالحه على حساب غرمائه الليبراليين.

يعود هذا في جذوره إلى إشكالية عميقة في تعاطي الأحزاب الليبرالية مع قضايا محورية بالنسبة للشرقيين كالدين والهوية اليهودية. تتعامل الأحزاب الليبرالية مع إسرائيل على أساس أنها يجب أن تكون دولة تحاكي نموذج الدول الغربية، وبالتالي، فهي الدولة الديمقراطية بالنسبة لهم، لكن الشرقيين يرون أن الأهم هو إسرائيل اليهودية الدينية لا الديمقراطية العلمانية.

وانطلاقا من أهمية “إسرائيل اليهودية” بالنسبة للشرقيين يغازل نتنياهو مزاجهم العام من خلال استحضار مقولات دينية عقائدية تتناسب مع الحالة الراهنة، مما يجعلهم ينحازون له باعتبار أنه لم ينسَ معنى أن “تكون يهوديا” خلافا لليبراليين الأشكناز الذين ينظرون إلى الدين بعين الاشمئزاز علاوة على اعتبارهم أن الشرقيين هم ذوو وعي زائف كونهم يناهضون الخطاب الليبرالي.

بالنسبة لعالم الاجتماع الإسرائيلي نسيم مزراحي فإن الخطاب الليبرالي داخل المجتمع الإسرائيلي يشكل تهديدا للهوية اليهودية للدولة، وبالتالي، فهو خطاب مرفوض بالنسبة للشرقيين. وهذا الرفض ينطوي برأيه على مقاومة للمجتمعات التي تنادي بهذا الخطاب، بكلمات أخرى، هذا الرفض يعني مقاومة لنموذج المجتمع الغربي الذي يراه الليبراليون الإسرائيليون نموذجا قدوةً لهم.

أي أن استمرار الشرقيين في انتخاب نتنياهو نابع في الأساس من انحيازهم لشكل الدولة اليهودية الدينية.

ورغم أن نتنياهو ينحدر من أصول أشكنازية، فإنه يستطيع دوما استمالة مزاج الناخب الشرقي، وهذا بتقدير نسيم مزراحي يعود إلى كون الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي ليس مبنيا بشكل خالص على ثنائية (شرقي-يميني) مقابل (أشكنازي-ليبرالي). يرى عالم الاجتماع والرئيس السابق لقسم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع في جامعة تل أبيب أن الأهم بالنسبة لليهود الشرقيين هو قوة الدولة، ويختارون هذا الأمر على حساب أي أمور أخرى كتلك ذات العلاقة بالاقتصاد والظروف المعيشية وسواها.

نتنياهو (يمين) مع بتسلئيل سموتريتش (رويترز )

سحر الليكود

يُنْظَر إلى انحياز الشرقيين لحزب الليكود على أنه نابع من رمزية تاريخية كونه الحزب الأول الذي سمح لدى وصوله سدة الحكم للشرقيين بالشعور بهويتهم السياسية وتمكينهم من الوصول إلى مراكز صنع القرار، حيث كانت البداية بوصول عدد منهم إلى عضوية الكنيست وتولي بعضهم حقائب وزارية، لكن وحتى وقت قريب كان هذا الوصول محدودا ومحسومَ النصيب بأن يكون أقلية وسط غالبية أشكنازية، ومحكوما بألا ينتج عنه وصولهم لمواقع متقدمة كرئاسة الوزراء مثلا.

وإن كانت الأزمة الحالية ستلقي بظلالها على نتائج الانتخابات، فإنها ستكون على شكل انحياز أكثر لليمين الديني المتطرف الذي يطوِّع المنظومة السياسية لخدمة أيديولوجيته الدينية القائمة بالأساس على تفوق اليهودي ومحو العرب، الجيران المهددين دوما للتجمعات التي يسكنها الشرقيون اليهود والذين مسوا أيضا بقوة الدولة.

 

في خطاب ألقاه نتنياهو في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد كانت الدولة دخلت أزمة التعامل مع قضية النازحين، قال: “وقد أمرنا الله عز وجل بعدم نسيان ما ارتكبه عماليق بحقنا: “اذكر ما فعله بك عماليق” ونحن نتذكر ونحارب.

“اذكر ما فعله بك عماليق” هي جملة توراتية وردت في سفر التثنية، وقد كررها نتنياهو في رسالة مسجلة للجنود في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 واستخدمها سابقا في 2010 في ذكرى المحرقة مشيرا إلى ظهور عماليق جدد: أي الفلسطينيين، بحسب ما أورد الباحث في شؤون الدين اليهودي والأيديولوجيا الصهيونية، نبيه بشير، في بحث متخصص له حول خطاب “العماليق” في أعقاب معركة طوفان الأقصى.

بالنظر إلى استحضار نتنياهو اقتباسا ذا جوهر ديني مثل هذا في لحظات حاسمة في بداية الحرب الأطول التي تخوضها إسرائيل، يمكننا أن نستشرف ما الذي يريد أن يقوله لأولئك الإسرائيليين الذين يتعاملون مع الدين بمركزية في حياتهم. إنه يحاول بطريقة ما أن يمنحهم موقعا تكون فيه معاناتهم وتحملهم لها أمرا ذا قيمة في سبيل الأمة اليهودية، مُغفِلا أي أمرٍ آخر قد يفكر به أي نازح يشعر أنه يدفع ضريبة الحرب بدلا من اليهودي الأشكنازي في ضواحي تل أبيب المرفّهة.

ورغم هذه المفارقة، فإن النظر إلى مراكز الثقل في استقرار الائتلاف الحكومي الحالي يقول شيئا عن التحول الذي تظهر آثاره على مستوى الطبقات في إسرائيل، والذي من شأنه أن يدفع المجتمع نحو الحالة الأكثر تطرفا مُسْقِطَا أقنعة الديمقراطية ومظهرا الوجه الحقيقي بأكمله لدولة إسرائيل: دولة دينية يهودية.

شروق الشرق وغروب الغرب

يعيش مواليد إسرائيل بغض النظر عن أصولهم حالة من تلاشي الفجوة العرقية بين الشرقيين والغربيين، وهو ما ينعكس في اختياراتهم ذات الصلة بالهوية. ويمكن على ضوئه استشراف ما قد يحمله المزاج الانتخابي الأشكنازي للأجيال الجديدة في إسرائيل، والتي ترى تحولا في نماذج القوة والهيمنة للشرقيين في مراكز السياسة والثقافة والنقابات.

في مقابلة مطولة أجرتها صحيفة هآرتس مع عالم الاجتماع الإسرائيلي “سيلنقر” (Guy Abutbul-Selinger)

المنحدر من أصول مغربية، ينطلق من ادعاء مفاده أن أولئك الشرقيين الذين يعيشون في مدن التطوير استطاعوا تكوين هوية قوية وأصيلة ودافئة وسعيدة استطاعت أن تصل إلى مناطق خارج بلدات التطوير، على عكس هوية الأشكناز، التي يُنظر إليها على أساس أنها غريبة الأطوار وباردة ومنفصلة. وأن هذه الهوية تشكل هوية إسرائيل البديلة والمعتدة بذاتها. ويعتقد سيلنقر أن هذه الهوية الشرقية آخذة بالتمدد في كافة مناحي الحياة، خلافا للهوية الأشكنازية التي لا تزال تحصر نفسها في الأكاديميا والقضاء.

يصف سيلنقر اليهودي الشرقي “المزراحي” في المقابلة ذاتها مع هآرتس بأنه هو القائد في الحزب، الشخص المُتَحرر، والمسيطر. وهو بذلك يكون قدوة مبهرة للأجيال الشابة بما فيها تلك المنحدرة من أصول أشكنازية.

ويعتقد أن اختيار الشرقيين التصويت لحزب الليكود والصهيونية الدينية في الانتخابات نابع من رؤية للعالم بأنه مجموعات تفصل بينها حدود وتسلسلات هرمية تمنحها الحقوق والامتيازات ولا ينبغي لها أن تختفي حتى لا يخسر الفرد في المجموعة حقوقه، ولكن هذه المجموعات تساند بعضها في الكوارث!.

كان نتنياهو هو السياسي الأشكنازي الأقدر على مغازلة المتطرفين (الجزيرة)

وانطلاقا من هذه الحدود التي تفصل بين البشر، وترفع مجموعة على حساب أخرى في الحقوق، فإن الشرقيين يصوتون للأكثر يمينيةً، أي الذي يؤكد دوما على أنهم بوصفهم يهودا أعلى من الفلسطينيين والعرب ويمنحهم أدوات ممارسة المحو لأولئك العرب الذين يهددون حقوقهم ووجودهم.

استنادا إلى ما تقدَّم، وبالنظر إلى إدارة نتنياهو للمشهد السياسي منذ ما قبل الحرب ولغاية الآن، فإنه وإن بدا متخليا عن هؤلاء الشرقيين النازحين، فإنه يعمد إلى تكثيف مغازلته لليمين المحافظ المنحاز لتفوق اليهودي على من سواه وهي فكرة توراتية تشكل جوهر معتقدات اليهود الشرقيين، في حين يتجاهل اليسار الذي نسي معنى أن تكون يهوديا حسب تعبير سيلنقر.

تفاؤل مفرط؟

بين الحين والآخر، تعلن جهات إسرائيلية يمينية عن مؤتمرات وخطط استيطانية في مناطق شمال غزة، وتجدد دعوتها للعودة والاستيطان في غزة، مما يجعل الحديث عن تصدعات في المجتمع الإسرائيلي من وجهة نظر البعض تفاؤلا مفرطا لا دعائم له على الأرض.

ولكن، بالرجوع إلى اليوتوبيا المؤسسة أولا، وآراء المستوطنين النازحين المنشورة على وسائل الإعلام، الإسرائيلية منها والعالمية ثانيا، نجد أن فكرة العودة التي أشعلت المخيال اليوتوبي الصهيوني، قد أصبحت فكرة مشروطة -على الأقل إن لم تكن ملغاةً أصلا- بالنسبة للنازحين من مدن التطوير والكيبوتسات نظرا لشعورهم بفقدان الأمان أولا، وكونهم دروعا بشرية تحمي بقية طبقات المجتمع ثانيا.

والحديث عن العودة هنا يتركز على مدن وهيئات محلية أسسها وخطط لها إسرائيليون، لا عن عودة أو استيطان في غزة التي تعرفها إسرائيل من فوق الأرض، لكنها فيما يبدو لا تكاد تعرف النزر اليسير عنها من تحت الأرض.

فإذا كان المستوطن الإسرائيلي يعارض العودة إلى مدينة أسسها هو لأنه لا يشعر بالأمان، فمن أين وكيف سيحقق لنفسه أمانا واستقرارا فوق أرضٍ لا يعرف عن باطنها شيئا؟ أم أنه سيكون من التعقل أن يعيش طوال حياته متأهبا من أي جهة سيتلقى الضربة؟

وإن كان هذا المستوطن النازح الآن سيحافظ على اختيار الليكود في الانتخابات حفاظا على شكل الدولة أن تظل يهودية دينية، ويرفض العودة حيث كان قبل الطوفان، فماذا بوسع الحكومة أن تفعل؟

تبقى الأسئلة مفتوحةً فيما إذا ستدمج الحكومة أقطاب المجتمع المتنافرة داخل الحيز الحضري، مما يعني احتمالية تحول مناطق مدن التطوير إلى مساحات خالية أم أنها ستستل سيف القمع والإجبار وتكرر سيناريو التوطين الإجباري؟ أم ستكون في مواجهة احتمالات أكثر صعوبة في محاولة استقطاب مهاجرين مثلا إلى تلك المناطق في حين أن الهجرة العكسية تتصاعد؟

يظهر أن هذه الأزمة، ستدفع نحو المزيد من التطرف داخل إسرائيل انحيازا لفكرتي “قوة الدولة” و”الدولة اليهودية الدينية” مما يعني أن صداما وشيكا سيندلع بين أقطاب المجتمع الإسرائيلي لا على مساحات الأرض، بل على شكل الدولة.

هذا الشكل الذي كان مهددا قبيل الحرب، حينما كان الإسرائيليون يتظاهرون في الشوارع ضد تحالف نتنياهو وبن غفير وخطة الإصلاحات القضائية، فكيف سيكون الحال إذا ما انتهت الحرب، وآلت مزيد من مراكز القوة ومفاصل السلطة إلى يد الصهيونية الدينية؟.

 

شاركها.
Exit mobile version