غزة- كان الجوع أكبر من قدرة ملاك شيخ العيد على ثني والدتها “ماريا” عن الذهاب إلى مركز لتوزيع المساعدات تابع لمؤسسة غزة الإنسانية غربي مدينة رفح، الخاضعة كليا لسيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي، في أقصى جنوب قطاع غزة.

حتى منتصف ليلة ذلك اليوم، الذي تقول ملاك (21 عاما)، إنه سيبقى محفورا في ذاكرتها إلى الأبد، ظلت مع إخوتها وأخواتها الستة، يتوسلون والدتهم ألا تذهب إلى مركز توزيع المساعدات الأميركية “لا نريد أن نفقدك كما فقدنا أبانا، ونخشى العيش أيتاما في مواجهة هذه الحياة القاسية” قالوا لها.

وملاك هي كبرى أشقائها وجُلهم أطفال، دفعتهم الخشية من فقد والدتهم ماريا (40 عاما) كما فقدوا والدهم محمد (41 عاما) في 4 سبتمبر/أيلول الماضي، إلى تقبل الجوع والصبر عليه، ورفض توجهها إلى مراكز المساعدات التي تحصد يوميا أرواح عشرات المُجوَّعين الباحثين عن “لقمة عيش”.

شهيدة المصيدة

تقول ملاك للجزيرة نت، “لا نزال نتجرَّعُ مرارة رحيل والدي الذي خاطر بنفسه وذهب إلى المنزل برفح لجلب أغطية وأمتعة لنا، وعاد جثة هامدة بعد استهدافه بصاروخ طائرة مسيرة مباشرة”.

نامت ملاك وإخوتها ليلة الخميس الماضي، دون أن يتلقوا وعدا صريحا من أمهم بعدم الذهاب إلى مركز توزيع المساعدات، الذي كان قد خصص ذلك اليوم للنساء فقط.

وقبيل شروق الشمس، تركت ماريا أبناءها السبعة نياما في خيمة ينزحون بها في “مدينة أصداء” بمنطقة المواصي غربي خان يونس جنوب القطاع، وانطلقت نحو مركز لتوزيع المساعدات، المدعومة أميركيا وإسرائيليا، والمرفوضة على نطاق واسع من هيئات محلية ودولية.

كان الأمل يحدو ماريا بأن تعود لهم بما يسد جوعهم، بعد نحو 10 أيام -تقول ملاك- إنهم لم يتذوقوا فيها الخبز المفقود أصلا، بينما أسعار الطحين في الأسواق باهظة جدا ولا تقوى عليه هذه الأسرة، التي ليس لها مصدر دخل، وتعيش كأغلبية الغزيين حياة بائسة جراء تداعيات الحرب والحصار والتجويع.

لكنّ ماريا لم تكن تعلم أنها لن تعود بكيس مساعدات تحمله على كتفيها، وأنها ستعود هي نفسها جثة هامدة في كيس يحمله المشيعون، جراء عيار ناري أصابها بمقتل في رقبتها، لتترك وراءها أطفالا يتامى يواجهون أزمات متلاحقة.

ودأبت هيئات دولية، أبرزها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) على وصف مراكز توزيع المساعدات الأميركية بـ “مصايد موت” تفتقر لأبسط معايير العمل الإنساني، وتوظفها إسرائيل من أجل “هندسة التجويع”، واستخدامه ورقةَ مساومة بالضغط على حياة زهاء مليونين و300 ألف نسمة.

وتوثِّق هيئات محلية رسمية في غزة استشهاد 1157 مواطنا، وجرح أكثر من 7750، إضافة إلى نحو 45 مفقودا، منذ افتتاح مراكز مؤسسة غزة الإنسانية أواخر مايو/أيار الماضي.

“هذه مراكز لتوزيع الموت، وليست مراكز إنسانية لتوزيع الطعام”، تقول ملاك المكلومة بفقد والديها، وتحث الناس على عدم التوجه إليها، والمطالبة بإغلاقها.

صدمة الفقد

ومن غير مقدمات أو مقومات وجدت ملاك نفسها كشقيقة كبرى في مقام الأم بالنسبة لأشقائها وشقيقاتها، أصغرهم سليمان (8 أعوام)، ومنهم قصي (19 عاما) الذي أصيب في ساقه جراء غارة جوية إسرائيلية تركت أثرها على صحته وقدرته على الحركة، وهو “يحتاج لإجراء عملية جراحية لا تتوافر إمكاناتها بمستشفيات غزة”، التي تواجه حالة انهيار توشك أن تخرجها عن الخدمة بسبب الحصار المشدد ومنع إدخال الوقود والإمدادات الطبية.

ويفرض الاحتلال منذ 2 مارس/آذار الماضي حصارا مشددا، ويغلق المعابر، ويمنع إدخال الإمدادات الطبية والإنسانية للقطاع، الذي تعصف به حالة تجويع حادة، أودت بحياة 147 فلسطينيا، منهم 88 طفلا.

وتقول ملاك، وهي طالبة جامعية تأثَّرت دراستها بفعل الحرب وتدميرها المؤسسات التعليمية، “هذه ليست حياة، أين العالم الذي ينتفض لحقوق الحيوانات من مليوني إنسان في غزة يواجهون الموت والقتل بالصواريخ والقنابل والتجويع؟”.

وتعيش ملاك تحت تأثير صدمة عنيفة بفقدها والدها ومن ثم والدتها بعد 10 أشهر، وتكابد لإخفاء ضعفها وانكسارها، وتبدو عيناها كجمرتين من شدة البكاء والتفكير الذي يحرمها النوم قلقا على نفسها وإخوتها مما ستحمله لهم الأيام بعدما غدوا أيتاما.

معهد الأمل للأيتام: عدد الأيتام تضاعف بعد الحرب (معهد الأمل)

“ضحايا صامتون”

وحتى مطلع الشهر الجاري سجلت هيئات مختصة نحو 46 ألف يتيم، خلفتهم الحرب منذ اندلاعها بعد “طوفان الأقصى” 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023.

ويقول المدير التنفيذي لمعهد الأمل للأيتام الدكتور نضال جرادة للجزيرة نت، إن من أيتام الحرب نحو 2500 فقدوا الوالدين، بينما الباقي فقَد أحدهما، وأكثريتهم فقدوا الأب.

وتأسس معهد الأمل للأيتام عام 1976، ويتفرَّد بخدمات نوعية يقدمها للأيتام، كالإيواء، والكفالات والمساعدات النقدية، والتعليم الأساسي، والتشبيك مع مؤسسات صحية تجري عمليات جراحية صغرى ومتوسطة مجانا، وخدمات مرتبطة بالدعم النفسي والاجتماعي.

خلفت الحرب نحو 46 ألف يتيم، فقدوا كلا الوالدين أو أحدهما-رائد موسى-خان يونس-الجزيرة نت
الحرب خلَّفت نحو 46 ألف يتيم فقد كل واحد منهم والديه أو أحدهما (الجزيرة)

لكن المعهد – بحسب جرادة- لا يمتلك المقدرات والإمكانات حاليا لاستيعاب العدد الضخم من أيتام الحرب، ويقول “قبل الحرب كان لدينا 14 ألف يتيم يستفيدون من خدماتنا المتنوعة، وقد تضاعف عدد الأيتام على نحو خطِر وغير مسبوق خلال الحرب”.

ويصف جرادة أيتام الحرب بـ “ضحايا صامتين”، ويعيشون مأساة خطِرة، ويتجدد لديهم الألم في كل لحظة، وهم يتعرضون لمشاهد يومية تذكرهم بفقدهم الكبير للأب أو الأم أو كليهما، وهناك حالات لأيتام أشد مأساوية وهم الذين كانوا شهودا على الجريمة، ونجوا من الموت الذي خطف آباءهم وأمهاتهم.

وفي حالة ملاك وأخوتها، يقول جرادة: إن الجوع سيبقى يذكرهم بوالدتهم التي خاطرت بنفسها وذهبت إلى مراكز يدرك من يتوجه إليها أنه قد لا يعود كما ذهب على قدميه.

وتترك مثل هذه الحالات، حسب جرادة، أثارا جسدية ونفسية عميقة لدى الأطفال قد تدوم معهم فترات زمنية طويلة، وتستدعي أحيانا تدخلا علاجيا نفسيا مكثفا.

شاركها.
Exit mobile version